في كتابه عن ثورة مصر عام ١٩١٩ يذكر مؤرخ الحركة الوطنية المصرية الراحل عبد الرحمن الرافعي أن حوادث قتل المتظاهرين المصريين السلميين في تلك الثورة على يد جنود الاستعمار البريطاني بدأت في ثاني أيام الثورة وتحديداً يوم الاثنين الموافق العاشر من مارس عام ١٩١٩.
يشير الرافعي أنه تأكد من هذه الحقيقة التاريخية حين رجع الى دفتر وفيات قسم السيدة زينب ووجد أنه قُيدت فيه وفاة متظاهر في ذلك واكتفى القيد بالاشارة اليه باعتباره “مصرياً مجهولاً”
الشهيد المجهول
لم يستطع الرافعي ولا من أعقبه من مؤرخين تصدوا للكتابة عن تلك الثورة أن يصل إلى اسم ذلك الشهيد المجهول٫ ولكن المؤكد أن ذلك المجهول فتح الباب على مصراعيه لآلاف مثله من المصريين لنيل شرف الشهادة في سبيل الوطن وحريته واستقلاله.
ومن المؤكد ايضاً ان ذلك المجهول وكل من هم مثله في ربوع المحروسة استطاعوا بتضحياتهم ودمائهم التي سفكوها من أجل الوطن أن يجبروا الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس أن تخضع لمطالبهم فتفرج أولاً عن رمز الثورة سعد زغلول وصحبه وأن تفاوضهم ثانياً وان تتنازل ثالثاً فتوافق على نيل مصر شكلا من أشكال الاستقلال وإن كان منقوصاً وجزئياً.
أتذكر ذلك المجهول كلما مررت على نصب تذكاري في حي مدينة نصر يقف شامخاً ويحمل اسم “نصب الجندي المجهول” واتساءل ما أكثر المجهولين في تاريخنا الذين لا نعرف اسمائهم وان كنا نعرف تضحياتهم حق المعرفة.
قد لا نعرف أسماء أسلافنا من الفلاحين الذين تم اقتيادهم بالسخرة لحفر قناة السويس ولكننا نعلم تماماً انهم شقوها بدمائهم٫ ولا نعرف اسماء اغلب من قضوا من الجنود والمدنيين على حد سواء في سبيل أن تؤسس مصر ما عرف بحائط الصواريخ على ضفة القنال ولكننا نعرف أن تضحياتهم أثمرت مظلة صاروخية تحمى سماءها من غارات العدو لتكون خير غطاء لجند مصر العابرين الى ضفة القناة الشرقية في السادس من اكتوبر عام ١٩٧٣.
شاب المدرعة
أتذكر مجهولاً آخر برز ظهيره الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١ ٫ ذلك الشاب الذي تظهره تسجيلات الفيديو المتداولة لذلك اليوم المشهود وهو يقف بصدر عاريا امام مدرعه أمنية في شارع القصر العيني٫ لا يبدي ادنى علامة للتراجع او الخوف٫ ولان شجاعات الرجال كما يقول الشاعر معديه٫ فان ثبات “شاب المدرعة” كما بات كثيرون يطلقون عليه دفعت رفاقه للصمود والثبات وفي غضون ثوان ينقلب المشهد فالمسلحون يتراجعون والمتظاهرون العزل من أي سلاح اللهم إلا بضع أحجار يرجمون بها المدرعة يتقدمون ويكسبون امتاراً جديده من الأرض في تلك المعركة.
ظل شاب المدرعة مجهولاً بعد انتفاضة يناير٫ لم يسع لشهرة ولا لأن يٌعرف اسمه٫ لم تستهوه أضواء الفضائيات ولا عناوين الصحف ولا ألقاب من نوعية “الناشط” و”الثائر” التي فتنت كثيرين٫ وكانه قرر بشكل واع تماماً ان يبقى أيقونة محفوره في الذاكره الجمعية.
ما أكثر المجهولين في تاريخنا نحن معشر المصريين٫ ولعل ما يجمعهم هم أنهم دائما ما يتقدمون الصفوف ويكونون أول المضحين بالروح والذات٫ ربما لأنهم يدركون بشكل ما في باطنهم أن الوطن لن يمضي قدماً الا بهم.
ورغم انهم مجهولون الا انهم ليسوا منسيين٫ فذكراهم تبقى حتى بعد رحيلهم٫ تحضر في ذاكرة الاحياء الذين شهدوا بطولاتهم وشعروا أنهم دونهم شاناً٫ تمثل حياتهم مصدر إلهام٫ وما أكثر ما سمعته من شبان شاركوا في انتفاضة يناير عن أناس لا يعرفونهم ولكنهم يذكرونهم بادوارهم٫ فهذا قاد مسيرة٫ وذاك تقدم وسط سحابة من قنابل الغاز المسيل للدموع وتلك حملت الراية وابت ان تسقطها رغم جراحها التي كانت تثخنها.
طوبى للمجهولين٫ لمن لا يطلبون مجداً٫ ولا أن يرفع اسمهم فوق نصب ما٫ وغاية ما يطلبونه ويسعون لأجله هو وطن يستحق ما ضحوا وجادوا به من أرواحهم الذكية غير مبالين.