رؤى

الربيع العربي بين الاهداف والوسائل

في مقدمة إحدى مسرحياته٫ يُهدي الكاتب المسرحي العربي الراحل سعد الله ونوس عمله الى ابنته راجياً أن يكون قَدَر جيلها خيراً من جيله٫ لكنه يعود فيذكر في نفس الإهداء أن الأزمة لم تكن يوماً في الأهداف التي آمن بها جيله والتي قاتل من اجلها٫ لم تكن الأزمة اطلاقاً في أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية والسعي من أجل تحقيق الوحدة العربية وإنما كانت في شي آخر.

الربيع العربي والفجوة الواسعة

أتذكر كلمات سعد الله ونوس وإدراكه العميق ككاتب مبدع للفارق بين الأهداف والغايات  من ناحية وبين الوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الغايات  من ناحية أخرى ولا أملك إلا أن أقارن بين ما قاله وبين ما آلت إليه سنوات ما عُرف باسم “الربيع العربي” أو الانتفاضات الشعبية العربية التي عرفتها المنطقة على مدار العقد الماضي.

فالبعض يرى الآن أن المشكلة كانت في هذه الانتفاضات في حد ذاتها بل يذهب الى حد القول ان هذه الانتفاضات برمتها كانت مؤامرة خارجية على الأمة بهدف تقسيمها وتفتيتها الى كيانات صغيرة.

سعد الله ونوس
سعد الله ونوس

وهناك بعض آخر٫ ينتمي في أغلبه إلى المشاركين في هذه الانتفاضات٫ ينفي تماماً عنها نظرية المؤامرة ويؤكد الطابع الوطني وأن غايتها كانت إصلاح المجتمعات العربية٫ إلا أن هذا الفريق لا يُحمِّل ذاته أية  مسؤولية عما آلت إليه هذه الانتفاضات ملقياً بالمسؤولية بالكامل على أطراف أخرى سواء داخلية أو خارجية.

في رأيي أن هناك تفسيراً آخر تمثله مقولة ونوس المُشار اليها سابقاً وهي ان الازمة لم تكن في الانتفاضات ولا حتى في أهدافها٫ فالجماهير العربية التي نزلت إلى شوارع تونس ومصر واليمن وسوريا وغيرها من الأقطار وكان جٌلها من البسطاء الحالمين بغد أفضل لم يكونوا “متآمرين” كما يردد البعض وإنما كانوا ببساطة يسعون الى نفس ما سعى اليه جيل ونوس٫ إلى غايات عكستها هتافاتهم الهادرة المطالبة برغيف الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية و السيادة الوطنية.

هذه الأهداف في حد ذاتها يستغرب المرء أن تكون محل جدل او خلاف أو ان يُلام من يطالب بها او يُوبَّخ.

لكن بين الغايات وبين الوسائل فجوة واسعة  عكستها نتائج هذه الانتفاضات٫  ذلك  ان الجماهير الغاضبة – رغم نبل أهدافها- لم تستطع أن تترجم هذه الأهداف الى مكاسب وحقائق على أرض الواقع لأسباب عدة من بينها – على سبيل المثال لا الحصر- افتقاد هذه الجماهير للقيادة الجماهيرية   بسبب التناحر الحزبي الذي ميز أغلب التجارب “الربيعية” -إذا صح التعبير- وهو ما أدى بالضرورة إلى غياب برنامج واضح تسير عليه الجماهير عقب تغيير الحكومات٫ ناهيك عن أكذوبة “الانقسام الجيلي” التي استسلم لها نفر غير قليل من الشباب في اكثر من قطر عربي وسببت صدعاً اضافياً في هذا الحراك.

ثورة يناير
25 يناير

وجه للتشابه

وهنا يبدو وجه آخر من أوجه التشابه بين تجربة جيل ونوس في الخمسينات والستينات من القرن العشرين وبين هذا “الربيع العربي” في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين٫ فالغايات تبدو واحدة لكن الوسائل لم تكن على قدر الغايات٫ فأحلام الحرية والوحدة والمساواة  في فترة الخمسينات والستينات اضطلعت بتحقيقها أنظمة مضت شوطاً لا يستهان به في تطبيقها إلا أنها في الوقت ذاته انتهجت نهج الحكم الشمولي في اغلب الاحيان و منعت الجماهير من تكوين مؤسساتها الخاصة أو ما يعرف بالمجتمع المدني مما سهل الانقلاب على مكتسبات هذه الفترة لاحقاً.

وفي حالة “الربيع العربي” بدت الجماهير اشبه بجسد ضخم افتقد الرأس الذي يوجه٫ اي بعباره اخرى لم تمتلك تلك الجماهير التي ابهرت العالم ولو لبضع ايام التنظيم الذي يحصن مكتسباتها الأولى ويمضي بها قدماً على طريق تحقيق اهدافها.

ومع غياب هذا التنظيم وغياب الرؤية الموحدة والبرنامج الجامع الشامل٫ بدأت الجماهير تنفَضُّ رويداً رويداً عن الميادين خاصة أن بسطاء الأمة لم يروا تحسناً يذكر في أحوالهم المعيشية التي كانت محركهم الأول للاحتجاج والنزول  إلى الشارع.

ما آل إليه الوضع في سوريا والعراق بعد الربيع العربي
ما آل إليه الوضع في سوريا والعراق بعد الربيع العربي

وأغلب ظني٫ أن هذه الجماهير العربية- التي لا يتورع  البعض الآن عن التعالي عليها وكأنه لم يبصر بعينيه ما فعلت على مدار سنوات-٫ أغلب ظني أنها لازالت في انتظار تلك القيادة التي تجمع بين نبل الأهداف وامتلاك الوسائل العملية لتحقيق الحلم والتصور النظري الى واقع معاش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock