أسفرت الانتخابات التي شهدتها انجلترا الخميس ٦ مايو الجاري عن نجاحات عدة لحزب المحافظين الحاكم ورئيس الحكومة بوريس جونسون وعن هزائم وخيبات أمل جديدة لحزب العمال البعيد عن السلطة منذ ١١ عاما متوالية .
المثير للدهشة وربما للمرارة هو ان جونسون حقق هذا التقدم الكبير في الوقت الذي تكشفت فيه خمس فضائح فساد متتابعة إما فضائح شخصية له او لقيادات في حزب المحافظين كانت واحدة منها كفيلة في اوقات اخري ان تطيح به وربما بالحزب كله من الحكم .
فما هو الشئ الذي يجعل الناخب البريطاني يقوم بالتغاضي عن اتهامات مشينة باستغلال المال العام او قضاء رئيس حكومته وخطيبته اجازات وعطلات فاخرة علي حساب رجال اعمال لهم مصالحهم مع الحكومة او اشتراك القيادي في الحزب ورئيس الوزراء الاسبق ديفيد كاميرون بمعاونة وزراء في حكومة جونسون بمنح شركة يعمل فيها وله اسهم فيها عقودا حكومية بالملايين .. الخ . وبدلا من ان يستخدم الناخبون آلية الاقتراع الديمقراطية لمعاقبة المحافظين علي تهم الفساد ومنح اصواتهم لحزب المعارضة قاموا بزيادة تاييدهم للحزب ومنحه مكاسب انتخابية جديدة ( مقعد دائرة هارتبول ) جعلت جونسون يطمح لان يكون هو اول من يكرر انجاز مارجريت تاتشر الاستثنائي في البقاء في ١٠ دواننج ستريت اكثر من عشرة سنوات متصلة .
We have a PM who is a serial liar
Sadly I’m not allowed to say that in Parliament, so I’ll say it here
MPs cannot hold him to account if he lies with impunity
I’m raising this with the Speaker
PM cannot be allowed to continue treating Parliament (& country) with contempt pic.twitter.com/5CLB7nu88O
— Caroline Lucas (@CarolineLucas) April 26, 2021
((انه الاقتصاد ياغبي)) يثبت مرة اخري فعاليته ((وهو الشعار الذي اطلقه جيمس كارفيل المخطط الاستراتيجي في حملة بيل كلينتون ١٩٩١ الانتخابية الرئاسية وتمكن به من الاطاحة بجورج بوش الاب المنتصر في حرب الصحراء (حرب تحرير الكويت) من البيت الابيض وحرمه من ولاية ثانية .)).
فالمحافظون الذين لايمكن الان تجاهل انهم يديرون الاقتصاد لصالح الاغنياء بالدرجة الاولي او ان مستوي تضارب المصالح واستفادتهم المباشرة كحزب ووزراء واشخاص من عقود حكومية للقطاع الخاص قد صار صعبا علي الاخفاء ، تمكنوا رغم ذلك من ادارة ازمة كوفيد-١٩ خاصة الموجة الثانية بطريقة كفؤة في اتجاهين الاول :خاص بحملة تطعيم السكان باللقاح
، والثاني : هو الحفاظ علي مستويات الدخول في المملكة المتحدة في منطقة آمنة منعت حدوث انهيار في مستويات المعيشة بسبب توقف الاقتصاد بسبب الوباء .
في النقطة الاولي
تمكن جونسون من استيعاب الأخطاء الفادحة التي وقع فيها في التعامل مع موجة كورونا الاولي والتي تمثلت اساسا في التاخر غير المبرر في فرض اغلاق تام [ أخطاء كلفت المملكة المتحدة مايقرب من ١٢٨ الف من ارواح سكانها] وقام باغلاق تام وسريع مع بدء الموجة الثانية ثم تحرك مستفيدا من نجاح جامعة اكسفورد العريقة في تطوير لقاح استرازينكا في شن اكبر وانجح حملة تطعيم باللقاح في اوروبا -متقدما حتي علي المانيا اعظم اقتصاد في اوروبا – ففي حين وصل عدد من حصلوا علي اللقاح كجرعة اولي وثانية في المملكة المتحدةالي حوالي ٥٣ مليون[ اجمالي عدد السكان ٦٦ مليون ] لم يزد عدد هؤ لاء في المانيا علي ٢٣ مليون [اجمالي عدد السكان ٨٢ مليون] ،نتيجة ذلك ليس فقط حماية الثروة السكانية ولكنه ايضا جعل انهاء الاغلاق واعادة فتح الاقتصاد كاملا الشهر المقبل وقبل جميع بلدان اوروبا أمرا ممكنا .
في النقطة الثانية وربما الاهم
تمكن جونسون عبر برنامج لدفع رواتب مايقرب من (١٠ )ملايين شخص من العاملين كلف الخزانة العامة مايقرب من (٥٨ ) بليون جنيه استرليني من الحفاظ علي مستويات معيشة الطبقة العاملة والوسطي في منطقة امنة من الانهيار بسبب تداعيات الوباء واغلاق الاعمال وفي الوقت نفسه وضع القطاع الخاص والمستثمرين الأغنياء والمتوسطين ( خاصة مع حزمة اعفاءات وتيسيرات وقروض بدون فوائد غير مسبوقة قدمت لهم ايضا ) في وضع متميز يمكنهم من الانطلاق بمجرد رفع الاغلاق [تم جزئيا في ابريل ومايو] وقد وصل الامر الي ان بنك انجلترا [ البنك المركزي ] اعلن ( في يوم الانتخابات وهو توقيت مريب من حيث انه يخدم تماما توجيه الناخبين للتصويت للحكومة القائمة )ان الاقتصاد البريطاني لن يتعافي فقط من اثار الوباء ولكن سيحقق هذا العام نسبة نمو ٧،٢٥ ٪ وهواعلي معدل نمو له منذ الحرب العالمية الثانية بل وتوقعت مجلة [سبكتاتور ] ان تصبح بريطانيا -التي تقع الان في المرتبة الثالثة اوروبيا بعد المانيا وفرنسا – ان تصبح بعد عقد من السنوات الاقتصاد الاول في اوروبا بدلا من المانيا .
ذهب المحافظون وجونسون الي الانتخابات والناخبين اذن ومعهم انجاز مواجهة ازمة كوفيد ووضع الاقتصاد علي اهبة الانطلاق لتعويض خسائر الوباء بل ومضاعفة معدل النمو مؤَيَدين باعلام وصحافة لم يعودا قادرين علي إخفاء انحيازهما لحكومة يمين الوسط والتهوين من قضايا فسادهم .
فبماذا ذهب العمال الي الناخبين؟
ذهبوا تقريبا بكل اسباب الفشل والتي يمكن حصرها ايضا في نقطتين رئيستين :
النقطة الاولي
هي قيادة باهتة محرومة من الكاريزما والمواهب السياسية متمثلة في كير ستارمر زعيم الحزب الجديد -الذي جاء خلفا للزعيم اليساري للحزب جيريمي كوربين – لدرجة ان الصحف البريطانيا تصفه بانه زعيم المعارضة الذي لم يتم الاحساس بوجوده او الشعور بحضور سياسي له . ويري مراقبون انه اشبه بموظف بيروقراطي كبير عنه كسياسي لامع المواهب لاذع العبارة قوي الحجة وهي مواهب مهمة جدا في السجال البرلماني في مجلس العموم بين الحكومة والمعارضة خاصة في يوم الاستجواب الاسبوعي لرئيس الوز راء.
النقطة الثانية
هي انقضاض ستارمر وفريقه علي النهج اليساري للحزب وتنصله من تعهده بالالتزام (بمانيفستو) الحزب ذي الطابع الاشتراكي الديمقراطي لعام ٢٠١٩ والذي يتضمن عمليات تاميم لمرافق عامة وزيادة جدية في الحد الادني من الرواتب وبناء مليون منزل لمحدودي الدخل وزيادة برامج الرفاه الاجتماعي للفقراء ودعم التعليم ونظام العلاج المجاني .. الخ . وجعل ذلك الانقضاض حزب العمال حزبا اقرب الي اليمين منه الي اليسار بسياسات غامضة وباهتة نفرت منه النقابات العمالية اهم قواعد تاييده وشرائح الطبقة الوسطي والشباب المعولم الذي كان قد وجد في النهج اليساري الواضح لكوريين بارقة امل في تغيير جوهري في الاختلالات الاجتماعية الداخلية واختلالات السياسة الخارجية التابعة تبعية تامة للولايات المتحدة .
و كانت النتيجة هي احجام وامتناع نسبة من مناصري حزب العمال عن الذهاب للانتخابات شعورا بخيبة الامل في القيادة وفي النهج شيه اليميني لها الذي يجعل الفروق بينها وبين المحافظين غير محسوسة وهو ما فتح المجال لقواعد المحافظين ان تتقدم في معاقل العمال التقليدية وللمترددين من الناخبين ان يحسموا امورهم مع المحافظين علي قاعدة: علي الاقل انهم وان كانت تحوم حولهم تهم الفساد الا انهم واضحون ايدولوجيا وقادرون علي الانجاز العملي في النهاية .
لكن نجاح المحافظين لايعني ان عناصر عدم الثقة في النظام الديمقراطي قد تراجعت بل ربما العكس هو الصحيح فكل المؤشرات تدل علي اختمار ازمة بنيوية وتزايد علامات الشك في مصداقية المؤسسات العريقة التي لطالما تفاخر بها البريطانيون ..من اول البرلمان وحتي هيئة الاذاعة البريطانية .. ولكن لهذا حديث آخر .