في الرابع والعشرين من أبريل الماضي صدر كتاب نهر النيل .. الأساطير.. الحقوق والصراع المصري _ الإثيوبي للخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار عن دار المرايا للإنتاج الثقافي.. ويقع الكتاب في 309 صفحة من القطع الكبير، ويضم مقدمة وخمسة فصول ثم خاتمة.
يتناول الكتاب في الفصل الأول ما أطلق عليه الكاتب، فقه انتساب المياه.. القانون الدولي واتفاقيات مصر ودول حوض النيل والأوضاع المائية الراهنة.. ويختص الفصل الثاني بالحديث عن النيل من حيث النشأة والأساطير وطبوغرافية النهر وسماته.. وفي الفصل الثالث يتناول أحمد النجار ، السد الإثيوبي وأوهام إمكانية حصول مصر على جزء من مياه نهر الكونغو، كما يتضمن الفصل الحديث عن صراع الإرادات بين مصر وإثيوبيا والمسارات الممكنة لحل الازمة. في الفصل الرابع يتناول الكاتب أهم المشروعات التي تم إنجازها لضبط النيل، وعلى رأسها السد العالي.. ثم يختم فصول الكتاب الخمسة بفصل عن الاستراتيجية المائية المصرية ومدى ملاءمتها وكفاءة تطبيقها ثم خاتمة سريعة للكتاب يوجز فيها أهم ما يقترحه بخصوص الاستراتيجية المصرية في الحفاظ على الحق في مياه النيل، وجدوى طرق تقليل الفاقد وترشيد الاستهلاك، كما يلمح الكاتب إلى أهمية جنوب السودان وأوغندا كأفضل مسرح لإقامة مشروعات تنمية إيرادات روافد النيل.
تلازم وجودي
يتناول النجار في مقدمة الكتاب ارتباط مصر بالنيل ارتباطا يتجاوز الجانب المادي في توفير الاحتياجات المائية للبلاد إلى حالة من التلازم الوجودي “…بين نهر معطاء للمياه إكسير الحياة وشعب قادر على صنع الأعاجيب بالمياه بما منح النهر ألقا وزهوا بالحضارة التي ازدهرت على ضفتي واديه الخصيب ودلتاه العظيمة وشكلت فجر ضمير الإنسانية”. ما جعل من الحديث عن المساس بحقوق مصر التاريخية في النهر العظيم؛ تهديدا مباشرا لوجود مصر ونذيرا بالدمار الشامل لكل أوجه الحياة على أرضها.
ولاشك أن تلك العلاقة القوية بالنهر جعلته ذا مكانة قدسية استثنائية ومحورا للعديد من الاساطير مثل نسبته إلى الإله “نون” وربط فيضانه بدموع “إيزيس” وباللقاء الحميم بين “حاتحور” و”حورس” وفق المعتقدات المصرية القديمة.
وعن الموقف الإثيوبي المتعنت يؤكد الكاتب أن الدوافع الإثيوبية ليست مبرَّأة عن الكيد والعداوة ومنطق الاستحواذ والهيمنة.. مضيفا أن على مصر أن تضع أمامها كل الخيارات مفتوحة دون استبعاد لاستخدام القوة حماية لحياة مصر وشعبها وحقوقها المائية.. طالما أصرت إثيوبيا على السير في اتجاه تأجيج الأزمة وممارسة “البلطجة” والضرب بالقانون الدولي عرض الحائط.. مشددا على عدم غض الطرف عن نقاط الضعف الاستراتيجية لإثيوبيا كونها دولة حبيسة لا منافد بحرية لها وكونها تنخرط طوال الوقت في صراعات إقليمية، بالإضافة إلى طبيعتها السكانية متعددة الأعراق ما يثير النزاعات الداخلية فيها بين الحين والآخر.
يتطرق الكاتب بعد ذلك في مقدمته إلى وضع نهر النيل حاليا كونه أطول أنهار العالم (6820)كيلومترا يقطع خلالها مناطق مناخية مختلفة، من المناخ الاستوائي إلى المناخ الموسمي المداري وصولا إلى المنطقة المدارية ليقطع بعد ذلك مسافة تقدر بنحو (2521)كم من مصب نهر عطبرة حتى قناطر الدلتا شمال القاهرة إلى حيث مصبه عند البحر في دمياط ورشيد.. ورغم ذلك فإن الإيراد المائي للنيل يعتبر قزما إذا ما قورن بإيراد نهر الأمازون الذي يفوقه بـ 60 مِثلا ، ونهر الكونغو الذي يفوق إيراده السنوي إيراد النيل بـ 14 مثلا، وكذلك أنها اليانجتسي والجانج والميسيسبي والفولجا والدانوب التي يبلغ إيراد كل منها عدة أضعاف إيراد نهر النيل.. ورغم ذلك فإن شعوب تلك الأنهار لم تستطع الإمساك بزمام ريادة الحضارة الإنسانية وصياغة أسسها في شتى المجالات مثلما فعل الشعب المصري في وادي النيل ودلتاه.. .
ومن المعروف أن النيل بقي متاحا للاستخدام بلا قواعد أو حدود حتى القرن العشرين.. ليشهد بعد ذلك توقيع عدد من الاتفاقات فرضها تشكل الدول في المناطق المختلفة وزيادة السكان المطردة.. لكن ذلك لم يحل دون التنازع الذي غذّته قوى خارجية اعتمادا على طبيعة الحكم الإثيوبي الحالي وما تتسم به من تطرف واتجاه واضح نحو حل أزمات الداخل باصطناع أزمات خارجية وصراعات إقليمية دون حاجة ملحة لذلك إذ تصل كمية الأمطار الساقطة على الهضبة الإثيوبية إلى حوالي 900 مليار متر مكعب يتبدد معظمها بفعل البخر والتشرب والتسرب، في حين تبلغ حصة مصر من المياه أقل من 60 مليار متر مكعب سنويا.. وهو ما يجعل مصر متمسكة بمبدأ عدم المساس بتلك الحصة المحدودة التي أصبحت لا تفي بحاجتها بعد الزيادة السكانية الكبيرة في السنوات الأخيرة.. ما يدعم موقف مصر أنها لم تدخر وسعا في سبيل تطوير المشروعات التنموية في دول حوض النيل مثل سد أوين لتوليد الكهرباء في أوغندا والذي مولته مصر بالكامل من أجل تخزين المياه لحسابها في بحيرة فيكتوريا؛ لكن اعتراض الدول المشاطئة للبحيرة على التخزين الذي سيتسبب في إغراق بعض الأرض نتيجة ارتفاع منسوب المياه في البحيرة مترا واحدا حال دون استفادة مصر منه بعد تمويلها لإنشاء السد بالكامل بالإضافة لدفعها تعويضات لأوغندا عن بعض الأضرار التي نجمت عن المشروع وكان ذلك عام 1949،هذا بالإضافة إلى أغلبية السدود والمرافق المائية التي تم إنشاؤها في السودان في فترة وجوده مع مصر في دولة واحدة.
نوايا أثيوبيا السيئة
ويعود الكاتب للتأكيد على نوايا السوء التي تغلف موقف الجانب الإثيوبي الذي أعلن عن النية في استخدام مياه النيل في التنمية رغم أن كل الاتفاقيات القديمة تمنعهم من ذلك بسبب التخمة المائية التي تتمتع بها إثيوبيا التي تضم نحو 30 نهرا آخر بالإضافة إلى كميات الأمطار الهائلة والمياه الجوفية.. ما يستلزم اتخاذ موقف حازم تجاه تلك التحركات التي تعتمد على منطق الاستحواذ على المياه التي تنبع من الأراضي الإثيوبية وفرض الامر الواقع بصورة أقرب إلى “البلطجة” وتدفع بالأمور إلى التصعيد غير الودي.. ما يحتم العمل على نقاط الضعف الاستراتيجية للدولة الإثيوبية لمجابهة تلك الاخطار الوجودية المحدقة بمصر أرضا وشعبا.
الفصل الأول: فقه انتساب المياه.. القانون الدولي واتفاقيات مصر ودول حوض النيل والاوضاع المائية الراهنة.
إلى من تنتسب المياه؟ يجيب الكاتب في هذا الفصل على العديد من التساؤلات المتعلقة بالأفكار المعتمدة في تحديد انتساب المياه، ويخلص إلى فكرتين رئيستين، الفكرة الأولى تؤكد على أن المياه تنتسب إلى مصدرها، أما الفكرة الثانية فتعتمد مبدأ أن المياه تنتسب لمن استخدمها واعتمدت حياتها عليها تاريخيا وبصورة سابقة على حاجة الآخرين إليها أي انتساب المياه إلى الحياة التي خلقتها والتي يمكن أن تنهار إذا غابت تلك المياه أو تم احتجازها من دولة المنبع أو المجرى الأوسط.. ولم تكن الصراعات لتنشأ على التحكم في مياه الانهار الكبيرة إذ كانت عصية على ذلك، بل كانت تدور حول السيطرة على المناطق الخصيبة وتلك المزدهرة بالصيد في أحواض تلك الأنهار .. لكن التطورات التقنية الهامة التي واكبت بداية القرن العشرين مكنت الإنسان من امتلاك القدرة على بناء السدود لتغيير مسار الأنهار الكبيرة وتقييدها كليا؛ فانفتحت بذلك بوابات الصراع على الحق في استخدام المياه.
لم تلتفت مصر إلى خطورة وجود قلبها المائي خارجها بحكم محدودية عدد السكان ووفرة المياه.. إلا أنه مع تأسيس الدولة الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر بدأ عدد السكان في التزايد بوتيرة متسارعة ما زاد من احتياجات مصر المائية؛ فبدأت الدولة المصرية في عهد محمد علي بتنفيذ عدد من المشروعات التي استهدفت ضبط النيل، واستمرت تلك المشروعات حتى عهد الخديوي إسماعيل وتنوعت بين القناطر والأهوسة والترع والمصارف، كاستثمار عادل لإيراداتها المائية كدولة مصب.
ويشير الكاتب إلى أن الدول “الاستدمارية” – بالدال بدلا من العين-كما يحلو للمؤلف تسميتها هي التي بدأت في بناء الترتيبات والتعهدات المائية المرتبطة بالتدفق والاقتسام التاريخي للمياه نيابة عن الدول التي تحتلها.. ورغم أن هذه التعهدات قد وضعت وفق مصالح المحتل وحفظ التوازنات الإقليمية إلا أنها “تظل تشكل أحد الأسس الهامة التي تحكم العلاقات بين دول حوض النيل بشأن تقسيم مياهه وفقا لقاعدة الاستخلاف في القانون الدولي”.
وعن تطور الإطار القانوني الدولي في معالجة قضية اقتسام المياه في الأنهار الدولية والمنهج المصري في النظر إلى قضية المياه المشتركة في نهر دولي مثل نهر النيل يشير “النجار” إلى أن الأسس النظرية والقانونية المتعلقة بهذا الإطار قد مرت بمراحل طويلة وتغيرات عاصفة بسبب العديد من النزاعات التي تنامت بتعاظم القدرة البشرية على إقامة الخزانات والسدود والقدرة على نقل المياه لزراعة المناطق الفقيرة مائيا.
ويلخص الكاتب تلك الأسس فيما يلي: 1- نظرية السيادة المطلقة وتطبيقاتها في الواقع “فقه هرمون” وهي تعتمد مبدأ السيادة المطلقة لكل دولة على أراضيها وبالتالي فإن دولة المنبع تسيطر بشكل كامل على المياه دون القبول بأي حقوق لدول المجرى والمصب.
2-نظرية الحقوق النهرية أو التكامل الإقليمي المطلق وهي عكس النظرية السابقة تماما وتقضي بأن كل دولة من دول الحوض من حقها أن تستقبل نفس كمية المياه التي تتدفق من المنابع دون المساس بهذه المياه أو تلويثها.
3- نظرية التقسيم العادل لمياه النهر وتسمى أيضا بنظرية السيادة الإقليمية المقيدة وتعتمد مبدأ التوزيع العادل للمياه وفق الاحتياجات مع مراعاة الحصة التاريخية.
في هذا الجزء يتناول الكاتب الاتفاقية الإطارية للاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية بشيء من النقد والتحليل وهي الاتفاقية التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1997، ولم تدخل حيز التنفيذ سوى عام 2014، بعد اكتمال تصديق 35 دولة عليها.. ويحدد “النجار” نقاط نقده لهذه الاتفاقية في ما يتعلق بنص الاتفاقية الذي اعتبره “مطاط وحمّال أوجه” مع وجود تعارض واضح بين بعض المواد الواردة بنص الاتفاقية.. وأخطر ما ورد في الاتفاقية تلك المادة المتعلقة بإمكانية إلغاء الاتفاقات القائمة وإقرار معاهدات جديدة وهو ما أعلنت مصر رفضه.. إذ يتعارض مع منهجها المعتمد في تقسيم المياه وهو الأقرب إلى نظرية التكامل الإقليمي المطلق مع استعداد مصر الدائم للإسهام في المشروعات التي تهدف إلى تعظيم إيرادات دول الحوض من مياه النيل.
يستعرض الكاتب في هذا الجزء الاتفاقيات حول مياه النيل بين مصر ودول الحوض بداية من البروتوكول الذي وقعته عنها بريطانيا مع إيطاليا في 15 أبريل 1891، والذي يقضي بتعهد إيطاليا بعدم إقامة أية منشآت لأغراض الري على نهر عطبرة، مرورا بالاتفاقية الموقعة في 15 مايو 1902 بين بريطانيا وملك إثيوبيا منليك الثاني والتي تتضمن تعهد إثيوبيا بعدم القيام بأي أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط يكون من شأنها الحد من تدفق مياه النيل إلى مصر إلا بعد الرجوع والاتفاق مع حكومتي بريطانيا والسودان.. ثم اتفاقية 1906 بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في لندن بشأن الهضبة الإثيوبية وحفظ حقوق مصر في مياه النيل الازرق وراوفده.. وصولا إلى اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل بين مصر والسودان الموقعة في 8 نوفمبر 1959 التي تضمنت الموافقة على إنشاء السد العالي.
اتفاقية عنتيبي
في هذه الاتفاقية حاولت إثيوبيا وضع القواعد التي تضمن لها اقتطاع جزء من حصتي مصر والسودان وتم توقيع الاتفاق في 14 مايو 2010 بين إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وراوندا والتحقت كينيا بعد ذلك بركب الموقعين بينما رفضت مصر توقيع الاتفاق الذي كان كاشفا عن النوايا الخبيثة لإثيوبيا التي استغلت تراجع الدور المصري في إفريقيا منذ عهد الرئيس السادات، في توحيد كلمة دول حوض النيل ضد المصالح المصرية.