رؤى

عن عروبة القدس ومخططات التهويد

منذ نحو ثلاثة آلاف عام قبل ميلاد السيد المسيح خرج اليبوسيون- أحد الشعوب السامية- من شبه الجزيرة العربية إلى بادية الشام؛ ليسكنوا الخيام والكهوف في المنطقة الواقعة بين رام الله والسهل.. تزامنت هذه الهجرة مع هجرة الكنعانيين الذين اختاروا منطقة الساحل عند وصولهم إلى الشام.. وما لبث اليبوسيون أن أقاموا اول حصونهم الذي تحول فيما بعد إلى مدينة أسموها “يبوس” بعد ذلك قرر الكنعانيون ترك الساحل؛ ليجاوروا اليبوسيين في مدينتهم التي تغير اسمها إلى الاسم الكنعاني “شاليم” التي تعني إله السلام؛ وقد ارتبط الشعبان منذ ذلك الحين بصلات عديدة كما تؤكد المصادر التاريخية في المدينة العربية التي كانت ولم تزل.

يحفل العهد القديم بالعديد من النصوص التي تنعت المدينة المقدسة بأسوأ النعوت؛ فهي “سافكة دم الأنبياء، وراجمة المرسلين” وهي المدينة المرفوضة من قبل الرب، كما جاء في سفر الملوك الثاني “…وأرفض هذه المدينة التي اخترتها أورشليم، والبيت الذي قلت يكون فيه اسمي”، وفي سفر الأخبار الثاني يقول “…وهذا بيت الرب الذي أقامه في المدينة قد تنجّس بسبب أن جميع رؤساء الكهنة والشعب قد أكثروا الخيانة، وارتكبوا كل رجاسات الأمم، حتى استوجبوا وعيد الرب بجلب الشر على أورشليم حتى تمسح كما يمسح واحد الصحن”.

لقد صارت المدينة المقدسة لعنة اليهود؛ حتى أن اليهودية الحاخامية حرمت العودة إلى فلسطين ومن ثم إلى القدس إلا في آخر الأيام وفي الوقت الذي يحدده الإله وبالطريقة إلى يقررها، واعتبرت العودة تحديا واضحا لمشيئة الإله، وإجبارا له على التعجيل بمجيء “الماشيح” بما يخالف ما ورد في التلمود “لا تعودوا ولا تحاولوا أن ترغموا الإله”.

 النَّفي البابلي
النَّفي البابلي

لذلك فقد انزوت القدس تماما في العقل اليهودي لنحو ثمانية عشر قرنا من الزمان؛ بعد أن استقر اليقين باللاجدوى من محاولات العودة إليها والبقاء فيها والثورة من أجل امتلاكها لفترة امتدت قرابة القرون الستة، لم يجن اليهود فيها سوى الهزيمة والانكسار والنفي والسبي؛ حتى صارت القدس لعنة أبدية لهم.

تلك اللعنة الأبدية صارت إطارا حاكما للتصور اليهودي حتى مجيء شخص يُدعى “يهودا القلعي” عام 1834 وأصدر كتابه “شمعي يسرائيل” دعا فيه إلى الهجرة إلى فلسطين التي أسماها أرض الميعاد دون انتظار المسيح المخلص، مضفيا قداسة من نوع خاص على أرض فلسطين التي نعتها في تفسيره للتوراة بمركز العال.

 كما اعتبر “القلعي” أورشليم مركز أرض إسرائيل، وأنها المكان الوحيد المناسب لتأدية الوصايا التوراتية، وليس لليهودي أن يبلغ درجة الكمال إلى إذا سكن القدس!. وتنفيذا لتلك النظرية المستحدثة والتي لا تستند إلى أي مصادر توراتية رحل “القلعي” بالفعل إلى القدس، وقضى فيها السنوات الأربع الأخيرة من عمره وكان قد ناهز الثمانين.

في تلك السنوات ظهر في القدس شخص آخر قدَّم نفسه بصفته حاخام بولندي يدعى “تسفي هيرش كاليشر” وبين عشية وضحاها صار “تسفي” الرجل الأقرب لـ “يهودا القلعي” وأكثر المتحمسين لحمل لواء دعوته.. ما يثير الشكوك حول هذا الحاخام أنه كان من أشد أنصار مذهب اليهودية الحاخامية التي تحرِّم العودة؛ حتى أنه أرجع زلزال صفد الذي هلك فيه عدد كبير من اليهود بأنه  إحدى تجليات غضب الرب على العائدين.. لا شك أن هذا الانقلاب كان وفق تخطيط منهجي يهدف لوضع رؤية مغايرة عن علاقة اليهود بالمدينة المقدسة.

القدسرغم ذلك فقد اعتبر مذهب “القلعي وكاليشر” مذهبا مارقا  وتمردا سافرا، واتهم كثيرون الرجلين بالهرطقة، كما واجه كبار الحاخامات تلك الأفكار بالرفض الشديد، ما جعل البعض يذهب إلى أن  جهد الرجلين ذهب أدراج الرياح، أو أنه في افضل الأحوال كان محدود الأثر؛ لكن الواقع أثبت عدم صحة ذلك حيث حققت هذه الافكار انتشارا واسعا بمرور الوقت، حتى صارت سائدة في كثير من المجتمعات اليهودية؛ مهيِّئة الطريق لقبول ما يمكن تسميته بتيار الصهيونية الدينية.

وبمجرد ظهور هذا التيار اعتبره اليهود الأرثوذكس تيارا منحرفا بلا شرعية، وظل الحال هكذا بين شد وجذب حتى عام 1904، حين ظهر حاخام أرثوذكسي في الأربعين قادم من لاتفيا يدعى “أفراهام إسحق كوك” تبنى مبدأ التقريب بين المتدينين والعلمانيين فأصدر عدة فتاوى بقصد تسهيل الحياة على المستوطنين اللادينيين؛ كفتوى زراعة الأرض في “سنة التبوير” (شنات هشميطاه) على أن تباع الأرض بشكل صوري “للأغيار” كما أفتى بجواز لعب كرة القدم يوم السبت، على أن تباع التذاكر يوم الجمعة!.

وقد واجه “كوك” بقوة التيار المركزي في الصهيونية الذي كان يرى انعدام صلتها بالدين بزعمه أنّ دولة إسرائيل متعلقة بالدين تعلقا ثابتا، وأن “الحركة القومية المرتبطة ببناء الأمة في أرض إسرائيل هي حركة إلهية ظاهرة”. ويعتبر “كوك” أول من نبَّه إلى ضرورة توظيف التوراة واستخدام الأسطورة في استدراج اليهود إلى أرض الميعاد، وفي القلب منها المدينة المقدسة التي استخدمت في مداعبة المخيلة اليهودية بتعدد أسمائها، فهي “مدينة الله، ومدينة داود، ومدينة الملك العظيم، ومدينة يهودا، وأرائيل، ومدينة العدل، وشاليم، ومدينة صهيون، وقدس الذهب” حتى أصبح الهدف الأسمى لدى غالبية اليهود هو” احتلال القدس وجعلها عاصمة لدولة إسرائيل”.

أفراهام إسحق كوكولا شك أن رؤى “كوك” قد شكلت جانبا هاما من مجموعة الأفكار التي ارتكزت عليها الحركة الصهيونية عند التحضير لمؤتمرها الأول المنعقد في بازل سنة 1897، وكان من أهم أهداف المؤتمر تطوير المفاهيم السياسية لدى يهود العالم بما يهيئ العقل اليهودي لتقبل فكرة التحول من مفهوم الدين اليهودي الذي يقتصر على المفاهيم العقائدية إلى مفهوم أوسع يتضمن القومي والسياسي  وفكرة قيام الدولة.

إلى جانب ذلك تمت عملية إحياء واسعة للعديد من المفاهيم المندثرة لتدعيم الفكرة الصهيونية؛ فعمد آباء ومفكرو الحركة الصهيونية إلى توظيف واستغلال أساطير مثل: “شعب الله المختار” و”أرض الميعاد” لتوجيه العواطف والمشاعر اليهودية نحو فلسطين والقدس تحقيقا للأهداف الصهيونية لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

لذلك كان التركيز على القدس وإثارة المشاعر الدينية اليهودية من أفضل الوسائل للحصول على الدعم المادي والمعنوي من يهود العالم، والتأكيد على رمزيتها الدينية بوجود جبل صهيون وقبر داود وحائط المبكى والهيكل المزعوم.. وتماشيا مع هذا النهج كان تصريح مؤسس الحركة الصهيونية “ثيودورهرتزل” عن القدس الذي قال فيه “إذا قُدِّرَ لنا يوماً أن نمتلك القدس، وأنا على قيد الحياة وكنت قادرا على أن أفعل أي شيء، فسوف أدمر كل ما هو غير مقدس عند اليهود فيها”. بالرغم من أنه عندما زارها قال وهو خارج من أحد أبوابها “لا شيء في هذه المدينة لنا”.

ثيودور هرتزل
ثيودور هرتزل

لقد كان إذن جوهر تلك الفكرة هو إقامة الوطن القومي لليهود في أي مكان.. وقد اقترحت عدة أماكن مثل القرم باعتبار أن روسيا كانت تضم غالبية يهود العالم آنذاك.. كما اقترحت الأرجنتين وأوغندا. قبل أن يستقر الاختيار على فلسطين ليبدأ الصهاينة في نسج أكاذيبهم حول الحقوق التاريخية لليهود فيها، ثم كانت القدس مركز تلك الاكاذيب والافتراءات، وعلى الرغم من ذلك لم ينتبهوا إلى أمر شديد الخطورة، وهو أنهم عندما أعلنوا قيام دولتهم لم تكن القدس وقتها عاصمة لها ولا حتى جزءا منها إذ لم تكن حتى هذا التاريخ قد أصبحت تحت سيادتهم.. وهذا ما يفند كثيرا من تلك الدعاوى الساقطة التي تخاصم حقائق التاريخ ووقائعه الثابتة.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker