عرض وترجمة: أحمد بركات
كان ينبغي لواشنطن أن تبصر هذه الموجة الجديدة من العنف والقتل والدمار التي تجتاح الآن إسرائيل والأراضي الفلسطينية التي تحتلها وتهيمن عليها؛ إذ يمثل هذا الانفجار نتيجة حتمية للإنكار الدائم للحقوق والحريات الفلسطينية من قبل الإسرائيليين، ومنظومة الهيمنة والتمييز التي تفرضها إسرائيل على جميع أوجه الحياة الفلسطينية، والحصار الدائم لغزة الذي يجعل الحياة أكثر قسوة وشظفا.
رغم ذلك، تتبنى الحكومة الأميركية تحت حكم جو بايدن موقفا متكررا لا ينضح سوى بمجرد دعوات جوفاء لكلا الطرفين إلى ضبط النفس، ومنع اتخاذ أي إجراء على مستوى مجلس الأمن في الأمم المتحدة، والتستر وراء فكرة عبثية وهزلية مفادها أن واشنطن ليس لها تأثير على واحدة من أقرب حلفائها وأكبر متلق لمساعداتها.
وفي الأسابيع الأخيرة، شهدت الإجراءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تصعيدا كبيرا في القدس الشرقية، خاصة داخل وحول المسجد الأقصى والمدينة القديمة، وتدابير شرطية استفزازية، ومنح الضوء الأخضر لمسيرات ينظمها متطرفون يهود إسرائيليون، ووضع خطط لعمليات إخلاء قسري لعائلات فلسطينية من منازلهم في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية.
تزامن هذا مع غضب فلسطيني داخلي جامح على خلفية تأجيل الانتخابات الفلسطينية، التي كان من المزمع إجراؤها بعد توقف دام 15 عاما، إلى أجل غير مسمى.
وتواجه الإدارة الأمريكية ، التي بدت مصممة على عدم منح الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط وصراعها الإسرائيلي الفلسطيني على وجه التحديد، الآن احتمال التورط في حرب طويلة الأمد. ويتعين على فريق الخبراء الدبلوماسيين في فريق بايدن للأمن القومي أن يتعمقوا على نحو أفضل في التعرف إلى خبراتهم الحكومية الخاصة التي أظهرت بجلاء أن الاجتماعات ومذكرات كبار المسؤولين ومساعديهم يمكن بسهولة أن تستهلكها صراعات الشرق الأوسط، خاصة إذا قبعت واشنطن بعيدة عن تطوراتها.
وبينما يلعب الإسرائيليون والفلسطينيون أدوار البطولة في الدراما الحالية، تقوم واشنطن بدور اللاعب الخارجي الأكثر تأثيرا بلا منازع. وإذا استمرت واشنطن في التعامل مع هذا الملف على نحو خاطئ، فإن عواقب إنكار إسرائيل للحق الفلسطيني ستفرض حتما نفسها على الأجندة الخارجية الأمريكية التي يفضل أن تركز اهتماماتها في أماكن أخرى من العالم.
وإلى جانب الإلهاء وتشتيت جهود السياسة الخارجية الأمريكية، هناك خطران آخران، على الأقل، يلوحان في الأفق بقوة. أولهما يتعلق بالداخل؛ فجزء من الحزب الديمقراطي والكتلة البرلمانية في الكونغرس يصران على تطبيق المعايير الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي، ما يثير قلق الجناح الأكثر محافظة داخل الحزب، الذي منح استثناءات تاريخية لإسرائيل.
الممارسات الإسرائيلية التي يؤكدون أنها تشكل جريمة تمييز عنصري مكتملة الأركان في الوقت الذي يحتشد فيها الديمقراطيون بقوة وبصورة متزايدة تحت لواء العدالة العرقية، ما سيصعب من استمرار فكرة “العدل المنشود للجميع فيما عدا الفلسطينيين”. وحتى إذا جاز هذا الخطاب البهلواني على الداخل، فسيكون من الصعوبة بمكان الترويج له عالميا، إذ أن رسالة “عودة أمريكا” تدندن أكثر ما تدندن حول عودة قيادة دولة الالتزام بالقانون وتعزيز المعايير، واحترام الحقوق لثورة عودة الديمقراطيات.
تشجيع التطرف الإسرائيلي
لطالما كانت السياسة الخارجية الأمريكية ماهرة في إدارة التناقض وازدواجية المعايير، ولكن مجافاة هذه الالتزامات والقيم المعلنة عندما يتعلق الأمر بالممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين يعرض الحكومة الأمريكية إلى نقاط ضعف يمكن لآخرين العزف عليها بسهولة؛ إذ ليس من الصعب تخيل ما يدور بذهن بكين: “تقولون :مسلمو الأويغور، ونحن نقول :الفلسطينيون”.
في المقابل، ستكون مقاربة الحقوق في السياسة الأمريكية في المنطقة أكثر اتساقا مع سياسة بايدن الخارجية، وستتطلب أقصى ما ستتطلب استثمارا اقل من جانب الولايات المتحدة في هذا الصراع في حال سلكت الإدارة الجديدة مسلكا أكثر عدلا وموضوعية تجاه هذا الصراع التاريخي. كما يمكن أن يؤدي ذلك إلى قلب موازين الاتجاهات السلبية الحالية ووضع رافعات جديدة يمكن أن تؤسَس عليها جهود السلام المستقبلية.
وفي سبيل تحقيق ذلك لن يكفي مجرد السير في اتجاه معاكس للتجاوزات الصارخة التي اقترفتها إدارة ترامب بهذا الشأن. كما كان الوضع السابق الذي تبنته الإدارات الديمقراطية السابقة يتألف فعليا من هيكلية تحفيزية مقلوبة عملت ضد السلام، وتحديدا عن طريق ضمان إفلات إسرائيل من العقاب، ومن ثم تشجيع التوجهات الأكثر تطرفا في السياسات الإسرائيلية، وما ترتب عليه من استنزاف الجهود ورأس المال الدبلوماسي الأمريكي.
إلى جانب ذلك، ليس هذا هو التوقيت المناسب لتقديم واشنطن مخططا جديدا للحل، أو لإعادة تركيز الجهود على دعم عملية سلام عانت طويلا من قانون تراجع العائدات، وفشلت مرارا في تحقيق أي نتيجة ذات معنى، ما وضع المفاوضات والعبث الإقليمي فوق حقوق الشعب الفلسطيني.
وكانت السياسة الأمريكية ماهرة في ضمان الأمن والرفاهة الإسرائيلية، لكنها كانت سيئة على نحو مذهل في تطبيق هذه المعايير على الفلسطينيين، وفي مواجهة نظام العزل واللامساواة المعمول به على الأرض.
وليس من شك في أن الأمور ستزداد سوءا على سوء في حال استمرار واشنطن في المضي قدما على هذا النحو، حتى في حال استبدال الهدم الدبلوماسي الذي مارسته الإدارات السابقة بنوايا حسنة من قبل خليفتها. وتتمثل الطريقة الوحيدة لتغيير هذا الوضع في التركيز على حقوق الإنسان، والكرامة، وحق التمتع بالحرية والمساواة.
ويتجلى التاثير المشوه للسياسات الأمريكية أكثر ما يتجلى عندما يتعلق الأمر بالسياسات والرأي العام الإسرائيلي، إذ أسهم التساهل الأميركي بحق الممارسات الإسرائيلية الذي جاء مناقضا لأعراف السياسة الأمريكية والقانون الدولي في تهميش الأصوات المؤيدة للسلام، ومكن، على الجانب الآخر، ذهنية “يمكننا الخلاص على أي نحو من الأنحاء”.
وفشلت إدارة بايدن، برغم التزامها المفترض ببث الروح من جديد في جسد الديمقراطية على المستوى العالمي في دعم الانتخابات الفلسطينية التي طال انتظارها. وتوارت الحكومة الأمريكية بدلا من ذلك وراء ستار تصريحات تزعم أن الانتخابات شأن فلسطيني داخلي، في حين أن معسكر إسرائيل والولايات المتحدة ـ إلى جانب شركائها روسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي ـ هو من يمنع التصويت الفلسطيني في القدس الشرقية بموجب فرمان رئاسي في السلطة الفلسطينية، ووضع مطالب خاصة على كاهل حماس لا تهدف إلى حماية الحياة المدنية في إسرائيل بقدر ما تهدف إلى تحييد آفاق المصالحة الفلسطينية.
قد يكون الصراع الحالي مجرد صورة عابرة يتكفل الزمن بوضع نهاية مفاجئة لها كما تكفل بمفاجأة إطلاق شرارتها الأولى. لكن في ظل غياب تغيير جذري في المقاربة الأمريكية فإن تجدد الصراع سيصير حتمية لا مناص منها، ومع كل تكرار للصراع ستنوء الولايات المتحدة بحمل شرق أوسطي أكثر ثقلا، في الوقت الذي تسعى فيه إلى استثمار جهودها في أماكن أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زها حسن: زميل زائر في “مؤسسة كارنيغي”، ومستشار سابق للمفاوضيين الفلسطينيين.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الصلي باللغة الإنجليزية من هنا