رؤى

“الملك”: ثورة التحرير الأولى

 قبل حلول  شهر رمضان الفضيل – وهو الموسم المفضل لصناع الدراما التليفزيونية العربية –  صدر  الإعلان الترويجي لمسلسل “الملك” فأثار عاصفة من الانتقادات والجدل حول صحة  تناوله  للوقائع التاريخية  ليقرر صناع العمل تأجيله لحين عرضه على علماء آثار ومصريات   وقد تحدثنا عنه   وأشرنا  إليه في مقال سابق

غير أنه  تجدر الإشارة  هنا إلى أن رواية كفاح طيبة للأديب الكبير نجيب محفوظ المقتبس عنها المسلسل  قد تناولت  نضال الأسرة الثامنة عشر في مصر القديمة وعلى رأسها الملك أحمس الأول – لتحرير مصر من الغزاة الهكسوس٫ وقد يكون من المفيد   إلقاء الضوء على هذه الأسرة ودورها في تاريخ مصر.

مسلسل أحمس
بوستر مسلسل الملك

إياح حتب

يورد نجيب  محفوظ في رواية أخرى هي “أمام العرش” والتي تصور فيها حواراً بين حكام مصر٫ يورد جملة على لسان إحدى الشخصيات تلخص موقع الأسرة الثامنة عشر في تاريخ المحروسة٫ حيث يقول “أبنوم” : جميع الملوك مدينون بجاههم لمصر إلا هذه الأسرة فإن مصر مدينة لها.

كانت تلك الاسره حاكمة لطيبه “الأقصر حالياً” في وقت كان فيه الهكسوس يجثمون على صدر الدلتا٫ وأخذت  الأسرة على عاتقها بقيادة ملكها “سقنن رع” مهمة دحر الغزاة عن تراب الوطن.

لم تدخر الأسرة ملوكها في سبيل تحرير البلاد٫ بل قدمتهم فداءً للوطن٫ فلقي سقنن رع مصرعه في احدى المعارك مع الغزاه.

وهنا تبرز شخصية الملكة إياح حتب٫ زوجة سقنن رع٫ التي لم يفت مصرع زوجها في عضدها٫ بل اعدت ولديها “كاموس” ومن بعده “احمس” لاستكمال مهمة التحرير التي بدأها والدهما.

ويكفي لمعرفة مدى اهمية الدور الذي لعبته تلك الملكة٫ أن يطالع الباحث ما كتبه احمس نفسه في لوحة أقامها لها في معبد الكرنك : “هي التي تضع الخطة للجماهير٫ زوجة ملك٫ وأخت ملك وأم ملك٫ العظيمة الحاذقة٫ التي تهتم وتضطلع بكل شؤون مصر وهي التي جمعت جيشها وحمت اولئك الناس وأعادت الهاربين وجمعت شتات الذين هاجروا وهدأت روع مصر العليا”.

حمل كاموس لواء النضال خلفاً لأبيه وتمكن من إحراز انتصارات على العدو واستطاع أن يحرر المدن الواقعة بين الاشمونين وأطفيح٫ إلا أنه لقي مصرعه هو الآخر ويرى بعض المؤرخين انه قُتل غيلة وغدراً على يد احد الخونه.

الملك أياح حتب
الملك أياح حتب

أحمس ..المُلْهَم .. صانع المجد

هنا برزت قيادة أحمس الذي أعدته والدته العظيمة لهذا الدور منذ صغره٫ غارسةً فيه روح المسؤولية تجاه الوطن والشعب٫ ولعل أبرز ما يميز قيادة احمس لمعركة التحرير هو إدراكه التام لأهمية مواجهة العدو بنفس سلاحه وهو سلاح العجلات الحربية فاهتم بتصنيعها وتدريب جيشه عليها كما عُني بسلاح البحرية وعهد به إلى ضابط شاب يشابهه في الاسم هو “أحمس بن ابانا” الذي أظهر كفاءة عالية في هذا المجال.

وبفضل هذا الجيش المجهز والمدرب والذي كان قوامه من الفلاحين البسطاء٫ تواصلت انتصارات احمس على الغزاة حتى حاصرهم في مدينة أواريس التي كان  الهكسوس قد اتخذوها عاصمة لهم٫ فوجه احمس ثلاث حملات متتاليه صوب تلك المدينة حتى اضطر الغزاة الى التسليم في عام ١٥٧٠ قبل الميلاد.

الا ان احمس وعى دروس الماضي  وأدرك أن مصر لن تكون آمنة من الغزو إلا بتأمين حدودها٫ فتعقب الهكسوس حتى فلسطين وحاصرهم جنوبي غزة حتى استسلموا له للمرة الثانية وفر من بقي منهم نحو الشمال.

ومع توسعه شمالاً لم يؤمِّن احمس حدود مصر فحسب وإنما وضع اللبنة الأولى للامبراطورية المصرية٫ اول امبراطورية عرفها التاريخ البشري.

ويرى المؤرخ الإنجليزي ستانلي كوك أن حروب أحمس في الشمال لم يكن الهدف منها التوسع الإمبراطوري “بل كان يقصد منها تأمين المملكة المصرية وتوطيدها بعد تحريرها٫ فلم تكن حروب احمس في سورية سوى تكملة لحرب التحرير”.

ويشير المؤرخ الأمريكي جيمس هنري برستد الى أن حكم الهكسوس وطردهم شكل عظة عظيمة للمصريين وأفهمهم لأول مرة في تاريخهم حقيقة الاستعمار.

وبالتالي “أنشأوا جيشاً عظيماً منتظماً استعملوا فيه المركبات الحربية” وتحولت مصر في عهد أحمس إلى “دولة حربية”.

ويضيف ان الامبراطوريه المصريه التي أسسها احمس “كانت  من اكبر الإمبراطوريات في العالم وأنها “امتدت من سورية وأعالي الفرات الى شلال النيل الرابع” وصارت طيبه “مركز التمدن العالمي وصاحبه الآثار الشامخة”.

لا عجب اذن ان تُلهم قصه احمس وأسرته أديباً  كبيرا كمحفوظ٫ فهي ببساطة قصة هذا الوطن وقدرته المدهشة والمتكرره عبر تاريخه الطويل على أن ينهض بعد سبات وان ينفض عن ذاته غبار سنوات الاحتلال والاستعمار الاجنبي٫ ليخرج بعدها لا بلداً مستقلاً فحسب  وإنما امبراطورية مترامية الأطراف ومهابة الجانب  ومصونة بأبنائها الأبطال.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker