تعلمت من صلاح عيسى المؤرخ والكاتب ، أسلوبه كرائد لمدرسة الكتابات التي جعلت من المادية التاريخية منهجًا لفك مغاليق التاريخ المصري الحديث، وعندما أحاول معرفة سر ثورة 19 الذي حدد هوية مصر فمن سرد الحقائق يوماً بيوم ،هو الشيخ المؤرخ الأزهري الفذ مولانا عبد الوهاب النجار وقراءة التاريخ عنده لا يكون بالتعامل مع النصوص بوصفها مقاطع نثرية منقطعة الصلة بسياقاتها، في تجاهل لما تلقيه من ظلال على الواقع التاريخي الذي خرجت منه، بل العكس تمامًا، فقد سرد وقائع منسوبة لشخصيات فاعلة وذات دور مهم..
في كتابه الأيام الحمراء ، تستغرب من العنوان الذي كسر به الشيخ الجليل تابو بعض المفردات التي كانت محرمة خصوصا ً لو كانت عند عالم أزهري ذائع الصيت مثل النجار ، ثم فهم وعاصر وشارك في رصد المسألة الثورية التي تتعلق بأفكار بالطبقة الإجتماعية وتصوراتها ومصالحها؛ طبقة تكونت من ممثليها مجموعة -الوفد المصري- مثَّلت المصريين جميعًا أمام المحتل، ثم كان لها الإمساك بزمام انتفاضة شعبية واسعة انتهت إلى مآلات معينة نعرفها جميعًا.
صاغ سرديات الثورة بتفرد وكسر التابو الأزهري
تفرد الشيخ كثيراً حدد الأزمات والمشكلات الكبيرة التي تعانيها كتابة التاريخ في مصر، فإن الكتابات التاريخية المصرية تتميز بالوفرة، فيما يحظى التاريخ الوطني بجل الاهتمام. وإن ذهب المرء إلى قوائم الإصدارات عن هذا التاريخ لن يجد موضوعات بكل هذة الدقة كما فعل النجار فقد خاض بحر في فوران ثورة عارمة ، حتي صار مؤرخ ثورة 1919، كُتب عنها ثم صا غ سرديات كبرى تفرعت منها سرديات صغيرة، وهي التي استقرت في وعي الأجيال، ليس من القراء فحسب، بل أيضًا ممن تصدوا لكتابة التاريخ.
فضيحة فتحي جنرال الجيش المصري
كتب عبد الوهاب النجار (في يوميات 15 مارس1919) على أن الفريق إبراهيم فتحي، وهو أحد الضباط الكبار في الجيش المصري كان من أنصار التهدئة فيما يتعلق بالعلاقات مع الإنجليز، لكن أبرز زعماء الوفد بعد نفي سعد زغلول وهو علي شعراوي باشا صارحه بأن الرأي في مثل هذه الأمور لم يعد فردياً، وإنما أصبح في يد الوفد مجتمعا. وفي يوميات 18 مارس 1919 يدلنا الشيخ عبد الوهاب النجار على الموقف الصلب الواضح الذي وقفه علي شعراوي باشا (وكان في ذلك الحين أكبر شخصية في الوفد بعد نفي سعد زغلول) حين جاءه جعفر ولي داعيا إلى إعادة السكينة ـ على حد تعبيره فلم يستجب له.
هكذا وثق النجار الموقف الذي حكي التاريخ فدخلة من أوسع الأبواب وقطعاً عاصر الفريق إبراهيم فتحي الواقعة ولم يرد بكلمة ، ومن صدق الشيخ النجار أنه سرد موقف مغاير جداّ.
وهو جدير بالذكر أننا نرى في مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار إشادة برجل أجنبي كان المصريون جميعا يشيدون به، وهو المستر فرانس ناظر الخديوية الذي جاء ذكره في مجموعة كتب ثورة 19فيما بعد توثيق النجار، فقد كتب أكثر من ثناء عليه وعلى أدائه وخلقه، وها هو الشيخ النجار يتحدث أيضا عن هذا الرجل بإعجاب يسجله باعتزاز في مذكرات 28 مارس.
الشيخ الموسوعي الذي يتابع بلاد العالم
لا تخلو مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار من تسجيله لانطباعاته عن الحوادث العالمية وصداها في سياق الثورة المصرية وأحداث الوطن، وهو يتحدث في مذكرات 8 مايو عن تعجبه مما يصفه (أو يوحي في وصفه) بأنه كان افتراء من الحلفاء على الألمان
ومن الشخصيات التي يحرص الشيخ عبد الوهاب النجار على أن يبلور حقيقة موقفها من الثورة نقيب السادة الأشراف السيد عبد الحميد البكري، وذلك في مذكرات الجمعة 4 أبريل. كذلك يتناول عبد الوهاب النجار أيضا موقف إسماعيل أباظة باشا من ثورة 1919، وبخاصة أن هذا الرجل كان كما هو معروف رئيسا لوفد مصري سبق ذهابه إلى لندن لعرض القضية المصرية في معقل ديار الإنجليز. وعلى صعيد ثالث فإن الشيخ عبد الوهاب النجار يشير إلى موقف بعض شباب الحركة الوطنية من بعض تصرفات الشيخ عبد الرحيم الدمرداش وتوجهاته، بما يدل على ما كان هؤلاء الشبان يتمتعون به من وعي وطني وذكاء ثوري (مذكراته 16 أبريل).
إذن نحن فعلا أمام المؤرخ الأزهري الفذ المؤسس الثاني لعلم التأريخ الشيخ عبد الوهاب النجار ،هو ألمع المؤرخين في مصر في القرن العشرين في رسائل الجامعات خصوصاّ في المغرب العربي وهذة إشارة علي صدق دراسات النجار نظرا لقرب المغاربة من مدرسة التأريخ الفرنسية ، والمفاجاة لي فعلا إكتشاف أن النجار المؤلف رقم واحد في كل من كتب باللغة العربية وأكثرهم توزيعاً، فكتابه «قصص الأنبياء» طبع ملايين النسخ في كل بلاد العالم الإسلامي ، عقل مؤرخ يمتلك تنمية ملكاته النقدية إلى درجة عالية يسرت له كتابة التاريخ على نحو غير مسبوق، مثل كل الأزهريين الكبار لايتوقف عن التحصيل العلمي ، يكمل الحلقة في عطاء المشاعل التي أضاءت ساحات التنوير في مصر علي امتداد القرون ، مثل كثير من الأسماء الخالدة مثل «ابن الفارض» .. و «ابن خلكان» و «البوصيري» ، و «ابن دقمان» المؤرخ المصري ، و «المقريزي» صاحب الخطط و «السيوفي» و «ابن إياس» «ابن خلدون» و «ابن بطوطة» و الجبرتي تلك النجوم الزاهرة ، ينتمي لجيل الوسط في علماء الأزهر ،الذي يقع بين جيلي الشيخ محمد عبده والمراغي.
ولد الشيخ عبد الوهاب النجار بالقرشية بطنطا ، ثم انتقل إلى القاهرة ودرس في الأزهر، وكلية دار العلوم وتخرج فيها،تعلم الفرنسية والعبرية والإنجليزية مما ساعده في كتابة مؤلفات تاريخية اعتمدت على المعرفة بهذه اللغات وتراثها.
تلميذ نجيب لفضيلة الإمام محمد عبده
تعلم الدكتور عبد الوهاب النجار كل مقومات العقلية الناقدة على يد الأستاذ الإمام محمد عبده، كمرجع لدراسة التاريخ وهو كتاب مقدمة ابن خلدون.
قال في مذكراته – عشقت كتابة ابن خلدون، فأصلح ذلك العشق من كتابتي، وقوم أسلوبي حين أغرمت بمحاكاته، ذلك في حين الحداثة وعنفوان الشباب، وأحببت كتابته في التاريخ قراءة التاريخ حتى صار نهمة النفس، وغذاء الروح، وسلوتي في خلوتي، فقد حبب إلي نقد عبارات المؤرخين، ووزن الحوادث البصيرة، فكل حسنة عندي من التاريخ من عنده، كان أستاذنا محمد عبده يكلف الطلبة بدراسة المقدمة، وكان يكتب هو معهم مع مراعاة تغير الأزمان، واختلاف الأحوال والملابسات بين الزمنين، فتكوّن في كتابة أستاذنا جزء عظيم من الموضوعات التي تناولها ابن خلدون في مقدمته” ، قال عنه أستاذنا الدكتور عبد المنعم خلاف(وقد ساعده على الاقتراب من قلوبهم والدخول إلى عقولهم اتصاله بنصيب وافر من العلوم العصرية التي كان يعلم منها ما جعله ابن زمانه وربيب عصره، يعلم من مباحث علوم الطبيعة والكيمياء والكهرباء وفنون الصناعات).
منهج النجار ومنهج السربوني
تفوق الدكتور عبد الوهاب النجار بمنهجه العلمي علي الدكتور محمد صبري السربوني وكلاهما كتب عن ثورة 19 لكن كتاب اليوميات الحمراء للنجار يظل حتي اليوم صار المصدر و المرجع الأول لكل أصحاب رسائل الدكتوراة في الجامعات الأجنبية ، وعند بحث منهج النجار تجده قد جاور أسلوب الجبرتي في التأريخ لأحداث الثورة المصرية في 1919، وقد نشرها على حلقات متواصلة بجريدة «البلاغ المحفوظة بدار الوثائق حرف ن ت »،كتب الشيخ عبد الوهاب النجار في هذه اليوميات التاريخية لأنباء جماهير الشعب، هو نفسه منهج مولانا عبد الرحمن الجبرتي في تاريخ الحملة الفرنسية، تأمل تلك الفقرة
(لقد لاح لي الأمل عندما أريق أول دم في سبيل المطالبة بحرية البلد، وكنت أرى المظاهرات تفرق من قبل برش الماء على المتظاهرين، ولكن معارضة السلطة الإنجليزية لذلك الشعور الفياض قد أكسبت القضية المصرية عطفا عاماً).
من كلية أصول الدين للعالمية بقصص الأنبياء
أما أشهر مؤلفاته على الإطلاق فهو كتابه «قصص الأنبياء»، هذا الكتاب الذي كتبة لطلاب كلية أصول الدين، فتصدى لأول مرة في تاريخ التحقيق النزيه إلى كشف الزيف المختلط بسير الأنبياء،وهذا الكتاب، كما وصفه الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي، فتحاً جديداً في كتابة تاريخ النبوات على مدي أجيالها منذ آدم، ونظرا لأن الشيخ ارتاد فيه مناطق كثيرة متعددة لم تكن متناولة في مؤلفات واسعة الانتشار فقد لقي ترحيبا واسعا وإقبالا منقطع .
وضع العالم الجليل الشيخ عبد الوهاب النجار قواعد علمية،سجلها في مقدمة الطبعة الثانية والطبعات التالية لقصص الأنبياءقال فيها
ـ إن العقل ركن المعتقدات الأول، فما أوجبه كان واجبا، وما أحاله كان محالا، وما أجازه كان جائزا.
ـ إن الخبر الوارد عن المعصوم إذا كان قطعي الثبوت والدلالة فهو حجة قاطعة على ما تضمنه، وذلك يشمل شيئين: الكتاب الكريم، والخبر المتواتر.
ـ إذا عارض الخبر العقل وجب تأويل الخبر بما يزيل هذا التعارض.
ـ الخبر إذا كان رواته آحادا، فلا يصلح أن يكون دليلا على ثبوت الأمور الاعتقادية، لأن الأمور الاعتقادية الغرض منها القطع، والخبر الظني الثبوت أو الدلالة لا يفيد القطع.
ـ ما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولا بطريق الآحاد، سواء بلغ حد الشهرة أو لا فمردود لأن نسبة الخطأ للرواة أهون من نسبة المعاصي للأنبياء.
ـ ما نقل عما يشعر بكذب أحد الأنبياء أو معصيته وكان النقل متواترا فما يمكن صرفه عن ظاهره صرف إن أمكن، وإلا فيحمل على أنه ترك الأولي أو قبل البعثة.
ـ المعجزات لا تثبت بخبر الآحاد، لأن المطلوب فيها اليقين، وخبر الآحاد لا يقين فيه.
ـ إنكار المعجزة الثابتة بنص قطعي الثبوت والدلالة كفر.
ـ الإسرائيليات لا حرج في مخالفتها، ولا في إنكارها جملة وتفصيلا.
ـ كتب العهد القديم والجديد ما كان منها موافقا للقرآن فهو حق، وما كان منها مخالفا للقرآن فهو باطل، وما كان القرآن ساكتا عنه فلا نقطع بصدقه أو كذبه، ويجوز نقله والاستئناس به.
ـ أقوال المفسرين ليست حجة قاطعة فيما نصت عليه، بل هي أوجه، كما يجوز حمل القرآن عليها يجوز مخالفتها، وحمل عبارته على غيرها، ولا مؤاخذة على مَنْ خالفها.
ـ القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد غرائبه، فلكل أمرئ أن يتدبره بعقله، ويفهمه على الوجه الذي يستقر في اعتقاده، بشرط أن يكون ذلك جاريا على مقتضي العربية غير مخل بفصاحته، ولا مخل بشيء من مقاصد الدين.
وقد ختم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار هذه القواعد بروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وعن شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال الأول: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي»، وعنه أيضا أنه متى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وحيث قال الثاني: «ما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين». كان الشيخ عبد الوهاب النجار يعتز بصداقة الشاعر حافظ إبراهيم وغيره من نجوم الصحافة والفكر والثقافة، وقد برع في صياغة فنون الكتابة للصحف كاتباً صحفياً من عيار ثقيل وتحتفظ نقالة الصحفيين المصريين بسجل مقالات الشيخ عبد الوهاب النجار في صحف ومجلات اللواء والأهرام والجهاد وكوكب الشرق و الرسالة والإسلام ومكارم الأخلاق والشبان المسلمين والهلال ودار العلوم والجامعة المصرية».
فضلا عن ذلك كان الشيخ عبد الوهاب النجار عالم موسوعي قدير ظهر في تحفتة الخالدة القيمة كتاب «تاريخ الإسلام» في ستة أجزاء، وكتب الشاعر الجارم في رثاء المؤرخ عبد الوهاب النجار عندما ذهب لرحاب قصيدة التي حملت عنوان “جُرح لم يندمل” وهي من أجل ما كتب الجارم
أقاموا بعضَ يومٍ فاستقلُّوا … فطار القلبُ يخفِقُ حيثُ حلُّوا
مضت بهمُ النجائبُ مُصْعِداتٍ … تَمَلُّ بها الطريقُ ولا تَمَلُّ
زواملُ لم يُعوِّقُهُنّ ليلٌ ….. ولم يُثْقِلْ كواهلَهُنَ حِمْل
رآهَا آدمٌ، وَعَدَتْ بنُوحٍ …. وولَّى بعدَها نَسْلٌ ونسل
يسايرهُنَّ أنَّى سِرْنَ بَيْنٌ …. ويتبعهُنّ حيثُ ذهبنَ ثُكّل
إذا ورث الجهال أبنائهم غنى ومالاً فما أشقى بني الحكماء!
……………………………………………………..
هو ألمع المؤرخين في مصر في القرن العشرين، وأكثرهم توزيعا، ذلك أن كتابه «قصص الأنبياء» طبع طبعات عديدة في كميات كبيرة، وظل منهلا بأخذ عنه و يأخذ منه الناقلون، والباحثون، والمدعون كذلك، وقد نجح هذا المؤرخ العظيم في أن يقدم للقارئ المعاصر تاريخاً متماسكاً يخلو من تجاوزات الأزمنة الغابرة.
………………………………………………