هناك خلط كبير لدى الكثيرين حول المسجد الأقصى وما يضمه من مقدسات.. وهذا الخلط ليس وليد اليوم بل هو نتاج سنوات طويلة من ترويج الأكاذيب الصهيونية بشتى الصور.. وأشهر هذه الأكاذيب النشر الواسع لصورة مسجد قبة الصخرة بقبته الذهبية مع الزعم أنه المسجد الاقصى المبارك.. وعندما تم فضح هذه الفرية بدءوا بالترويج لصورة المسجد القِبْلي ذي القبة السوداء على أنه المسجد الأقصى، والحقيقة أن كلا المسجدين يقع داخل حدود المسجد الأقصى الذي يشملهما كما يشمل حوالي مئتي مَعْلَمٍ هي عبارة عن عدد من الأبنية والقباب والمحاريب والمساطب والسبل والآبار، كما يضم المسجدُ: المُصَلَّى المرواني الواقع تحت أرضية المسجد الأقصى من الناحية الجنوبية الشرقية، والأقصى القديم الموجود تحت المسجد القبلي الذي بُني في العهد الأموي كمدخل ملكي يتصل بالقصور الواقعة إلى جنوب الأقصى، ومسجد البراق ويقع تحت أرضية المسجد الأقصى عند حائط البراق، وسبيل قايتباي والمدرسة الأشرفية، وغيرها من المعالم.
ويقع المسجد الأقصى فوق هضبة “موريا” التي ترتفع من الوسط والشمال وتنخفض من ناحية الجنوب، وتشكل الصخرة التي بنيت فوقها القبة أقصى ارتفاع للهضبة، ويحاط المسجد بواديين، هما وادي جهنم أو قدرون شرقا ناحية جبل الزيتون، وودادي الربابة غربا ناحية جبل صهيون.. ويحتل المسجد الزاوية الجنوبية الشرقية، من البلدة القديمة، وتبلغ مساحة المسجد الإجمالية 144000 م2.
وللأقصى أربعة عشر بابا تقع على الجانبين الشمالي والغربي، منها أربعة أبواب مغلقة، وقد استولت سلطات الاحتلال على مفاتيح باب المغاربة منذ يونيو1967، وهو أقرب الأبواب للجامع القبلي، أما الأبواب المفتوحة فهي: باب الأسباط، وباب حطة، وباب العتم، وباب الغوانمة، وباب المطهرة، وباب القطانين، وباب السلسلة، وباب المغاربة، وباب الحديد، وباب الناظر، وهي أبواب قديمة جددت عمارتها في العصور الإسلامية المختلفة.
كما يشتمل المسجد على أربع مآذن هي: المئذنة الفخرية عند باب المغاربة، ومئذنة باب الغوانمة في الزاوية الشمالية الغربية للمسجد، ومئذنة باب السلسلة المسماة بمنارة المحكمة ومئذنة باب الأسباط، وقد هدمت من نحو مئة عام إثر زلزال، وأعيد بناؤها.
ويشير الدكتور عبد الله معروف عمر في كتابه “المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك” إلى خطورة أن يغيّب الجانب العلمي في علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى لتقتصر على الجانب العاطفي، كما يطغى الجانب السياسي على أحاديث المسلمين عن المسجد الأقصى المبارك على حساب دراسة الجوانب التاريخية والأكاديمية التي يلخصها د. عمر في ثلاثة أقسام رئيسة هي: المفاهيم، والتاريخ، والعلاقة مع الغير.
وتنقسم المفاهيم إلى عامة ميدانية متعلقة بالأحكام الفقهية، وأخرى روحانية تشمل الفضائل والعلاقة مع الحرمين الشريفين.. ويتحدث الدكتور عبد الله عن مفهوم المسجد الأقصى الحقيقي وتسميته وشكله وجغرافيته واتجاه بنائه، ثم يتناول فضيلة الصخرة وما دار حولها من القصص المكذوبة.
وعن تسمية الأقصى حرما، يؤكد د. عمر خطأ تلك التسمية من الناحية الفقهية إذا لا تنطبق أحكام الحرم على المسجد الأقصى، كما يوضح أن المقصود بالمسجد الأقصى المبارك هو كامل المساحة المسورة الواقعة داخل البلدة القديمة بالقدس على شكل شبه مستطيل، وليس المسجد القبلي فقط، وهذا ما يحاول الصهاينة الترويج له تمهيدا لانتزاع ساحات المسجد من المسلمين باعتبارها ساحات جبل المعبد، وهذا مكمن الخطر.
ويشير د. عمر إلى مكانة المسجد الأقصى في الإسلام فيقول: إنها مكانة كبيرة تمثل معنى عميق الدلالة، بوصف الأقصى ثالث الحرمين، إذ يمثل الحرم المكي علاقة المسلم بربه تبارك وتعالى، ويمثل الحرم المدني علاقة المسلم برسوله الكريم-صلى الله عليه وسلم- أما المسجد الأقصى فيمثل علاقة المسلم بالبشرية جمعاء.
ويضيف أن المسجد الحرام هو مصدر حرمة مكة وأصلها، أما المسجد النبوي فهو ليس مصدر حرمة أرض المدينة؛ إذ أنها محرمة بذاتها، أما المسجد الأقصى المبارك فيجمع بين الفضلين: فالأقصى المبارك هو مصدر بركة الأرض التي بارك الله فيها، وهو أصل هذه البركة، وفي الوقت نفسه لا يعد المسجد الاقصى مصدر قدسية الأرض المقدسة؛ لأنها مقدسة بذاتها، فهو بهذا يرتبط بالمسجد الحرام من ناحية البركة، ويرتبط بالمسجد النبوي من ناحية القدسية.
وقد أورد مجير الدين الحنبلي في كتاب الأنس الجليل “أن المتعارف عند الناس أن الأقصى من جهة القبلة, الجامع المبني في صدر المسجد الذي فيه المنبر والمحراب الكبير, وحقيقية الحال أن الأقصى اسم لجميع المسجد مما دار عليه السور.. فإن هذا البناء الموجود في صدر المسجد وغيره, من قبة الصخرة والأروقة وغيرها محدثة, والمراد بالأقصى ما دار عليه السور”.
لقد أثبت علماء الآثار الغربيين الذين نقّبوا واشتغلوا بالحفريات والأنفاق تحت المسجد الأقصى- أنه لا يوجد أثر واحد لهيكل سليمان؛ لا تحت المسجد الأقصى، ولا تحت قبة الصخرة، وشاركهم في هذا الرأي كثير من الباحثين اليهود، ما دفع بعضهم إلى القول بأن الهيكل قصة خرافية ليس لها وجود! ومن أشهر هؤلاء العلماء “إسرائيل فلنتشتاين” من جامعة تل أبيب، الذي أحدثت آراؤه لغطا واسعا بين الصهاينة عند نشرها.
ويؤكد “شلومو ساند” مؤلف كتاب اختراع الشعب اليهودي على أن الحفريات الأثرية التي جرت في القدس في سبعينيات القرن العشرين “…كانت مربكة للخيال الماضوي الفخور.. صحيح أنه لم يكن ممكنا القيام بحفريات تحت باحة المسجد الأقصى؛ ولكنه لم يتم العثور في سائر المواقع المدشنة حوله على بقايا أو آثار تشير إلى وجود مملكة مهمة في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو العصر المقدر لعهد داوود وسليمان. فلم يكشف أي شاهد على بناء عظيم، ولم يكن هناك لا أسوار ولا قصور فخمة، وحتى الأواني الخزفية التي اكتشفت كانت قليلة وبسيطة بشكل لافت جدا”.
وتذكر بعض الروايات التي لا تجد ما يدحضها أن إبراهيم عليه السلام دخل إلى موضع المسجد الذي كان قد اندرست معالمه بفعل الطوفان؛ فصلى فيه، ثم جاءه الأمر الإلهي بأن يرفع قواعده من جديد كما فعل بالبيت الحرام هو وابنه إسماعيل عليهما السلام.. وكان ذلك على عهد الملك اليبوسي “ملكي صادق” عام1900ق.م.
في العام 1550 ق.م استطاع أحمس الأول القائد المصري العظيم هزيمة الهكسوس، وطردهم من مصر، وتأسيس الدولة المصرية الثالثة، والتي اعتبرت أقوى الممالك القديمة، وقد امتد سلطانها إلى هضبة الأناضول شمالا، وآخر حدود القرن الإفريقي جنوبا، وقد خضعت المدينة المقدسة للحكم المصري طوال هذه الفترة.
ثم كان ظهور موسى وأخيه عليهما السلام في مصر، وخروجهما ببني إسرائيل، وما أعقب ذلك من سنوات التيه التي امتدت أربعين سنة، لامتناعهم عن الامتثال لأمر الله بدخول الأرض المقدسة.. وتشير رسائل تل العمارنة إلى مكاتبات جرت بين الدولة المصرية، والحاكم المعين من قبلها على أرض كنعان “عبد هيبا” إلى ضرورة تأمين الدولة لحدودها بعد أن تكررت محاولات الهجوم عليها من جانب الحيثيين، والعبرانيين، وفلول الهكسوس.. وقد تزامن مع ذلك بدء تدفق قبائل “بلستيا” من جزيرة كريت في بحر إيجه على الأرض المقدسة، وقد اندمج هؤلاء مع اليبوسيين والكنعانيين مكونين شعب الأرض المقدسة، وإن كانت عقائدهم قد شابها الزيغ بعد اندثار الملة الحنيفية فيهم.
أما داود عليه السلام فقد بدأت قصته مع المدينة المقدسة قبل الميلاد بنحو ألف عام، بعد أن دخلها فتحا واتخذها عاصمة لمملكته التي امتد عمرها في عهده وعهد ولده سليمان عليه السلام نحوا من ثمانين عاما على أقصى التقديرات.
وقد قُسِّمَت مملكة سليمان بعد موته إلى قسمين: “يهوذا” وعاصمتها “أورشاليم” وإسرائيل وعاصمتها “شكيم” (نابلس الحالية) وكان دمار المدينة المقدسة على يد نبوخذ نصّر عام 587ق.م بمثابة الدمار الأول للمسجد الأقصى الذي أعقبه تدمير آخر عام 332 ق.م حين تمكن الإسكندر المقدوني من السيطرة على فلسطين، ليبدأ عهد الإغريق في المنطقة 332 ق.م – 64 ق.م، فتأرجح وضع اليهود بين مد وجزر، حتى كان عهد الملك السلوقي أنطيوخس الرابع (175 ق.م – 164 ق.م)، الذي دمر الهيكل، ونهب كل ما فيه، وأجبر اليهود على اعتناق الوثنية الإغريقية حتى اندلعت ثورة اليهود المكابيين .
في عام63 ق.م. احتل الرومان فلسطين، وأعيد بناء المعبد على يد هيرودس الملك تهدئة لأوضاع اليهود الثائرين بالمدينة المقدسة، واستمر هذا الوضع قائما بالنسبة للمسجد حتى عهد ظهور الأنبياء الثلاثة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام.
وقد تنبأ المسيح عليه السلام بخراب المدينة المقدسة ودمار المسجد، وهو ما حدث في نحو عام 70م على يد الإمبراطور (طيطس) الذي أقدم على إحراق المدينة المقدسة، وتدمير المعبد الذي أقامه هيرودس، ولم يبق فيه حجر على حجر، ولكنه أبقى الحطام مكانه، ليأتي بعده طاغية آخر هو (أدريانوس) الذي أزال معالم المدينة وحطام الهيكل، وأقام مكانه معبدا وثنيا سماه (جوبيتار) على اسم (كبير الآلهة) حسب اعتقاد الرومان، وكان ذلك سنة 135م.. وقد دمر هذا المعبد الوثني على يد المسيحيين على عهد الإمبراطور قسطنطين. وظل الموضع المقدس خاليا إلى أن تم الفتح الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب عام 636م وبدأ البناء بالمسجد العمري، كما بينا سلفا ثم تتابع البناء على البقعة المطهرة في العهود الإسلامية المتعاقبة.
وتحاول سلطات الاحتلال تهويد البلدة القديمة بالاستيلاء على المقدسات الإسلامية وإقامة الكنس اليهودية فوق أنقاضها أو تغيير معالمها وإضفاء الطابع اليهودي عليها ، وقد رصدت مؤسسة الأقصى مخططا لبناء 60 كنيسا يهوديا حول المسجد تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، ورغم ذلك فقد اتخذت لجنة البرامج والعلاقات الخارجية في المجلس التنفيذي لمنظمة اليونيسكو قرارا في 14 أكتوبر 2016، جاء فيه أن المنظمة تعتبر المسجد الأقصى أحد المقدسات الإسلامية، بدون ذكر وجود أي علاقة تاريخية بين اليهود والمسجد، مستنكرة اقتحامه المتكرر من قبل بعض المتطرفين الصهاينة ومن قبل قوات الجيش الصهيوني. وقد جاء هذا القرار استجابةً لمشروع تم تقديمه من قبل الجزائر ومصر ولبنان والمغرب وعمان وقطر والسودان.
إن المسجد الأقصى المبارك هو رمز تلك الأمة، وشعار وحدتها وصمودها في مواجهة التحديات؛ لذلك فإن قضيته لا تقبل التمييع، ولا تحتمل التشكيك.. فماتزال محاولات التهويد للمدينة المقدسة مستمرة، بانتزاع أجزاء من المسجد، وضمها للمقدسات اليهودية بمزاعم لا يقوم عليها دليل.. وما يؤكد ذلك أن الحفريات التي تجاوز عمرها النصف قرن مازالت تأتي بنتائج مخزية لا يجرؤ الصهاينة على إعلانها، حتى لا يكونوا مثار سخرية العالم.. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنهم ودعاواهم أوهى من بيت العنكبوت، وما هم إلا نقطة سوداء في ثوب الأرض المقدسة سرعان ما تزول بحتمية التاريخ التي تأبى التزييف.