“حرب البسوس” هي واحدة من أشهر وأهم السير العربية في مرحلة ما قبل الإسلام وتتناول حرباً دامية دارت رحاها نحو أربعين عاماً كاملة بين قبيلتي بكر وتغلب رغم ما كان بين القبيلتين من صلات قرابة ودم.
في الأغلب الأعم تقدم هذه السيرة باعتبارها سيرة “الزير سالم” نسبة الى المهلهل بن ربيعه الملقب بهذا اللقب٫ فهو وفق رواة السيرة والمؤرخين والمهتمين بالادب العربي وحتى المبدعين الذي حولوا هذه السيرة إلى مادة لأعمال درامية في المسرح والتلفاز بطل السيرة وفارسها٫ فهو الفارس الذي لا يشق له غبار٫ وهو الذي ترك حياة السٌكر والمجون وملاحقة الفتيات واستبدلها بحياة كان ميدانها ساحات المعارك لكي يثأر لأخيه كليب بن ربيعه الذي قٌتل غدراً وغيله على يد جساس بن مٌره.
ولعل ما يدعم هذه الرؤية هي أشعار المهلهل التي باتت من عيون الشعر العربي والتي كان يرددها وهو على صهوة جواده يقاتل قبيلة بكر التي حملها بالكامل وزر قتل أخيه.
رؤية أخرى
إلا انني حين أقرأ ما كُتب عن السيرة اخرج بنتيجة مختلفة عما سبق٫ إذ لا أرى ان بطل السيرة الحقيقي هو المهلهل وإنما اتوقف عند شخصية أخرى لا تقل -في رايي- أهمية عنها وهو الحارث بن عباد.
https://www.youtube.com/watch?v=n3Gyeu7Qfls
والحارث٫ وفقاً للسيرة هو احد فرسان بكر وشاعرها وحكيمها وقد ابلى خير بلاء في حرب قومه مع قبائل اليمن إذ زاد عنهم ودافع عن قبيلته وقبائل القيسية -شمال الجزيرة العربية- بشكل عام.
وفي حين كانت أغلب القبائل العربية في تلك الفترة تؤمن أن “الرجل بقومه” أي أن الفرد ينبغي ان ينسب إلى قبيلة وان الفرد لا فكاك له من هذا الانتماء وان علي القبيله ككل أن تتحمل نتائج أفعال الأفراد المنتمين إليها٫ رفض الحارث هذا المنطق وأبى ان تتحمل قبيلته ككل -أي بكر- وزر ما فعله واحد منها وهو جساس بن مرة حين قتل كليب.
كان قرار الحارث هو اعتزال الحرب برمتها ولما كان هذا يعني بالضرورة مغادرته لحمى قبيلته فقد قرر أن يعتصم بأسرته وبعقله ويُنشئ لنفسه سكناً بعيداً عن كلتيْ القبيلتين المتحاربتين.
واثبتت الايام والسنون صحة منطق الحارث خاصة مع إصرار المهلهل على أن يوغل في دماء البكريين انتقاماً لكليب٫ ومع استمرار الحرب وارتفاع كلفتها البشرية٫ لجأت بكر الى الحارث وحكمته لكي يسعى للتوسط عند المهلهل لكي يوقفها.
استجاب الحارث لطلب قومه واوفد ولده “جبير” -بجير في بعض الروايات الأخرى- إلى المهلهل طلباً لحقن الدماء الا ان المهلهل الذي بات كتلة من الكراهية لم ير في جبير سوى بكرياً اخر وقتله بدم بارد وبشكل ينافي كافة تقاليد العرب.
هنا خرج الحارث من عزلته طلباً لدم ولده المهدر وبرر ذلك بقوله “قد تجنبت وائلاً كي يفيقوا****فأبت تغلب علي اعتزالي”.
كان دخول الحارث ميدان المعركة بكل خبرته الحربية كفيلاً بتغيير دفتها لصالح قبيلة بكر خاصه بعد ان تمكن من أسر المهلهل في احدى المعارك إلا أنه عجز عن أن يثار لولده فعاد مرة أخرى إلى عزلته.
في ظل الإنقسام
اتذكر الحارث وقراره بأن “يعتصم بعقله” على حد تعبيره والذي كان تطبيقاً لمبدا أقره أحد رموز الإسلام فيما بعد وهو الإمام علي بن أبي طالب حين قال لرجل سأله “استفت قلبك وإن أفتوك” وهو مبدأ ايضاً طبقه عدد من الصحابة الكرام حين عصفت الفتنة بدولة الخلافة الفتية وانقسمت الأمة٫ حيث قرر عدد منهم مثل الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص الذي خرج الى البادية معتزلاً الفتنة وقال لمن أتاه يطلب منه الانحياز الى فريق دون آخر “لا، إلا أن تُعطُوني سيفًا له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكافر فاقتله، و بالمؤمن فأكف عنه”.
https://www.youtube.com/watch?v=mOvq3eh2zn0
لعل الاعتصام بالعقل على طريقة الحارث والصحابه الكرام هو خير ما يفعله الفرد في ظل جو من الانقسام غير المسبوق في امتنا٫ بين من يريدون لنا ان نكون “دواعش” وبين من يريدون لنا ان نكون “خواجات”٫ بين من يمنحون انفسهم حقاً اختص به الخالق تعالى ذاته وهو حق حساب الخلق ويعينون انفسهم اوصياء على الناس بل ويستحلون لانفسهم ان يقولوا “هذا الى جهنم وذاك الى الجنة” وبين من يرفضون ثقافة الأمة وتراثها برمته ولا يرون للامه سبيلاً سوى التبعية التامة والخضوع التام للآخر المغاير لها ثقافة وتراثاً وفكراً.
في أجواء كهذه لا سبيل للفرد سوى أن يعتصم بعقله كما فعل الحارث وان يصر على فرديته والا يساق كالقطيع إلى ما يكره ويبغض ويرفض لمجرد ان قومه سلكوا طريقاً بعينه٫ ان يتمسك بالحق٬ الحق الذي قال عنه الإمام علي إن الإنسان يعرف الرجال به.