رؤى

ابن عبادة سيد الخزرج.. قتيل قريش أم الجن؟!

كان سعد يدعى في قومه الكامل، وقيل أنه منح اللقب لخصلتين فيه لم يجتمعا في غيره، فلقد كان كاتبا بارعا، كما كان سباحا ماهرا.. لكن الأمر لا يقتصر على هذين الخصلتين بل يتعداهما إلى سمات أخرى جعلت من سعد سيدا من الكبراء، شجاعة وإقدام  ونُبْل وتجرد تضاف إلى ترفعه عن الدنايا وتعففه عند المغنم، وصولته في الحق، فهو الذي لا يخشى في الله لومة لائم.. ومنها ما قيل في شأن جوده وكرمه، فلقد شاع بين العرب أنَّ “ابن عُبادة أجود من حاتم”. لكن أمر مقتله كان الأكثر عجبا وهو ما يجعلنا نبدأ القصة من آخرها.

في سهل حوران من بلاد الشام، وفي العام الرابع عشر للهجرة، وفي واقعة هي الأغرب من نوعها، وُجِدَ سيد الخزرج، وأحد زعيمي الأنصار، وحامل لوائهم في المشاهد، سعد بن عبادة- مقتولا في مغتسله، وذاع وقتها أنَّ الجنَّ هي من قتلت سعدا!

والحقيقة أن مواقف كثيرة وملابسات خطيرة قد حدثت في حياة سعد نستطيع من خلالها فهم ظروف مقتله بشكل يبتعد عن الخرافة، ولماذا انتهى ابن عبادة هذه النهاية المأساوية؟

كان سعدا أحد أربعة نقباء للأنصار في بيعة العقبة الثانية، ولما كان انصراف القوم بعد البيعة علمت قريش بم حدث، فأرسلت تطلب أولئك النفر الذين بايعوا محمدا على التأييد والنصرة والمنعة، ولكنهم لم يظفروا إلا بسعد بن عبادة، وعادوا به إلى مكة، وأروه من صنوف العذاب ألوانا؛ حتى أشرف على الهلاك، لولا أن ترفق به رجل من قريش، فحاوره وعرف منه أنه جار لجبير بن مطعم، والحارث بن حرب بن أمية، فطار الرجل إليهما يستصرخهما؛ فأتيا على عجل وأنقذاه من موت محقق.

https://www.youtube.com/watch?v=qF5N5PX9b6M

هل كانت تلك الواقعة هي ما أورث سعدا بغضا لا يزول ولا يمحى لقريش، حتى أن الروايات الواردة  عنه يوم الفتح الأكبر تقول أوثقها أنه عندما دخل مكة على رأس فيلق من الأنصار يحمل رايتهم التي عقدها له النبي- صلى الله عليه وسلم- نادى بسقوط الكعبة التي كان يعتبرها رمزا لسيادة قريش وتجبرها وصلفها، وقيل أن أبا سفيان سمعه؛ فشكاه إلى الرسول، فأرسل الرسول عليا بن أبي طالب- كرم الله وجهه- ليأخذ منه الراية، وقيل أنه أُمِر أن يدفعها لقيس بن سعد بن عبادة، وذُكر أن سعدا كان يردد وهو على مشارف مكة: اليوم يوم الملحمة.. اليوم تُستَحل الحُرمَة. وقيل أن عمر قد سمعه؛ فأخبر الرسول قائلا: ما نأمن أن يكون له في قريش صولة… ثم كان ما كان من أمر العزل ونزع الراية.

لكن سعدا وهو من هو لا يخشى أبدا من إعلان رأيه، لا يتحرّج ولا يداهن طالما كان الحق معتقده فيما يجهر به، فلا يتهيب سعد أن يذهب إلى النبي بعد حنين، وقد شهد ما ألم بالأنصار من حزن إذ مُنعوا العطاء الذي أجزل للمؤلفة قلوبهم، لا يحتمل سعد انكسار قلوب قومه، وهو المستغني عن كل عطاء، وهو المشهور بالجود الذي فاق جود حاتم، حتى قيل أن الرجل من الأنصار كان ينطلق إلى بيته بالرجل أو الرجلين من فقراء المهاجرين؛ ليطعمهم. أما سعد فقد كان يعود إلى بيته بالثمانين منهم، وكما ورد فقد كانت “جفنة سعد تدور مع رسول الله وفي بيوته جميعا”.

يقول سعد في هذا الموقف الذي يصعب على غيره:” يا رسول الله، إنَّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت.. قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء” فيقول له الرسول: وأين أنت من ذلك يا سعد؟ فيرد بما عهد فيه من الشدة والحسم: إنما أنا رجل من قومي! ثم ما يلبث الرسول الأعظم أن يٌهدئ النفوس ويئد الفتنة في مهدها بما هو معروف في اجتماعه بالأنصار وخطبته الرائعة فيهم والتي ختمها بقوله: ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله في رحالكم؟!

لكن سعدا ابن عبادة لا ينفك قلقا من قريش وأطماع سادتها على الأمة وعلى الإسلام نفسه، فلقد خبرهم سعد وعرفهم وعرف حبهم للسيادة والسلطان، فآل على نفسه وهو الزاهد في متاع الدنيا، الذي لا يكترث لمنصب ولا جاه- أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، كما كان يرى- رضي الله عنه- أحقية للأنصار في خلافة رسول الله وهم  من آووا ونصروا وأقاموا للإسلام دولته وأعطوه منعته، وكان المسلمون من قبلهم، ضعفاء يتخطفهم الناس.. وإن لم يكن ذلك فإن عليا أحق بها من سواه كما أورد السيد علي البرجرودي في كتابه “طرائف المقال”.

كان الجسد الطاهر مسجى في بيت عائشة وحوله كبار الصحابة من المهاجرين، بينما كان سعد في سقيفة بني ساعدة، يعرض نفسه على الأنصار خليفة لرسول الله- وكان قد ألم به مرض شديد أضعفه عن الوقوف والمجادلة.. يتناظر القوم بعد قدوم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، ثم تكون البيعة لأبي بكر، بعد أن خذل الأوس سعدا؛ إذ نقموا أن تكون الرياسة في الخزرج!.

وكان مما أغضب سعدا قول الخليفة الأول: “إنَّ العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش”. فأين ذهب مُحْتَكَمُ “إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم”؟! فرأى سعد القبلية البغيضة كأنما تطل برأسها من جديد لتصنف الناس تصنيفا جاهليا ليس من الإسلام في شيء.

https://www.youtube.com/watch?v=nEeu1fOWJ6o

لم يبايع سعد أبا بكر ولا عمر من بعده بل إنه لزم بيته لا يحضر إلى المسجد، ولا يشهد الجُمع؛ بل يكتفي بالصلاة منفردا في داره، حزينا على ما آلت إليه حال الأمة من استئثار قريش بالحكم، متبصرا وخيم العواقب جراء ذلك، من تقاتل القرشيين على السلطة؛ حتى ينتزعها من هو أكثرهم بأسا ودهاء وخبثا؛ فيهدم دولة المدينة؛ ليقيم لنفسه وقومه ملكا جبريا عضوضا لا يُبقي من دولة الرسول على شيء!

ويروي الطبري في تاريخه، أن أبا بكر أرسل إلى سعد ليأتي ويبايعه فكان رده: “أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأيم الله ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما في حسابي”، فكان لا يصلّي بصلاتهم، ولا يجتمع معهم، ولا يحج ولا يفيض بإفاضتهم، وبقي كذلك حتى توفي أبو بكر.

وقد يرى البعض أن موقف سعد من قريش وحبها للسيادة والهيمنة والاستئثار بالسلطة؛ قد أورثه هو الآخر شيئا من العصبية القبلية التي أفضت به إلى مواقف اتسمت بشيء من التطرف.. لكن ذلك لا يصمد كثيرا أمام صحبته وفضله وقربه الشديد من الرسول الخاتم منذ أسلم في العام الرابع للبعثة.. والأرجح أن مواقف سعد كانت تعبيرا عن رؤية خاصة اتسمت بالقطعية وارتكزت على محددات يقينية، والتقت مع صرامة طبعه وحدته وأنفته التي لا تقبل الخضوع أبدا.

ويلتقي سعدٌ عمرَ في بداية خلافته، فيصارحه سعد قائلا: “كان صاحبك أبو بكر- والله- أحبَّ إلينا منك، وقد- والله- أصبحت كارها لجوارك، فيجيبه عمر: “إن من كره جوار جاره تحوّل عنه، فيقول سعد: “إني متحول إلى جوار من هو خير منك”!.

وفي سهل حوران من بلاد الشام يستقر به المقام، وهناك تكون ميتته العجيبة التي زعموا أنما هي من فعل الجن حتى قالوا أن أحدهم سمع صوتا ينشد بعد مقتله:

وقتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

والأقرب إلى التصديق أن عمر بن الخطاب كان قد أرسل إلى سعد من يحثه مجددا على الدخول في البيعة، فلما التقى الرسول سعدا عرض عليه الأمر، قال له سعد: لا أبايع قرشيا أبدا، قال الرجل: فإني قاتلك، قال سعد: وإن قاتلتني.

قال الرجل: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال سعد: أما البيعة فأنا خارج. فرماه الرجل بسهم فقتله.

وما كان للدولة وقد كانت حديثة عهد بفتنة الردة أن تعلن عن تصفيتها أحد أهم معارضيها، فكان أن سار الحديث بأن سعدا قتلته الجن!

إن قتل سعد بن عبادة على هذا النحو هو حادث اغتيال سياسي لا ريب فيه، وهي الحالة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام، وهو سبق يضاف إلى سبق سعد إذ كان الأنصاري الوحيد الذي نال حظه من التعذيب على أيدي قريش، كما كان له السبق في الجود والفضل في النفقة طوال حياته،

وقد اختصه النبي الخاتم بدعائه “اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة”.

رحم الله سعدا وغفر له إذ كان رجلا لم تعرف دولة الإسلام له نظيرا، رحم الله عدو قريش.. قتيل الجن!.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock