ثقافة

“يوتوبيا” أحمد خالد توفيق الخالدة.. بين الحقيقة والأساطير (١-٢)

يعود الفضل لمعرفتي بهذا الكاتب الرائع ، والإنسان الأكثر روعة الى ” جمال ” أصغر أبنائي ، ففي حديث عابر أشار الى أهمية تأثير ” أحمد خالد توفيق ” في ثقافته الشخصية وحبه للقراءة ، هو وجيله من الشباب !!

حيث تخصصت ” المؤسسة العربية الحديثة ” وهي دار نشر تُصدر سلسلة من كُتب الجيب للصبية والشباب تقوم عَلى فكرة الخيال العلمي ، والمغامرات ، وقصص الرعب ، في نشر جُل أعماله ، أو أغلبها على الأقل …

العراب

وعرفت أن ” أحمد خالد توفيق ” وهو في الأصل طبيب واستشاري في قسم أمراض الباطنة المتوطنة في جامعة طنطا ، صاحب أشهر سلسلة من هذه الإصدارات المُثيرة عن تلك الدار أو غيرها من دور للنشر ، حتى بات يُعرف في الأوساط الأدبية باسم ” العراب ” أي الرجل الذي قام بدور الوسيط بين الشباب والإرتباط بعالم القراءة !!

وعرفت أيضاً أنه دخل في عالم الكتابة بمنطق الهاوي لا  بدافع الإحتراف ، وبدون مساندة قوية من الدكتور ” نبيل فاروق ” رحمه الله ، وهو الأديب الرائد في هذا المجال ، كان من الممكن أن يتوقف  ” أحمد خالد توفيق ” بعد شهر واحد من محاولته الدخول في عالم الكتابة والخيال ، سواء كان خيالاً علمياً أو قصص الرعب وحكايات المغامرة والسياحة في البوادي والصحراء ، وهي جميعها أنواع من الكتابة السهلة والمُثيرة والخفيفة التي تأخذ بعقول الصبية والشباب وتذهب بهم بعيداً الى عالم واسع من الخيال والسحر الجميل ….

الجميل في ” أحمد خالد توفيق ” أنه ظل وفياً لإختياراته كهاوٍ ، فقد ظّلّ مُتمسكاً بمهنته كطبيب ، ولم يُغادر عمله كإستشاري في كلية الطب بجامعة طنطا مثل ما فعل  الكثير من أقرانه الذين احترفوا مهنة الكتابة وتركوا وراءهم عالم الطب والمّرضىّ  والمستشفيات ، بل والأكثر من ذلك لم يُغادر ” أحمد خالد توفيق ” مدينته طنطا  ليستوطن ” القاهرة ” عاصمة الثقافة ومدينة المُثَقَّفين والكُتَّاب والمُبدعين ، شأن العشرات من أبناء جيله ..

ظّلّ هذا المُبدع الجميل ، رحمه الله ، والذي ولد سنة ١٩٦٢، وفياً لمدينته ، طنطا ،  ولم يأت الى القاهرة سوى بوصفه زائراً ، يؤدي مهمته عَلى عّجّلْ ويعود الى مدينته في اليوم نفسه ، غير أن القاهرة ، ولأقدار لا يعلمها سوى الله ، كانت هي المحطة الأخيرة في حياته ، فقد أسلّمّ الروح في شهر ابريل من سنة ٢٠١٨ في مستشفي الدمرداش ، المُستشفى التعليمي ، لكلية الطب بجامعة عين شمس ، ليعود الى مدينته ، مُحتضناً ثراها الطيب بعد رحلة من العمر لم تطل ، فقد ترك الحياة بعد  حوالي ستة  وخمسين عاماً قضاها في دنيانا ، وبعد سلسلة من الكتابات المتنوعة التي إفتتحها بقصص الخيال العلمي ، ومُنتهياً بالرواية ، مروراً بالمئات من المقالات النقدية والثقافية والإجتماعية ، بل والسياسية ، بيد أنها تّصُبَ جميعها في دائرة التنوير والتحديث والإستنارة …

لم يتوقف فضل أصغر أبنائي عند هذا الحد ، بل فاجأني ” جمال ” ذات يوم بأن أهداني رواية ” يوتوبيا ” وهي أهم الأعمال الإبداعية  لأحمد خالد توفيق  ، وربما نقول أشهرها ، فقد صدرت طبعتها الأولى في سنة ٢٠٠٨ عن دار ” ميريت ” بالقاهرة ، وبعدها نّشرت له دار ” الشروق ” المصرية رواية ” مثل إيكاروس ” سنة ٢٠١٥ ، وبعد ثلاث سنوات نُشرت له عن نفس الدار رواية ” شآبيب ” فيما صدرت في سنة ٢٠١٩ وبعد عام من رحيله  رواية ” رفقاء الليل ” عن دار ” الكرمة ” والتي سبق أن نّشرت له في عام ٢٠١٦ روايته ” في ممر الفئران ” وقد صدرت تلك الرواية من قبل في سلسلة ” ما وراء الطبيعة ” تحت عنوان ” أسطورة أرض الظلام ” ولكن بمعالجة جديدة وجذرية ….

في ممر الفئرانخيال .. أم حقيقة؟

لكن نعود الى ” يوتوبيا ” فهي الأوفر حظاً عن مثيلاتها من مؤلفات ” أحمد خالد توفيق ” الإبداعية ، فالرواية من القطع المُعتاد لتلك الأعمال الأدبية ، وتُناهز صفحاتها مائتي  صفحة مُوزعة عَلى خمسة أجزاء ، تتناوب مُسمياتها بين كلمة ” الصياد ” وهو عنوان الجزء الأول يتبعها الجزء الثاني بإسم ” الفريسة ” وهكذا حتى نهاية الرواية مع الجزء الخامس وهو ” الصياد ” لكن هذا التقسيم المُتبادل بين ” الصياد والفريسة ” يحكي وقائع حرص المؤلف أن يُصدرها بملاحظة اعتاد بعض الكُتّاب أن يأتوا عَلى ذكرها مع الصفحة الأولى لروايتهم ، غير أن ” أحمد خالد توفيق ” جاء بعبارة مُلتبسة ، تجمع ما بين النقيضين ، فهي تحمل ما يوحي بالنفي ، وفي الوقت نفسه تحمل ما يأتي بمعنى التأكيد !!

فهو يقول :

” يوتوبيا المذكورة هنا موضع تّخيلي ، وكذلك الشخصيات التي تعيش فيها ومن حولها ، وإن كان المؤلف يُدرك يقيناً أن هذا المكان سيكون موجوداً عّمّا قريب. أي تّشابه للمكان والشخصيات مع أماكن وشخصيات في الواقع الحالي هو مّحض مُصادفة غير مقصودة ” .

وهكذا نُفاجأ بأول الكلمات التي تعبر عن الإرتباك !!

هل الرواية هي تعبير عن موضوع تّخيٌلي ؟ أم هي تجسيد لواقع حقيقي ؟!

في الصفحات الأولى من الرواية نعرف أن ” يوتوبيا ” هذه هي قرُى ومنتجعات الساحل الشمالي الواقع في شمال غرب الإسكندرية والمُطل عَلى شاطئ البحر والمُمتد حتى مرسى مطروح ويضم عشرات القرى السياحية والمُنتجعات التي لا يقطُنها سوى بضعة ألآف من المٌلاك ، ولا يُسمح بدخولها لأحد من غير هؤلاء سوى من جاء لكي يخدم ويُنظف ويزرع الحدائق ويرفع القمامة ويمسح الطرقات ويتولى الحراسة !!

هذا هو الواقع الذي نعرفه جميعاً ، ولكن الأمر يختلف عند ” أحمد خالد توفيق ” فقد أطلق عَلى هذا العالم المُتعالي والمُنعزل أسم ” يوتوبيا ” أي المدينة الأسطورية الحالمة ، والتي تجمع أهلها عَلى عشق الفضيلة ولا  تعرف الرذيلة ولا تُقارب الشر من قريب أو بعيد …

هذا هو المفهوم العلمي لمعنى ” يوتوبيا ” لكن المؤلف جعلها قلعة تحميها قوات البحرية الأمريكية المعروفة بأسم ” المارينز ” وتنطلق الطائرات برُكابها من داخل ” يوتوبيا ” الى خارج البلاد ، في حماية الأسطول السادس الأمريكي الرابض في عمق البحر الأبيض المتوسط ، وأسباب ذلك عند المؤلف أن كل أثرياء مصر ومليونيراتها وحكامها تركوا كل المدن والقُرىّ والمحافظات لباقي الشعب الجائع والجاهل ليتحصنوا في تلك القلعة المُسماة ” يوتوبيا ” ففيها يسكن أباطرة المال وجهابذة الإقتصاد ، وملوك الصناعة ، وأثرياء البورصة ، وملكات الجمال ، وعصابات المال الحرام ، ومقار الشركات الدولية والبنوك العالمية الشهيرة ، عالم قائم بذاته ولا مثيل له في طول البلاد وعرضها !!

أما شبابهم من فتيان وفتيات فهم الغارقون في كل ما هو تافه ووضيع وخسيس !!

فهم لا يعرفون سوى الرذيلة رغم تعليمهم الجيد وإتقان الواحد منهو لأكثر من لغة ، فالكل يعرف ويتعاطى كل الأنواع الغريبة والعجيبة من المخدرات الواردة من أوروبا ، فضلاً عن شرب  أجود وأفخر أنواع الخمور التي تأتي بالطائرات من جميع أنحاء المعمورة !!

فماذا يشغل هؤلاء الشباب ، الذين لا تربطهم بأسرهم أدنى رابط ، وأوهى صلة !؟

لا يشغلهم سوى الجنس ، فالحدود الفاصلة بين الحلال والحرام غير موجودة ، ورعاية الأباء للأبناء هي الوهم ذاته !!

وعندما يصلون الى حد الإشباع من هذا الجنس الحرام ، عليهم أن يبحثوا عن وسيلة أخرى لشغل حياتهم التي يحتويها الفراغ ، وتملؤها التفاهة الى حد الإجرام !!

فماذا عساهم فاعلون ؟؟…. نكمل فيى الحلقة القادمة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock