فن

مارسيل خليفه.. ترنيمة العدل والحرية

” هو ذا صوتي من الأرض السمراءِ آتٍ … من جبلِ الأطياف آتٍ … من حقلي من شمسي من الآمِ شعبي آتٍ ” … تلك الكلمات التي تغنى بها الموسيقار مارسيل خليفة في رائعته “صرخة ثائر ” تحمل بين حروفها وصفا لذلك المغنى الاستثنائي في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة ومسيرة النضال الوطني العربي بشكل عام والفلسطيني  على وجه الخصوص

فقد عبر “خليفة ”  بموسيقاه  خلال  مشواره الفني والنضالي الممتد منذ أكثر من نصف قرن عن هموم الناس البسطاء وحمل على أوتار عوده عبء التعبير عن الواقع العربي والوجع الفلسطيني.

هو الموسيقار الذي جمع بين الوعي السياسي والهم الوطني من جهة وبين الموهبة والتجديد الفني والتجريب الذي لا يتوقف عند حد من جهة أخرى  حتى صار صوت العرب إلى العالم واستطاع مارسيل أن يعيد للقصيدة المغناة مكانتها في أسماع المواطن العربي كما أنه أحد القلائل في وطننا العربي الذين تحولت أغنياتهم إلى أناشيد للمقاومة في كل مكان ومنافستو للصمود ضد الاحتلال وكل أشكال الظلم والطغيان

فاستحق أن يكون صوت الأرض السمراء ولحنها الأثير وجملتها الموسيقية الحاضرة بلا غياب.

ولع مبكر بالموسيقى

هذا الصبي الصغير الذي ولد في 10 يونيو 1950 بقرية “عمشيت ” بجبل لبنان وبات وَلعه المبكر بالموسيقى يزعج أسرته وهو يحول أثاث المنزل وأواني الطهي إلى آلات موسيقية يعزف عليها ليل نهار إلى أن انتبهت أمه إلى ذلك الهوس بالموسيقى فطلبت من والده أن يحضر للطفل آلة موسيقية يستطيع من خلالها التعبير عن طاقة فنية مبكرة

واستجاب الأب واشترى “عودا ” للطفل الموهوب ليبدأ “مارسيل “رحلة مع آلة العود تستمر حتى الآن وتصبح تلك الآلة هي سلاحه القوى يجوب بها العالم شرقا وغربا سفيرا للعدل والحرية وصوتا للمقهورين وصرخة في وجه التردي والتشرذم ومن قبل ذلك وبعده طلقة موسيقى في صدر الاحتلال والوحشية

ويعلن دون تردد “إني اخترتك يا وطني……. سرا وعلانية…….

 أنى اخترتك يا وطني حبا وطواعية “

من “عمشيت ” إلى العالم

في عام1971 تخرج  مارسيل من معهد بيروت الوطني للموسيقى ثم قام بعدة جولات في بلدان الشرق الأوسط وأمريكا يقدم عروضا للعزف على آلة العود.

في عام 1972م أنشأ فرقة موسيقية في بلدته “عمشيت ” وبعد ثلاث سنوات اندلعت الحرب الأهلية فى لبنان ووجد مارسيل نفسه محاصرا بعد أن حرقت الحرب ملامح الحياة بلبنان حينذاك ترك بلدته الشمالية ذات الأغلبية  المسيحية المارونية وجاء الى الشطر الغربي من بيروت ليعلن انحيازه الى اليسار وارتبط مارسيل بالحزب الشيوعي اللبناني وظل دوما معاديا للطائفية التي مزقت بلاده.

 وبدأ يتغنى بقصائد فلسطينيين ولبنانيين تحرض على الثورة ضد الاحتلال الاسرائيلي وتدعو الفقراء للتمرد على الظلم والإفقار والتجويع

 وهناك لم يجد أمامه سوى “عوده ” ودواوين  محمود درويش فاعتكف على تلحين عدد من قصائد درويش وهو لم يتعرف بعد على صاحبها ومبدعها  وقد جمعهما نفس الانحياز الفكري والهم الوطني قبل أن يجمعهما لقاء بعد خمس سنوات من غناء كلماته  لأول مرة .

وبمجرد أن  خرجت الأغنيات إلى الناس عبر شرائط الكاسيت  صارت  نشيدا يتغنى به الجميع وفى عام 1976 كانت أول أسطوانة تم تسجيلها في باريس واحتوت على أربع قصائد لمحمود درويش وقصيدة جفرا للشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة،

 وبدأت هنا مرحلة مهمة في مسيرة مارسيل تلك المرحلة التي جمعته بالشاعر محمود درويش الذي قدم له عشرات القصائد وتمثل ركنا أساسيا فى مشروع مارسيل الغنائي.

صوت الثورة الفلسطينية

مع نهاية عقد السبعينيات صار “مارسيل ” صوت الثورة الفلسطينية ولحنها المقاوم وصرختها المدوية وفى عام 1984 غنى مارسيل قصيدة “بالأخضر كفناه ” التي كتبها الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في ستاد الصفا في بيروت أمام مئة ألف من جمهوره الكبير

تحولت الأغنية إلى نشيد لكل الثوار في كل مكان ويروى” المناصرة ” أن تلك القصيدة كتبها عام 1982 أثناء حصار القوات الإسرائيلية لبيروت وكان زميله بالسكن فدائي أردني من قرية حوّارة بمحافظة اربد .. لم يكن يعرف الشاعر عن هذا الفدائي سوى أن اسمه الحركي “زياد القاسم” واستشهد “زياد ” في احدى المعارك البطولية ضد العدو الصهيوني في بيروت ومن شدة القصف على بيروت لم يتمكنوا من دفن زياد إلا بعد 3 أيام بعد أن هدأ القصف، وفي أثناء مراسم الدفن تصادف وجود ام فلسطينية حاضرة لمراسم التشييع وقالت بلهجتها العامية البسيطة (سبحان الله جرحه لسة أخضر) أي أن جرحه ما زال ينزف.

جاءت تلك العبارة لتحرِّك  مشاعر  عز الدين المناصرة ويكتب بعدها قصيدته الشهيرة بالأخضر كفناه. ويلتقط مارسيل القصيدة التي تصير واحدة من أيقونات النضال والفداء فى عالمنا العربي.

 تعاون مارسيل مع عدد كبير من شعراء المقاومة مثل حبيب صادق وطلال حيدر وسميح القاسم الذى غنى له واحدة من أشهر أغنياته وهى “منتصب القامة ” وهى التي كان يرددها كل الثوار وتلهب مشاعر ملايين العرب

“منتصب القامة أمشي

مرفوع الهامة أمشي

في قلبي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي “

كما غنى للشاعر ” جوزيف حرب ” أغنيات “غن قليلا يا عصافير” وقصيدة ” الخبز والورد ” التي حملت رؤى مارسيل بشكل واضح وكأنه أراد أن تحمل الأغنية انحيازاته الفكرية والاجتماعية والنضالية

” لديك ما يكفيك من خبزٍ

ولكن ….

ليس ما يكفي جميع الناس والأرض ملأي بالسنابل

انهض وناضل “

و غنى للشاعر والمناضل “خليل حاوى ” قصيدة “يعبرون الجسر” التي تتردد  على ألسنة آلاف اللبنانيين والفلسطينيين بشكل خاصّ، وذلك حين لحّن مارسيل مقطعًا قصيرًا منها

 ” يعبرون الجسر في الصبح خفافًا

أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيدْ

من كهوف الشرق من مستنقع الشرق إلى الشرق الجديد

أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد “ْ

مارسيل – درويش

 وتبقى  تجربة “مارسيل – درويش ” تمثل حالة استثنائية في الغناء العربي فقد حلقت موسيقى مارسيل مع كلمات درويش نحو عوالم أكثر رحابة ومزجت بشكل فنى بديع بين الحبيبة والوطن وغزلت وضفّرت  بسلاسة  بين  معاني الأمومة وعبق الأرض ونتج عن تلك التوأمة الفنية البديعة والشراكة الفكرية العميقة والتوافق الوطني أعمالا تظل فى ذاكرة الملايين روحا متقدة بالثورة والحب والإنسانية ….. تصنع من الوردة قنابل تنفجر في وجه أعداء الحياة وتحول العصافير إلى رمزية للانطلاق والتحرر وتروى عن “أحمد العربي ” تفاصيل الجرح الفلسطيني النازف وتمهد دروبا فى جداريات العدل والحب والتحرر .. كل هذا وأكثر هو جزء من ثنائية “مارسيل – درويش ” اللذين جمعهما الهم الوطني والحلم الإنساني وصارت خريطة فلسطين بالنسبة لهما بوصلة وغاية وتحولت الأغنية الوطنية معهما إلى فن رفيع يتجاوز الغناء التقليدي سواء على مستوى الموسيقى أو الكلمات.

كانت أغنيات “ريتا والبندقية” و”وعود من العاصفة ” ثم رائعة “أحن إلى خبز أمي  ” و “جواز السفر” شعارات لكل ثائر وصرخات للجماهير العربية التي أوجعتها النكسة وبعد ذلك طعنتها الأنظمة وتكالبت عليها المؤامرات والمحن ليأتي صوت مارسيل وأوتار عوده بكلمات درويش ليطلقوا طاقات الحلم المتجدد داخل كل مناضل.

كما كانت أغنية ” “تصبحون على وطن ” واحدة من مراثي الشهداء يغنيها الجميع عند وداع كل شهيد

“عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو

وأحرسهم من هواة الرِّثاء

أقول لهم

تصبحون على وطن “

 لم يتوقف دور مارسيل عن بث الأمل فى النفوس وتعزيز الحلم بالحرية والعدل لدى كل مناضل لكنه يظل أيضا   واحدا من  المجددين العظام فى موسيقانا الشرقية المعاصرة وواحدا من  كبار أهل  النغم فقد امتلك دوما القدرة والجرأة على المغامرة بالتحديث والمزج بين موسيقاه العربية والموسيقى العالمية وهو أول من أدخل آلة الساكسفون إلى الموسيقى العربية في واحدة من اهم اعماله وهي قصيدة “يعبرون الجسر” وفى السنوات الأخيرة بدا شغف  مارسيل  بالموسيقى أكثر  من شغفه بالغناء فقدم معزوفته الشهيرة “جدل” التي تعتبر نقاشاً بين العود القديم (مارسيل خليفة) والعود الجديد (شربل روحانا) فكان محاولة ثورية بالنسبة لتقديم العود، كما قدم عددا من الأعمال المسرحية لعبد الحليم كركلا منها ” حلم ليلة صيف والأندلس” والحلم المفقود” وأليسا” و” ملكة قرطاج”

في لحظات المد الثوري يعلو صوت مارسيل مدويا بنشيد الانتفاضة:

“لفجرٍ جديدٍ حنينُ التراب

لفجرٍ جديدٍ نجيعَ الفِدى

حُلمُنا أن نكون

وَعْدُنا أن نصون

حقُّنا في أرضِنا”

وفى لحظات المحنة والجزر وتراجع الهمم وغياب مشروع المقاومة يأتى صوت مارسيل باكيا مستلهما من التاريخ والتراث مواجعنا وضعفنا كما فعل فى قصيدة “يوسف ” متسائلا فى لحظات أخرى من أين ندخل الوطن

 من أين أدخل في الوطن… من بابه؟

من شرفة الفقراء؟

 أتيت يا وطني
صباح الخير…

كيف تسير أحوال القرى والقمح
والثلج العظيم … ومجدنا والأرز يا وطني…

 يا وطني
يا وطني “

 نصف قرن  و”مارسيل خليفة “يحمل عوده  .. يجوب العالم شرقا وغربا مبشرا بالوطن يرسم بأوتار هذا العود الابي  خارطة فلسطين.

ويردد بصوته العذب أناشيد العدل والحرية في وطن لا يتوقف عن الحلم به وله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock