منذ فترة ليست بالطويلة٫ وقعت على مقطع فيديو على موقع “يوتيوب” يصور حواراً بين الصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون والأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني في مكتب الأخير في العاصمة اللبنانية بيروت مطلع السبعينات.
ويشير تاريخ الفيديو إلى أن المقابلة أجريت عام ١٩٧٠ أي قبل اغتيال الشهيد كنفاني بحوالي عامين في تفجير حمل بصمات الموساد الصهيوني عام ١٩٧٢.
ورغم أن أكثر من خمسين عاماً قد مضت على هذه المقابلة إلا أن المعركة التي دارت على مدار عشرة أيام بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني والتي كانت القدس شعارها وجوهرها تبدو وكأنها تستدعي منطق ومقولات الشهيد كنفاني التي ذكرها في ذلك الحوار القديم.
حوار السيف والرقبة
بدا كنفاني شديد الصرامة في مواقفه التي تجلت في ردوده على أسئلة الصحفي الأسترالي٫ كما بدا شديد الاهتمام بالمسميات٫ اذ رفض اعتبار ما حدث في الاردن في ذلك العام “حرباً أهلية” كما أسماها كارلتون وإنما هي -وفقاً لكنفاني- نضال لشعب يدافع عن ذاته.
كما أن ما بين الصهاينة والشعب العربي الفلسطيني ليس “صراعا” كما يصفه كارلتون و المنظومة السياسية والاعلامية التي يمثلها ويتحدث بلسانها وإنما هي كما يصفها كنفاني حركة تحرر وطني يخوضها شعب يقاتل من أجل العدالة التي حُرم منها.
والمسميات ليست مجرد مسألة ثانوية في نظر كنفاني٫ لذا يرفض ان يستخدم محاوره تعبيراً مثل “أياً كان اسمها” مؤكداً ان هذا المنطق تحديداً هو سبب الأزمة برمتها٫ فالأزمة تبدأ من تحديد اسم الأرض والذي يستتبع بالضرورة وصف ما يقوم به الشعب الذي شُرِّد من تلك الأرض.
كما يرفض كنفاني فكرة التفاوض مع الصهاينة ويعتبرها محادثات استسلام لا محادثات سلام – كما يصفها محاوره -وكان يرى أن مقاطعة العدوّ، ورفض الحوارمعه بغرض “الإقناع” من خلال المبارزات الكلاميّة، هو في حدّ ذاته موقف، هو وجهة نظر، هو شكلٌ من أشكال الصِّدام.
والمحادثات حين تتم بين حركة تحرر وطني تمثل شعباً يعاني من الاحتلال الأجنبي وبين قوة محتلة لا تزال تجثم على أرض هذا الشعب هي محادثات بين السيف والرقبة.
وفي حين يرى الصحفي الاسترالي أن المحادثات ضرورية لأنها قد تكون وسيلة لوقف “الموت” الذي يعتبره أسوأ ما يمكن أن يحدث للفرد٫ يرى كنفاني ان الحياة لا قيمة لها ان لم تكن حياة كريمة أما إن كانت ذليلة فان الموت يعد ضريبة يمكن لشعبه ان يدفعها راضياً في سبيل ما يناضل لأجله.
مقارنة كاشفة
كان كنفاني يؤمن بما قاله الزعيم الروسي لينين عن الاعلام وهو أن “الإعلام معركة” وبالتالي فان الشعب الفلسطيني لا يحقّق انتصارًا إذا ما خاض هذه المعركة الاعلامية من خلال المبارزة الكلاميّة مع العدو أمام رأي عامّ منحاز في مجمله، وعلى شبكات إذاعيّة وتلفزيونيّة تقف جوهريًّا ضدّ القضيه الفلسطينية.
ولا يملك المرء اليوم إلا ان يقارن بين موقف كنفاني شديد الوضوح والصرامة في هذا الصدد وبين ما تقوم به بعض القنوات الاخبارية العربيه حالياً من استضافة شخصيات صهيونية تحت مسمى الحيادية او المهنية في التغطية الاخبارية او تسابق الاكاديميين العرب لاسيما من يعمل منهم في جامعات أوروبية أو امريكية لحضور مناظرات أو ندوات بحضور شخصيات صهيونية معتبرين أن هذا في حد ذاته “تضامن” مع القضية. ليعرف الفارق الكبير بين الوطني المؤمن بقضيته وبين الباحث عن الشو والبروباجندا دون إخلاص حقيقي للقضية
وتتجلى الصلة بين ما آمن به كنفاني ذات يوم وبين ما جرى ويجري اليوم على أرض فلسطين حين يجيب على سؤال حول “الجدوى” من المقاومة وهو سؤال باتت تطرحه اليوم بعض الأقلام العربية ايضاً.
يجيب كنفاني بشكل لا لبس فيه أن مجرد إثبات قدرة الشعب على القتال هو في حد ذاته مكسب خاصة اذا ما صمد هذا الشعب وأبدى استعدادا في الاستمرار في القتال حتى تحقيق النصر وانه -اي الشعب- على ضآلة امكانياته- قادر على مجابهة عدوه في سبيل تحقيق العدالة وبالتالي فإن فكرة الهزيمة هنا تصبح مستبعدة فأنت لست مهزوما طالما انك تقاتل وتصر على الاستمرار في الكفاح والمقاومة .