رؤى

السيدة نفيسة رضي الله عنها.. المجتباة لأهل مصر

وأرض مصر منذ قديم الأزل موعودة بالأنوار العلوية والبركات اللدنية، والنفحات الربانية.. لاسيّما وهي أرض الأنبياء وملجأ الأتقياء وحصن الخلصاء.. جاء إليها الخليل إبراهيم محتميا، وبين أهلها عاش الصديق يوسف وصار لها عزيزا.. على أرضها وُلد موسى وشب ووعى.. وإليها كان التجاء السيدة العذراء مريم وولدها مسيح الرحمة والهدى عيسى عليه السلام.. وها هي أرض الكنانة تصيب حظها من أنوار بيت النبوة المحمدية بقدوم السيدة نفيسة رضي الله عنها إليها محملة بنسائم المحبة والود لمصر وأهلها.

عطر النبوة

إنَّه صباح السبت المصادف ليوم السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم من العام الثالث والتسعين بعد المئة للهجرة، هناك عند مدينة العريش احتشد المصريون لاستقبال السيدة نفيسة التي قدمت إليهم مع أبيها وزوجها، لا يكادون يصدقون أن الحسيبة النسيبة العابدة الزاهدة التقية النقية المباركة، ابنة الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قد اختارتهم لتعيش بين ظهرانيهم، بعد أن قاربت الخمسين من عمرها؛ لتغدق عليهم من بحر علمها وخضم فضلها، ليشعروا إلى جوارها بدفء محبة الحبيب المصطفى، ويتنفسوا العطر المبارك إلى الأبد، عطر آل بيت النبوة الأطهار المطهرين.

تغمر السيدة  نفيسة الجميع بمحبتها حتى أن يهود مصر وقبطها كان لهم من تلك الأنوار نصيب، لم يستطع المصريون الالتفات عنها مذ وطئت قدماها أرض الكنانة، لا يريدون مبارحة دارها، شغلوها عما فرَّغت نفسها له من العبادة، لم تضق بهم، ولكنها رأت إن بقيت على هذا النحو امتلأ قلبها بالشواغل، وهي لا تريد أن يشغلها عن القرب شاغل.

تستجمع السيدة شجاعتها وتخرج إليهم؛ لتصارحهم بما قررت، قائلة: “كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى”… كان لتلك الكلمات فعل الأسنة الملتهبة في القلوب الواجفة.. تعالى بكاء الناس في الشوارع، اختلط نحيبهم بألم لا يحتمل ضاقت به الصدور، إنه الفقد الذي لا قدرة لأحد – مهما بلغ تجلده- على احتماله.

هَرُعَ الناس إلى زوجها إسحق المؤتمن ابن الإمام جعفر الصادق ضارعين إليه أن يثنيها عن مغادرة البلاد، لكن إسحق لم يستطع إثناءها عن الرحيل، ربما لرغبته في عدم البقاء بمصر، رأى المصريون رفع الأمر إلى الوالي “السَّري بن الحكم بن يوسف” وكان الرجل ذا حكمة وبصيرة؛ فعرض على السيدة نفيسة أن يخصص لها دارا واسعة تستقبل فيها الناس ممن يلتمسون العلم والنصيحة وصالح الدعوات وآثار البركات، على أن يقتصر ذلك الأمر على يومين فقط كل أسبوع لتكون لها بقية أيام الأسبوع تتفرغ فيها لعبادتها وأورادها.

كرامات السيدة نفيسة

تنزل السيدة نفيسة على طلب الوالي، وتبقى تحوطها تلك القلوب المتعلقة بها أشد التعلق.. وقد كثرت حكايات المصريين عن السيدة المباركة مما لا نستطيع الجزم بصحته من عدمه. فمما روي أن نفرا من المصريين ذهبوا إليها وكان ماء النيل قد انحسر انحسارا شديدا ما أضر بالزرع والضرع أبلغ الضرر، ثم أنهم سألوها أن تدعو الله تعالى أن يُذهب الجدب، ويُزيل الكرب؛ فقامت السيدة نفيسة تدعو وتجتهد في الدعاء؛ ثم دفعت إليهم  بقناعها فذهبوا به إلى النهر وطرحوه فيه فما رجعوا حتى زخر النيل بمائه وزاد زيادة كبيرة!.

بعد نحوٍ من خمسة أعوام من القدوم المبارك للسيدة نفيسة-رضي الله عنها- لأرض مصر؛ قدم إليها الإمام الشافعي، وكان أن سكن بالقرب من دار السيدة  نفيسة، وكان كثيرا ما يختلف إليها في طريقه إلى حلقات الدرس، يخاطبها ويسمع منها من وراء حجاب، وذُكِر أنه صلى بها صلاة التراويح في مسجدها، وكان إذا توعك أرسل إليها من يُقرئها السلام ويقول لها: “إن ابن عمك الشافعي مريض ويسألك الدعاء” فكان الرسول يعود من عندها، فيدخل على الشافعي فيراه وقد ألبسه الله ثوب العافية ببركة دعاء السيدة نفيسة، وقد أوصى الإمام أن تصلي عليه السيدة نفيسة عند وفاته، وقد كان أن مرت الجنازة من أمام بيتها، وتوقف الموكب وأدخل الجثمان إلى بيتها فصلت عليه ودعت له بالرحمة قائلة: “اللهم ارحم الشافعي فإنَّه كان يحسن الوضوء”. وكانت وفاة الشافعي في العام الرابع بعد المئة الثانية للهجرة.

 نفيسة العلوم تنتصر للمصريين

في الانتصار للمصريين لم تكتف السيدة نفيسة بالدعاء؛ لم تكن ترد لهم طلبا حتى عندما جاؤوها يشكون ما صارت إليه الأحوال بسبب جور “ابن طولون” وعماله ومبالغته في فرض الضرائب، وجباية الأموال حتى عزت الأرزاق وأشرف قطاع كبير من المصريين على الموت جوعا.. استمعت السيدة نفيسة إلى شكاية الناس ورأت أن تكتب إلى “ابن طولون” رسالة تدعوه فيها إلى رفع الظلم عن كاهل المصريين، وتأمره أن يسير على هَدْي جدها المصطفي في العدل بين الناس والرفق بهم.. ثم أنها دعت الناس إلى الخروج يوم الجمعة بعد الصلاة لاعتراض موكب “ابن طولون”.

كان الموكب يسير في  خيلاء.. يقطع طرقات المدينة؛ وينهب الأرض نهبا، وسيد الموكب مستغرق في أفكاره، تمر المشاهد أمام عينيه وكأنها الأحلام، إنه الأمير القبجاقي الذي جاء ليحكم مصر بالوكالة عن الوالي “باكباك” التركي زوج أمه، ثم استمر في حكمها وكيلا عن حميه الوالي “بارقوج” ثم استأثر بالأمر معلنا مصر دولة مستقلة تحت حكمه، ينعم بخيراتها وحده بعد أن امتنع عن إرسال أية أموال لبغداد؛ ليتسع بعد ذلك نفوذ دولته ليصل حدود “بيزنطة” التي ذاق جيشها بأسه عندما اكتوى بنار الهزيمة المذلة عند “طرطوس” كما لم ينس العباسيون مضاء سفيه حين قاتلهم قرب الفرات.

يتذكر “ابن طولون”  كيف امتد سلطانه القوي غربا داخل ليبيا، وجنوبا حتى وصل منطقة الشلالات، ولم تلن له قناة، وكيف تلين له قناة وهو يرى خزائنه تجبى إليها ثمرات كل شيء، لا يؤثر فيه ما يراه من ضنك المعيشة الذي أصاب المصريين، وكاد يُفقدهم  صوابهم، ويُخرجهم عن حال الضعف والاستكانة الذي ألفوه، لكنه في منعة وقوة يستطيع أن يُخمد أي تحرك لهم إن هم فكروا في الثورة عليه، فهو قائد الجند الذي ذاق الجميع الانكسار على يديه.

في تلك اللحظة التي ارتفعت فيها دماء الزهو والانتشاء إلى رأسه وكادت تدور كأنما هي تحت تأثير الشراب القوي- ارتج الموكب، وتوقف فجأة وإذا بجموع غفيرة من المصريين البسطاء يقطعون الطريق على الموكب تتقدمهم السيدة نفيسة التي بدت كأم يتبعها صغارها التماسا للقوت بعد أن بلغ بهم الجوع مبلغا، والحقيقة أن هذه السيدة الرؤوم كانت قد صارت أما للمصريين بحق، إذ وسعتهم حبا وحنانا وفضلا وكرما؛ حتى صارت أعز عليهم من أرواحهم، بعد أن تعلقت بها القلوب التي غُمرت بفيض أنوارها.

يذكر المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني في تاريخه أن ابن طولون عندما رآها ترجل عن فرسه، ومشى إليها وعندما اقترب دفعت إليه السيدة نفيسة –رضي الله عنها- رقعة كانت قد كتبتها، ومما جاء فيها:” ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفّاذة غير مخطئة، لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.

أحمد بن يوسف القرمانيلم يستطع ابن طولون ردا لما قرأ في الرقعة، وربما حاول ولكنه لم يجد في نفسه القدرة على ذلك، فانخذل عائدا إلى فرسه، قافلا إلى قصره ذي الأربعين بابا، وهناك استدعى كاتبه وأملى عليه أوامره برفع كافة المظالم، وإلغاء جميع قوانين الجور، وأن يجرى العطاء على ذوي الحاجات، وأن تقوم الدولة الطولونية بما تستطيعه لمحاربة الفقر والبؤس اللذين عمَّا البلاد والعباد، وما هي إلى أيام قلائل حتى تحسنت الأحوال، وقيل أن ابن طولون عدل في حكمه بعد هذا الموقف المهيب حتى وافاه الأجل.

رؤيا الرسول الكريم

وعندما أراد زوجها إقناعها بالعودة إلى الحجاز، أجابته السيدة نفيسة  بأنها لا تستطيع ذلك إذ جاءها جدها المعصوم –صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا، و قال لها: لا ترحلي عن مصر فإن الله متوفيك فيها، فبادرت السيدة نفيسة بحفر قبرها بنفسها، وكانت تنزل للصلاة فيه، وقيل أنها ختمت القرآن الكريم فيه مئة وتسعين مرة، وأنها كانت تنزل إليه فتمكث فيه ساعات طويلة وتبكي حتى يتعالى صوت بكائها.

وكانت وقد اشتد عليها المرض في أخريات أيامها لا تنفك صائمة، فإذا طلب منها أن تفطر قالت:” وا عجبا، منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! هذا لا يكون”.

وكانت تقول رضي الله عنها:” إن الصبر يلازم المؤمن بقدر ما في قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن الله معه، وعلى المؤمن أن يستبشر بالمشاق التي تعترضه، فإنها سبيل لرفع درجته عند الله، وقد جعل الأجر على قدر المشقة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.. لقد ذكر الصبر في القرآن الكريم مائة وثلاث مرات، وذلك دليل على قيمة الصبر وعلو شأنه وحسن عاقبته “.

مقام السيدة نفيسة بالقاهرة
مقام السيدة نفيسة بالقاهرة

وفي شهر رمضان من العام الثامن بعد المئة الثانية، وبينما كانت السيدة نفيسة تقرأ آيات من سورة الأنعام حتى وصلت إلى قوله تعالى:” لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” غُشي عليها، تقول السيدة زينب بنت أخيها:” فضممتُها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء”.

كان الخبر أكبر من قدرة أهل مصر على تصديقه، فانتابهم الذهول وعمهم حزن  شديد  أثقل القلوب بغصة أحاطت بها كسياج من رصاص، ويوم دفنها تعالى نحيب القوم في كل شوارع  مصر ، ووجم الناس وجوم المسكرة أبصارهم، ورأوا أن ذلك كابوس ودوا لو منه أفاقوا.

بعد وفاتها أراد زوجها إسحق المؤتمن أن يحملها إلى المدينة المنورة لكي يدفنها بالبقيع، فعرف المصريون بذلك فهرعوا إلى الوالي واستجاروا به عند زوجها ليرده عما أراد فأبى، فجمعوا له مالا وفيرا وسألوه أن يدفنها عندهم فأبى أيضا، فباتوا منه في ألم عظيم، لكنهم عند الصباح في اليوم التالي وجدوه مستجيبا لرغبتهم، فلما سألوه عن السبب قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لي رد عليهم أموالهم وادفنها عندهم. ومازال المصريون إلي يومنا يؤمون مسجدها طلبا للسكينة، وتلمسا لمحبتها التي ما زالت تفيض عليهم، فيشعرون بها  حاضرة في الأفئدة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock