رؤى

تاريخ مصر: اتصال لا انقطاع

لم يكن من المدهش أن يُعرب قسم غير قليل من المصريين عن مشاعر  الزهو والبهجة عقب مشاهدة موكب المومياوات الملكية الذي شق طريقه عبر شوارع القاهرة الى متحف الحضارة٫ إذ كان هذا الموكب على قدر كبير من التنظيم وكان الجانب الفني متمثلاً في موسيقى الفنان هشام نزيه و قيادة المايسترو نادر عباسي للأوركسترا و الأصوات الشجية  سواء الاوبرالية  منها أو غيرها مبهراً للغايه.

إلا أن المدهش حقا   هو ما حدث بعد ذلك  من  سرعة انقسام كثير من المصريين حول تلك الاحتفالية٫ ومحاولة كل فريق تكريس هذا الحدث وفقاً لايدولوجيته الخاصة٫ سواء المحتفلين الذين اعتبروا ان هذا الحدث يؤكد قولهم ب”فرعونية” الوطن واعتبارها تلك الحقبة دون غيرها المعبرة بحق عن تاريخ البلاد وتجاهل ما بعدها باعتباره دخيلاً على مصر٫ أو الفريق المضاد الذي أعرب عن رفضه للحدث برمته موكداً كما قال “داعية” شهير يلقبه البعض ب”ابن الازهر المدلل” أن هوية مصر “عربية اسلامية” فحسب ولا شأن لنا كمصريين بما سبق دخول الإسلام الى بلادنا.

لا تختزلوا هويتنا

في رأيي الشخصي أن كلا الطرفين في هذا الجدل يبدوان كالعميان في تلك القصة التراثية الشهيرة عن العميان الستة الذين تحسس كل منهم قسماً من جسد فيل ضخم وبدا كل ضرير يصف الفيل وفقاً لما يتحسسه متصوراً ان هذا القسم هو الفيل لا غير.

أن هوية مصر في رأيي أكبر بكثير من ان تختزل او تختصر في حقبه زمنية بعينها دون غيرها٫

وإذا بدأنا بالقائلين ب”الفرعونية” فخطأ هذا الفريق يبدأ عندي من اللفظ ذاته٫ إذ لا يوجد عرق او شعب يسمى بال”فرعوني” وحتى ما اذا سلم الفرد جدلاً بان هذا اللفظ هو لقب لملوك تربعوا على عرش البلاد في تاريخها السحيق٫ – وهو ايضاً زعم غير صحيح من الناحية التاريخية لأسباب أشرت إليها في مقال سابق٫- فإن فكرة تقديم هذه المرحلة من تاريخ مصر باعتبارها الفترة التي كان فيها المصريون “مصريون أنقياء” لا تشوبهم شائبة الاختلاط بأية شعوب أخرى ليست فكرة عنصرية فحسب كفكرة نقاء العرق الآري بل إنها فكرة تجافي الحقائق التاريخية.

فكما يوضح المؤرخ الإنجليزي توبي ويلكنسون في كتابه “قيام وانهيار مصر القديمة” لم تكن مصر القديمة بالدولة المعزولة عما حولها وإنما كانت بوتقة صهر لشعوب وأعراق عدة٫ وربما يكفي في هذا الصدد التذكير بأن مصر القديمة بداية من تحريرها على يد الملك أحمس٫ اهم ملوك الأسرة الثامنة عشر توسعت خارج حدودها وكونت أول إمبراطورية عرفها التاريخ والتي امتدت من اعالى الفرات الى شلال النيل الرابع وفي هذه الامبراطوريه تلاقت شعوب عديدة واختلطت  بالمصريين والعكس صحيح ولا أدل على ذلك من تأكيد علماء المصريات أن والد الملكة تي، يويا، كان من أصل أجنبي بسبب ملامح موميائه ووجود العديد من الطرق المختلفة لكتابة اسمه، مما قد يعني أنه كان في الأصل اسماً غير مصري.

الا ان هذا لم يمنع تي من أن تكون زوجة لملك هو أمنحتب الثالث واماً لواحد من أهم ملوك مصر القديمة وهو اخناتون.

غلاف كتاب قيام وانهيار مصر القديمة
غلاف كتاب قيام وانهيار مصر القديمة

 دير الراهب .. ومقام الولي

وحين أتى القديس مرقص الى مصر مبشراً بعقيدة السيد المسيح لم يكن من الصعب على المصري البسيط أن يعتنق هذه العقيدة الجديدة بسبب إيمانه المسبق بالوحدانية وشعوره أن الثالوث المقدس في المسيحية يماثل الثالوث المقدس في مصر القديمة (اوزير- ايزيس- حُور).

حول المصري مفتاح الحياة المصري القديم إلى صليب ذي شكل مميز وأخذ من ايقونات مصر القديمة هالات الشمس فاضفاها على القديسين واهدى العالم أجمع فكرة الرهبنة وهي وإن بدت في ظاهرها فكرة دينية تهدف للتعبد للخالق بعيداً عن الدنيا وزخرفها إلا أنها في جوهرها كانت شكلاً من أشكال المقاومة السلبية للاحتلال الروماني للبلاد.

  أما القائلون بأن “مصر إسلامية فقط”  فينسون او يتناسون ان الاسلام وان جبَّ ما قبله من ذنوب فإنه لا يجُبُ ما سبق عليه من حضارات٫ والخليفة العادل عُمر بن الخطاب حين اتم الله عليه فتح مصر لم يهدم أثراً مصرياً واحداً بل أقر الأقباط على كنائسهم وأبقاهم في عملهم في الدواوين لادراكه لمدى خبرتهم فيها.

مفتاح الحياة
مفتاح الحياة

ولم يتنكر الفقه المصري -اذا صح التعبير- للحضارات السابقة لدخول الإسلام إلى مصر٫ فالامام المصري الليث بن سعد الذي قيل عنه انه فاق إمام المدينة مالك بن أنس في علمه٫ كان يعتبر بناء الكنائس من “عمارة الأرض” ويروي عنه المؤرخ المصري الكِندي : “ثم أذن موسى بن عيسى للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها علي بن سليمان فبُنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وقالا هو من عمارة البلاد واحتجا أن عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم” .

وكما أقام المصري ديراً للرهبان في قلب الجبل٫ أقام بنفس الطريقة في البنيان مقاماً للولي المسلم٫ وللمرء أن يتأمل أوجه التشابه بين مقام أبي الحسن الشاذلي ودير الأنبا بولا وكلاهما في منطقة ساحل البحر الأحمر.

ويصل الامتداد الحضاري إلى ذروته في مسجد أبي الحجاج في الأقصر٫ حيث أعمدة المسجد اطلال معبد مصري قديم ويضم بين جنباته ضريح سيدة قبطية تدعى “تريزا” و يتوسطه مقام ولي مسلم هو أبو الحجاج.

مسجد أبو الحجاج
مسجد أبو الحجاج

أن أي قائل بوجود انقطاع بين الفترات المتعاقبة في تاريخ مصر هو في أغلب الظن شخص غير عارف بتاريخ المحروسة٫ فتاريخ مصر كما وصفه الكاتب الراحل ميلاد حنا في كتابه “الاعمدة السبعة للشخصية المصرية” هو “رقائق يعلو بعضها بعضاً” وإن لكاتب هذه السطور أن يضيف٫ هي حبات مسبحة  تفضي كل منها الى ما بعدها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock