أعاد الإضراب العام والشامل الذي بدأه الشعب الفلسطيني في كل من الداخل المحتل عام ١٩٤٨ والضفة الغربية إلى الأذهان تجربة تاريخية مماثلة خاضها نفس الشعب في ثلاثينات القرن العشرين ووصفها بعض المؤرخين بأنها تجربة الإضراب الأطول في التاريخ الحديث حيث استمر الإضراب حينها لمدة ستة أشهر متتالية.
ولفهم تلك التجربة٫ لا بد من العودة إلى جذورها٫ حيث كان ذلك الإضراب العام قسماً من ثورة عام ١٩٣٦ في فلسطين التي بات المؤرخون يشيرون إليها باعتبارها الثورة الفلسطينية الكبرى والتي امتدت ما بين عامي ١٩٣٦ و١٩٣٩.
كانت شرارة الثورة هي خبر استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام مع مجموعة من رفاقه في معركة غير متكافئة مع قوات الاستعمار البريطاني في أحراش يعبد القريبة من مدينه جنين في الضفة الغربية في شهر نوفمبر من عام ١٩٣٥.
وسرعان ما سرت أخبار معركة يعبد ونتيجتها كالنار في الهشيم في مختلف أنحاء فلسطين وأبى القسَّاميون أو تلاميذ القسام وعلى رأسهم قائدهم الجديد الشيخ فرحان السعدي أن يلقوا السلاح بل بدأوا بمهاجمه قطعان المستعمرين الصهاينة في قريتي عنبتا ونورس في الضفة الغربية معلنين بذلك بداية الثورة كما شهدت مدينة يافا الساحلية صدامات عنيفة بين العرب والصهاينة.
مطالب عادلة
وعلى امتداد شهر أبريل من عام ١٩٣٦ تشكلت اللجان الوطنية لتنظيم الجماهير في معظم المدن الكبرى بل وفي بعض القرى ايضاً وبحلول الثاني والعشرين من ذلك الشهر اجتمع ممثلون عن الأحزاب العربية المختلفة في مدينة نابلس وقرروا بالإجماع دعوة الجماهير في مختلف المناطق للشروع في اضراب عام.
استجاب العمال والموظفون لدعوة الإضراب ولعبت القيادات المحلية ممثلة في رجال الدين ورؤوس العائلات المعروفة (آل الحسيني نموذجاً) دوراً في تنظيمه وبحلول الخامس والعشرين من أبريل عام ١٩٣٦ تشكلت اللجنة العربية العليا لقيادة الإضراب واختارت الحاج أمين الحسيني مفتي القدس رئيساً لها واعلنت استمرار الإضراب حتى تستجيب سلطات الاستعمار البريطاني لمطالبها التي تمثلت في : وقف الهجرات اليهودية الى أرض فلسطين وحظر نقل ملكية الأراضي العربية الى الصهاينة وتشكيل حكومة وطنية تكون مسئولة أمام مجلس نيابي منتخب.
التزمت الجماهير في الريف والمدن على حد سواء بالإضراب٫ الأمر الذي واجهته الإدارة الانجليزية بقدر كبير من العنف والقمع ففرضت في البداية غرامات مالية باهظة على المدن والقرى التي تشارك في الاضراب ثم لجأت إلى أسلوب تبناه الصهاينة فيما بعد وهو هدم البيوت وهو ما شهدته مدينة يافا حين أقدم الانجليز على هدم أحياء بأسرها اضافة الى مئات القرى المجاورة.
إلا أن هذا لم يفُتُّ في عضد المضربين الذين واصلوا إضرابهم وخاصة بعد أن تشكلت لجان مناصرة لدعم نضالهم في عدة عواصم عربية مجاورة مثل القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد.
استمر الاضراب في سابقة تاريخية لمدة ستة اشهر كاملة (ابريل- نوفمبر ١٩٣٦) وتزامن مع هجمات مسلحة في الريف الفلسطيني استهدفت القوات الانجليزية والمستعمرات الصهيونية على حد سواء٫ فكان الاضراب ظهيراً للنضال المسلح وبالعكس.
لم يستطع لا الانجليز ولا الصهاينة أن يُنهوا الإضراب٫ وإنما أنهاه -ويا للمفارقة- الحكام العرب٫ حيث استجابت القيادة العربية لدعوة أطلقها الملوك العرب في تلك الفترة لوقف الإضراب اعتماداً على “النوايا الطيبة” ل”صديقتهم” بريطانيا العظمى!
ما أشبه الليلة بالبارحة
يأتي اضراب فلسطين اليوم الذي حمل عنوان “إضراب الكرامة” في ظروف لا تختلف كثيراً في جوهرها عن ظروف إضراب عام ١٩٣٦ فهناك محتل غاصب جاثم على أرض فلسطين وهو يستبيح مقدساتها ويطرد أهلها من ديارهم ليُحل محلهم مستعمرين قادمين من الخارج وكما في ١٩٣٦ ايضاً فان الاضراب يأتي متزامناً مع نضال مسلح٫ حيث حل هذه المرة محل الريف الفلسطيني قطاع غزة المحاصر٫ وحلت صواريخ المقاومة محل البندقية.
الا أن الأهم في هذه التجربة الاضرابية -إذا صح التعبير- وفي هذا التوقيت تحديداً أنها تؤكد على وحدة فلسطين ونضال أهلها وأن شعار “من البحر الى النهر” الذي كان ذات يوم شعاراً ترفعه الجماهير العربية من المحيط الى الخليج ليس مجرد هتاف زاعق بل حقيقة واقعة يؤكدها تضامن أهل القطاع مع اهل الضفة الغربية وفي القلب منها القدس مع أهل الداخل الفلسطيني المحتل منذ عام ١٩٤٨ .