عرض وترجمة: أحمد بركات
بعدما غادر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منصبه في يناير الماضي ، تنفس كثيرون من المعنيين بالعلاقة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة المدنية في أمريكا الصعداء، وما كان ينبغي لهم.
صحيح أن ترامب استخدم العسكري كدعم سياسي، مشيرا إلى بعض قياداته بـ “جنرالاتي”، وصحيح أنه واجه “بنتاجون” استطاع أن يبطئ من وتيرة محاولاته لسحب القوات من ساحات المعارك في جميع أنحاء العالم، إلا أن المشكلات بين ضباط الجيش والمسؤولين المنتخبين لم تولد على يد ترامب، ولم تنته مع تولي جو بايدن سدة الحكم الأمريكي.
في واقع الأمر، تضرب السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية بجذورها في الدستور الأمريكي. وبرغم حرص الكونجرس، بداية من عام 1947، على بناء مؤسسات قوية تهدف إلى المحافظة على العلاقة بين المدني والعسكري، إلا أنه، على مدى العقود الثلاثة الماضية، بدأت الهيمنة المدنية في التراجع بهدوء، وإن كان بإطراد ووتيرة ثابتة.
وإذا كان كبار ضباط الجيش الأمريكي لا يزالون يتبعون الأوامر ويلتزمون التعليمات ويتجنبون ما يمكن تسميته ’عصيانا علنيا‘، إلا أن نفوذهم تنامى بشكل لافت في وقت تراجعت فيه الرقابة، وانزوت آليات المحاسبة.
واليوم، يشعر الرؤساء الأمريكيون في العقود الأخيرة بالقلق من المعارضة العسكرية لسياساتهم، وصار لزاما عليهم مراجعة حساباتهم بدقة مع مؤسسة تنفذ التوجيهات بانتقائية شديدة. وفي كثير من الأحيان، يقوم القادة العسكريون غير المنتخبين بـ “هندسة” خيارات المدنيين بحيث يتمكن الجنرالات من إدارة الحروب على النحو الذي يرونه مناسبا.
والحقيقة أن الهيمنة المدنية لا تتعلق فقط بما إذا كان القادة العسكريون يتحدون الأوامر صراحة، أو يريدون الإطاحة بالحكومة، وإنما تتعلق بالحد الذي يستطيع عنده القادة السياسيون أن يدركوا الأهداف التي من أجلها انتخبهم الشعب الأمريكي لإنجازها.
هنا، لا تعد الهيمنة المدنية ثنائية، وإنما تقاس بدرجات. ولأن المؤسسة العسكرية تختبر المعلومات التي يحتاج إليها المدنيون، وتنفذ الأوامر التي يصدرونها، فإنه بإمكانها أن تمارس نفوذا عظيما على صناعة القرار المدني. وحتى إذا كانت القرارت النهائية لا تزال بيد المسؤولين المنتخبين، فربما لا تتوافر لهؤلاء هيمنة عملية قوية إذا كان الجنرالات يفرضون كل الخيارات، أو يبطئون وتيرة تنفيذها، كما يفعلون الآن في كثير من الأحيان.
وتمثل إعادة ضبط هذه العلاقة مهمة شاقة، إذ يتطلب ذلك أن يواصل الكونجرس بإصرار ممارسة دوره الرقابي، والاستمرار في محاسبة العسكريين بغض النظر عن هوية الرئيس الأمريكي، والمعسكر السياسي الذي ينتمي إليه.
كما يتطلب الأمر استعانة وزراء الدفاع بفريق مدني محنك يتألف من سياسيين معينين وموظفين مدنيين. ولكن الأهم من ذلك، أنه يتطلب جماهير أكثر وعيا ورغبة في محاسبة كل من القادة المدنيين والعسكريين على السواء.
تآكل السيطرة المدنية
ليس من الصعب العثور على أدلة تؤكد تراجع الهيمنة المدنية على المؤسسة العسكرية. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، قام كبار القادة العسكريين بإعاقة أو تأجيل القرارات الرئاسية المتعلقة بالسياسات العسكرية على نحو منتظم. وفي عام 1993، ساعد كولين باول، رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، على منع الرئيس بيل كلينتون من إنهاء السياسة التي حظرت على المثليين الانضمام إلى القوات المسلحة، ما أدى إلى تسوية “لا تسأل، ولا تخبر” غير المعمول بها الآن.
من جانبهما، اشتكى كل من الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب من محاصرة الضباط لهما من خلال الحد من الخيارات العسكرية وتسريب المعلومات، وإجبارهما على قبول زيادة القوات على مضض منهما.
وأشار جنرالات أوباما إلى أنهم لن يقبلوا بأقل من مقاومة شرسة للتمرد في أفغانستان، برغم معارضة البيت الأبيض. وقام أوباما لاحقا بعزل ستانلي ماكريستال، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان آنذاك، بعد أن انتقد مسؤولي البيت الأبيض في تصريحات للصحافيين.
ومن جانبه، عانى ترامب من معارضة القادة العسكريين لأوامره بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان وسوريا، وتراجع ترامب في النهاية بعدما أخبره القادة العسكريون أن هذه السياسات ستضر بالأمن القومي الأمريكي.
بالطبع، لا يستطيع القادة العسكريون إنفاذ ما يريدونه طوال الوقت، لكنهم في أغلب الأحيان يحققون أكثر مما ينبغي لهم تحقيقه. كما تمتد سلطتهم إلى ما هو أبعد من القرارات التي تتصدر العناوين فيما يتعلق بنشر القوات في الخارج أو خفض أعدادها. ويتجلى تأثير المؤسسة العسكرية في مناسبات لا تحصى عبر مناورات بيروقراطية داخل البنتاجون، وفي مناقشات السياسات في البيت الأبيض، وأثناء الشهادة في قضية الكابيتول هيل.
وتوجه هذه التفاعلات اليومية تقريبا، ربما أكثر من أي شيء آخر، صناعة القرار بعيدا عن المدنيين الموجودين في مكتب وزير الدفاع وصوب العسكريين. وفي البنتاغون، على سبيل المثال، يستبق القادة العسكريون في كثير من الأحيان نصائح وتحليلات المدنيين، عبر إرسال مقترحاتهم مباشرة إلى وزير الدفاع، متجاوزين الإجراءات التي لا يعفي المدنيون أنفسهم من المرور بها.
وتوجد مؤشرات على تآكل السيطرة المدنية خارج البنتاجون أيضا؛ إذ قلما يطلب الكونجرس خضوع العسكريين للسلطة المدنية، وإنما يزن الأمور بشكل انتقائي ولأسباب حزبية. ففي ولاية الرئيس أوباما، على سبيل المثال، أشار بعض المراقبين وعضو واحد في الكونجرس على الأقل إلى ضرورة استقالة مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة احتجاجا على الطريقة التي كان يدير بها الرئيس حملة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
كان الهدف هو استخدام دور ديمبسي، ككبير للمستشارين العسكريين للرئيس، كورقة ضغط في صراع حزبي يتعلق بسياسة أوباما الخارجية. وإبان رئاسة ترامب، أشاد كثير من الديمقراطيين بالجنرالات المتقاعدين والعاملين على السواء الذين تصدوا لقرارات الرئيس. وشملت “قائمة الشرف” كلا من جيمس ماتيس، وزير الدفاع، وجون كيلي، وزير الأمن الداخلي ومدير البيت الأبيض، وماكماستر، مستشار الأمن القومي لترامب.
إضافة إلى ذلك، حث بعض معارضي ترامب كبار القادة العسكريين على التفكير في عزل ترامب من منصبه. وفي أغسطس 2020، كتب ضابطان متقاعدان معروفان، هما جون ناجل وبول ينجليتج، رسالة مفتوحة إلى مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان، للقيام بهذه المهمة اذا ما رفض ترامب ترك منصبه حال خسارته الانتخابات. وبرغم أن هذه الجهود ربما طمأنت المتخوفين من سياسات ترامب العشوائية، إلا أنها قوضت الهيمنة المدنية من خلال الإشارة إلى أن مهمة الجيش تتضمن إبقاء السلطة التنفيذية تحت المراقبة.
(يُتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص باللغة الإنجليزية من هنا