فن

أحمد فؤاد درويش … سينما تنتصر للإنسان وللوطن

في عام 1969 كان الشاب الصغير “أحمد فؤاد درويش ” على موعد مع إبداع سينمائي استثنائي حين قدم رائعته “وجوه من القدس ” ذلك الفيلم التسجيلي القصير الذي قدم لنا موهبة شديدة التوهج في عالم السينما المصرية.

كانت السينما التسجيلية قبل ” وجوه من القدس ” تعتمد على إيقاعات تقليدية وتستند بشكل كبير إلى تقارير يتولى الراوي قراءتها وأحيانا تتضمن قدرا قليلا من الحوارات بين شخصيات الفيلم.

عرفت مصر السينما التسجيلية قبل أن يقدم محمد كريم فيلم “زينب ” أول فيلم روائي مصري عام 1935 ويعتبر النقاد أن رواد مسيرة السينما التسجيلية المصرية هم “سعد نديم “و” صلاح التهامي ” و”عبد القادر التلمساني ” ويقترب منهم من حيث الأهمية والتأثير المخرج الكبير شادي عبد السلام ويحتل “أحمد فؤاد درويش مكانة كبيرة ومميزة فى تاريخ السينما التسجيلية

 الميلاد والنشأة

في الخامس عشر من فبراير عام 1947 كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت اوزارها   وكانت مصر تناضل من أجل الحرية والاستقلال وينقسم المصريون بين دعم الحلفاء ومؤازرة المحور لا حبا في هذا أو عشقا لذاك لكن بحثا عن نقطة ضوء تخلصهم من كابوس ظل  جاثما على صدورهم لعقود طويلة.

في ذلك اليوم ولد ” المخرج الكبير أحمد فؤاد درويش “المثقف الكبير وأحد رواد السينما التسجيلية في مصر.

و في عام 1957 كان الحزن الأكبر في حياة الطفل الصغير وهو فى العاشرة  من عمره حين استشهد والده متأثرا بانفجار لغم أثناء عمله كمهندس بترول بمدينة راس سدر.

بعد حصول “درويش ” على الثانوية العامة عام 1963 أصر المخرج الراحل صلاح أبو سيف –  الذي كانت تربطه صلة قرابة بالأسرة – أن يلتحق الشاب درويش بأكاديمية الفنون بينما تمسكت الأم بأن يلتحق ابنها بكلية التجارة فقرر الشاب الصغير أن يتمسك بحلمه بدراسة السينما وإرضاء والدته وجمع بين دراسة “العلوم السياسية بكلية التجارة ودراسة السينما في أكاديمية الفنون وتمكن من التفوق في كليهما حيث حصل على بكالوريوس أكاديمية الفنون عام 1967 بتقدير جيد جدا ضمن دفعة استثنائية في تاريخ الأكاديمية ضمت كلا من داود عبد السيد وعلى بدرخان وخيري بشارة وانسي ابو سيف ومحمود الجندي .

التحق “درويش ” فور تخرجه للعمل في المكتب الفني للمؤسسة العامة للسينما أثناء رئاسة نجيب محفوظ لها كما عمل بإدارة تخطيط الإنتاج بشركة القاهرة للإنتاج السينمائي أثناء تولى المفكر الاقتصادي “عبد الرازق حسن ” لها . وشارك درويش في التخطيط لإنتاج عدد من روائع السينما المصرية من بينها “الزوجة الثانية ” و” شيء من الخوف ” و”الأرض ” و “المومياء ” وغيرها من أهم اعمال تلك المرحلة.

 سينما درويش

كان للدعم الكبير الذي تلقاه درويش من الراحل الكبير “ثروت عكاشة ” أثر في مسيرة المخرج الكبير خاصة مرحلة البدايات التي شهدت معوقات عديدة ومطبات كثيرة كانت قادرة على إنهاء مشروعه الفني لكن صلابة درويش وايمانه الشديد بموهبته وتمسكه بقناعاته الفكرية المنحازة دوما لكل قيم التقدم والاستنارة كانت دافعا وداعما له لاستكمال مسيرته الفنية والفكرية

وقد تعرض عمله الأول والاستثنائي ” وجوه من القدس ” للعديد من العقبات من بينها تعرض نسخته الأولى “نيجاتيف ” للحرق المتعمد نتيجة خلاف حاد بينه وبين الكاتب “عبد الحميد جودة السحار ” إلا أن هذا الحدث رقم قسوته على مخرج شاب قد زاده صلابة وإصرارا على استكمال مسيرته الفنية التي تمتد لأكثر من نصف قرن قدم خلالها عشرات الأعمال في السينما الروائية والتسجيلية والكتابات النقدية والأدبية والفكرية.

ويمكن اعتبار فيلم “وجوه من القدس ” الذى قدمه درويش و لم يتجاوز عمره 22 عاما بمثابة نقلة فنيه في مسار السينما التسجيلية المصرية ومدته 14 دقيقة ويتناول النكبة العربية خلال عام 1948 حيث اعتمد خلاله على لوحات فنيه لكل من “مصطفى الحلاج ” وتمام الأكحل ” وإسماعيل شموط وجميعهم من فناني فلسطين ورصد الفيلم المحنة العربية وضياع أرض فلسطين دون كلمة واحدة مكتفيا باللوحات المعبرة والموسيقى الرائعة المصاحبة للوحات من ابداع الموسيقار جميل عبد العزيز

أعمال ومعارك

يمكننا أن نصف مشوار “درويش الفني ” بأنه رحلة الإبداع العظيم والمعارك الكبرى ..  ابداع لم يتوقف فى مجالات متعددة رغم ان السينما كانت ومازالت عشقه الأكبر إلا انه حقق نجاحات كبيرة في الإنتاج الفني والموسيقى التصويرية وكتابة السيناريو والكتابة الأدبية والنقد والتحليل السينمائي

في عام 1977 قرر درويش شراء رواية الأديب يوسف إدريس “العسكري الأسود ” ليقدمها في عمل سينمائي من إنتاجه وظل يطرق أبواب الرقابة لأكثر من 17 عاما لكى تتم إجازة العمل ويروى درويش قائلا “حتى فوجئت يوما باستدعائي بمكتب وزير الداخلية الاسبق، الراحل زكي بدر، ووجدته ثائرا بسبب رغبتي في تحويل الرواية لفيلم، وأصر على تغيير الاسم، وهو ما تم فعلا وطرح الفيلم باسم “حلاوة روح”، وأصر ايضا على إضافة شخصية أخري، معادلة لشخصية اللواء همت، التي قام بها الفنان الراحل كمال الشناوي، وهو ما تم فعلا ” ويخرج العمل للنورعام 1990  بعد معارك طويلة مع الرقابة .

وكان قد قدم في عام 1980 أول أعماله الروائية “إعدام طالب ثانوي ” بطولة نور الشريف ومحمود عبد العزيز ومحي اسماعيل.

https://www.youtube.com/watch?v=3GX9XKSQOfE

السينما التسجيلية

يعتبر “درويش ” واحدا من أكثر المخرجين انتاجا في السينما التسجيلية المصرية حيث قدم ما يقرب من 80 فيلما خلال مشواره الفني من بينها 30 فيلما من عيون السينما التسجيلية تناول خلالها كل جوانب الحياة المصرية القديمة ويعتبر أهم تسجيلي تناول بعمق شديد ومهارة وحرفية تلك الجوانب المتعددة فى حياة الفراعنة ومن بين تلك الأفلام ( الحياة اليومية – الوزير تي ) و( مراكب خوفو ) و( الصيد فى مصر الفرعونية ) و( الماشطة – مهنة تصفيف الشعر عند الفراعنة ) و( فنون العمارة الفرعونية ) وغيرها من الأعمال التى رصدت بدقة كل تفاصيل حياة المصري القديم .

كما اهتم بشكل واضح بالفن التشكيلي وقدم عددا من الأفلام منها ” إمراه وديك وسمكه ” عن أعمال حامد ندا و”اسطوره عبد الهادي ” عن عبد الهادي الجزار و” من الإسكندرية إلى النوبة ” عن أعمال لطفي الطنبولى وغيرها الكثير

ومن أهم أعمال درويش فيلم “كرنفال ” الذي يتناول قضايا العنف والعنصرية فى بلدان فلسطين وفيتنام وجنوب افريقيا والذي تم انتاجه عام 1975 وظل ممنوعا حتى عام 1981

وله عدد من الأعمال التي تناولت الفنون الإسلامية والعمارة فى مصر كما قدم واحدا من أهم أعمال التحليل السياسي في عام 2018 “ماذا لو عاش عبد الناصر والذي استعرض خلاله بالتحليل السياسي رؤي عدد من ممثلي التيارات السياسية خلال 52 دقيقة هي عمر الفيلم  . كما تنوعت اهتمامات سينما درويش بين الاقتصاد والآثار والصناعة الوطنية وقناة السويس.

 وتعدد انتاج درويش ليمتد  للرواية حيث قدم للمكتبة العربية روايات ” آنى ” و” دمائي ليست زرقاء ” وفى السينما قدم “السينما التسجيلية فى مصر ” عام 2009 و” روائع الأفلام الوثائقية فى العالم ” عام 2009 وله تحت الطبع عدد الأخر من الكتب النقدية.

رغم حصول درويش على العديد من الجوائز وتم تكريمه فى عدد من المحافل الدولية إلا أنه حتى الآن وبعد مسيرة فنيه حافله بالعطاء لأكثر من نصف قرن لم يحصل على التقدير الذي يليق به داخل مصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock