«الرئيس يعلن باسم الأمة: أموالنا وحقوقنا رُدت إلينا».. كان ذلك مانشيت جريدة الأهرام صباح يوم27 يوليو عام 1956 وهو اليوم التالي للخطاب التاريخي الذي أعلن فيه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس.
«الأهرام» نقلت خطاب الرئيس بالكامل على 4 صفحات، ووضعت لكل فقرة عنوانا منفصلا، وتحت عنوان «كلكم مصطفى حافظ» كتبت على لسان عبد الناصر: من أيام قليلة ماضية استشهد اثنان من أعز الناس لنا – بل من أخلص الناس لنا – استشهد مصطفى حافظ – قائد جيش فلسطين – وهو يؤدى واجبه من أجلكم، ومن أجل العروبة، ومن أجل القومية العربية.. مصطفى حافظ الذي آلى على نفسه أن يدرب جيش فلسطين، وأن يبعث جيش فلسطين، وأن يبعث اسم فلسطين، فهل سها عنه أعوان الاستعمار؟ هل سهت عنه إسرائيل صنيعة الاستعمار؟ هل سها عنه الاستعمار؟ أبداً.. إنهم كانوا يجدون فى مصطفى حافظ تهديداً مباشراً لهم، وتهديداً مباشراً لأطماعهم، وتهديداً مباشراً ضد المؤامرات التى كانوا يحيكونها ضدكم، وضد قوميتكم، وضد عروبتكم، وضد العالم العربى.
«اغتيل مصطفى حافظ بأخس أنواع الغدر، وأخس أنواع الخداع.. ولكنهم هل يعتقدون أنهم بقتل مصطفى حافظ لن يجدوا من يحل محل مصطفى حافظ؟ إنهم سيجدون فى مصر وبين ربوع مصر جميع المصريين، كل واحد منهم يحمل هذه المبادئ ويؤمن بهذه المبادئ، ويؤمن بهذه المثل العليا»، يضيف عبد الناصر.
كانت «الأهرام» قد نشرت في 13 يوليو أي قبل نحو أسبوعين من خطاب التأميم خبرا صغيرا عن استشهاد مصطفى حافظ جاء فيه: « قتل البكباشي مصطفى حافظ نتيجة ارتطام سيارته بلغم في قطاع غزة ونُقل الجثمان للعريش و منها جواً للقاهرة، وكان حافظ من أبطال فلسطين، ناضل من أجل استقلالها و تحريرها، و لقد سجل التاريخ له أعمالاً جعلت اسمه يزرع الرعب داخل قلوب الإسرائيليين».
كثيرون ممن تابعوا خطاب عبد الناصر أو قرأوا خبر استشهاد مصطفى حافظ في الصحف، لم يكونوا قد سمعوا به من قبل، فالرجل الذي كون مجموعات الفدائيين التي أدخلت الرعب في قلوب الصهاينة من مقر عمله في قطاع غزة، كان بعيدا عن الأضواء وفقا لما تمليه عليه طبيعة مهمته، لذا أطلقت عليه أجهزة دولة الاحتلال الاستخباراتية «الرجل الظل».
بعد رحيله ظهر اسم مصطفى حافظ على عدد من الميادين والشوارع والمدارس في القاهرة والإسكندرية وقطاع غزة، وما إن اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي القطاع عقب نكسة يونيو 1967، حتى طارد جنودها صوره المعلقة على حوائط المحلات والمقاهي ونسفوا مجسما له في أحد الميادين، ظنا منهم أنهم بذلك قادرون على تدمير ذكراه.
لم تعترف إسرائيل بمسئوليتها عن اغتيال «الرجل الظل» إلا بعد نحو 38 عاما على رحيله، ففي مطلع تسعينيات القرن الماضي وثق الكاتب الإسرائيلي يوسي أرجمان قصة اغتياله في كتاب بعنوان «سري جدا.. ثلاثون قضية استخبارية وأمنية في إسرائيل»، ترجمته دار الجليل الأردنية المتخصصة في نشر الدراسات والأبحاث الفلسطينية والمهتمة بترجمة كتب العبرية، كما نقلت مجلة «روز اليوسف» حينها تفاصيل العملية نقلا عن الكتاب العبري.
بدايات «الرجل الظل»
ولد مصطفى حافظ في قرية كفر أبوالنجا التابعة لطنطا في 25 ديسمبر 1920، وحصل علي الشهادة الابتدائية عام 1934، والتحق بمدرسة فؤاد الثانوية «الحسينية حالياً»، وحصل علي الثانوية عام 1938، ودخل إلي الكلية الحربية التي تخرج فيها عام 1940، وعرف عنه أنه كان ذا أعصاب حديدية، وكان من بين المتفوقين وعين ملازماً بسلاح الفرسان. وحصل علي عدة فرق عسكرية منها فرقة في الطبوغرافيا سنة 1943، وأخري في الأسلحة وفي عام 1951 حصل علي فرقة تعليم شئون إدارية بامتياز.
وفي يوليو 1948 نقل اليوزباشي مصطفي حافظ إلي إدارة الحاكم الإداري العام لغزة التي كانت تتبع في إدارتها لمصر، وفي أكتوبر من ذات العام عين حاكماً لرفح، وفي نوفمبر عين مأموراً لمركز القصير في البحر الأحمر.
سافر حافظ إلي غزة عام 1951، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل اعتداءاتها علي اللاجئين في القطاع ، الذين طاردتهم العصابات الصهيونية، التي واصلت احتلالها للأراضي الفلسطينية وطردت سكانها وقامت بإحلال المستوطات محل منازلهم.
كان حافظ علي علاقة بتنظيم الضباط الأحرار وجمال عبدالناصر، وذاع صيته ليس بوصفه مجرد ضابط محترف، لكنه كان خبيرا بالبشر والسياسة، استطاع خلال فترة عمله في رفح وغزة، أن يضيف إلي دراساته الميدانية والعسكرية خبرات، صقلتها إمكاناته الشخصية وقدرته غير المحدودة علي إقامة علاقات مع البشر وفهمهم.
بعد قيام ثورة يوليو 1952 لم يكن هناك من هو أفضل من الصاغ مصطفي حافظ ليقود المواجهة ضد العدوان الإسرائيلي الاستيطاني الذي كان يطارد الفلسطينيين، ويمارس ضدهم كل صنوف العنف والإرهاب حتي يغادروا ارضهم ووطنهم وبيوتهم .
في عام 1955 حصل مصطفي حافظ علي فرقة في المدرعات ورُقي إلى رتبة صاغ ثم مقدم بعدها حضر اجتماعا سريا عقد في القاهرة برئاسة جمال عبدالناصر، تقرر فيه إنشاء كتيبة للأعمال الفدائية، واختير هو لتنفيذ تلك المهمة نظرا لكفاءته وذكائه، حتي أنه رقي إلي رتبة عقيد وعمره لم يتجاوز الأربعة والثلاثين.
تأسيس كتائب الفدائيين
سافر مصطفي حافظ إلي غزة التي كانت تتبع الإدارة المصرية، وبدأ في تكوين شبكة فدائية واسعة تنتشر في أنحاء الأراضي المحتلة، لتواجه اعتداءات قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين.
وخلال عامي 1955 و1956 سببت العمليات الفدائية التي قادها حافظ رعباً للإسرائيليين، لانها كانت تطول مستوطنات الصهاينة في اللد وتل أبيب والمدن الكبري.
أرعبت عمليات مصطفي حافظ الإسرائيليين، بعد أن وصلت إلي العمق وخلف الخطوط، مستهدفة وحدات عسكرية وواجهت وأحبطت العديد من الهجمات الإرهابية للعصابات المسلحة، وعرف الموساد أن وراء هذه العمليات «الرجل الظل» العقيد مصطفي حافظ، فصدر قرار بتصفيته.
لم يكن أمر اغتيال حافظ سهلا، فأجهزة العدو عجزت حتى عن التقاط صورة له، أو معرفة مكانه، وفي سبيل محاولتها لتصفيته نفذت قوات العدو أكثر من عملية بالهجوم المباشر أو الإنزال الجوي والبحري أو السيارات المفخخة، لكنها فشلت لأن «الرجل الظل» كان يغادر المكان قبل لحظات أو يكتشف الاسرائيليون أنهم كانوا يجرون وراء سراب.
إلي جانب المتطوعين عمل حافظ على تجنيد عدد من المدنيين المحكوم عليهم في قضايا جنائية، وكان شرط خروجهم من السجن هو المشاركة في عمليات عسكرية ضد الاحتلال الصهيوني.
واهتم بشكل خاص بتنسيق الجهود مع الفدائيين الفلسطينيين علي الجبهة السورية من خلال الملحق العسكري في السفارة المصرية بعمان صلاح مصطفي مما أدي لتطور في حجم العمليات التي ينفذها الفدائيون داخل إسرائيل حتي وصل المعدل إلي أكثر من عملية يومياً، فصدرت الأوامر لمجموعة من أمهر الضباط في المخابرات الإسرائيلية لتنفيذ عملية اغتياله، واعترفت هذه المجموعة من الضباط الإسرائيليين لـلكاتب يوسي أرجمان، وفقا لما سرده في كتابه بأنهم كانوا يعانون من توبيخ ديفيد بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، ومن القائد العسكري الإسرائيلي موشي ديان بسبب الفشل المستمر في اقتناص مصطفي حافظ.
وعلي حد قول أحد أفراد هذه المجموعة فإنه كان من السهل التحدث إلي يهوه (الله باللغة العبرية) في السماء عن التحدث مع موشي ديان عن براعة مصطفي حافظ في تنفيذ عملياته داخل إسرائيل ورجوع رجاله سالمين إلي غزة وقد خلفوا وراءهم فزعاً ورعباً ورغبة متزايدة في الهجرة منها.
في مواجهة شارون
في عام 1955 واجه حافظ ورجاله من الفدائيين ( الوحدة رقم 101) التي شكلها في تلك الأيام أرييل شارون للإغارة على القرى الفلسطينية والانتقام من عمليات الفدائيين ورفع معنويات السكان والجنود الإسرائيليين، فشل شارون في النيل من حافظ ورجاله، وهو ما جعل مسئولية التخلص منه تنتقل الى المخابرات الاسرائيلية بكافة فروعها وتخصصاتها السرية والعسكرية.
رصدت إسرائيل مبلغا ضخما (مليون دولار) للتخلص من حافظ، وكان شعار أجهزتها مطلوب حيا أو ميتا، وكان حافظ نفسه علي علم بذلك، بل أن جمال عبدالناصر عندما زار غزة قال له «خلي بالك يا مصطفي من الخونة، مصر تريدك بشدة».
وكان هناك قرار قد صدر بالفعل لإعادة مصطفي حافظ ليتولي رئاسة جهاز المخابرات العامة الوليد في مصر، لكن القدر لم يمهله، وتم تنفيذ العملية قبل أن يعود إلى مصر.
شارك في التخطيط للعملية سبعة من كبار رجال المخابرات الإسرائيلية، وقرروا أن يتم اغتيال حافظ عن طريق طرد ناسف، لكن واجهتهم مشكلة أن حافظ لا يفتح الطرود بنفسه، وتم البحث عن سبب مقنع يدفعه إلي فتحه مع وضع ضمانات بألا يمر علي شخص آخر قبل الوصول إليه.
تم اختيار عميل مزدوج هو سليمان طلالقة، وكان الإسرائيليون يعرفون انه يعمل مع مصطفي حافظ، وكانوا قد أسروه وأطلقوا سراحه بشرط أن يعمل لحسابهم، فكان عبارة عن قناة توصيل مزدوجة.
لم يكن من السهل اغتيال حافظ بسلة فاكهة أو طعام لأنه لم يكن يفتح الطرود بنفسه، ففكر مخططو العملية في حيلة مختلفة، حيث أفهموا العميل المزدوج طلالقة أن قائد شرطة غزة وقتها لطفي العكاوي يعمل لحساب الموساد.
ولم يكن ذلك صحيحاً لأن العكاوي كان أحد كبار المناضلين ضد الاحتلال -وكانوا يعرفون أن طلالقة سوف ينقل الخبر المزيف لمصطفي حافظ-، ولكي يؤكدوا اتهامهم، قالوا أنهم يريدون إرسال طرد يحتوي علي كتاب، يحمل شفرة الاتصال مع العكاوي . ولكي يضمنوا ألا يفتح طلالقة الطرد، وضعوا نسخة مشابهة من الكتاب وبعد أن شاهده طلالقة وخرج من الغرفة، وضعوا الكتاب المفخخ الذي أعده خبير كان يعمل في منظمة «اتسل» الصهيونية وأصبح الطرد جاهزاً للتسليم، وأعطوه لطلالقة ومعه علامة تعارف عبارة عن نصف جنيه مصري وكلمة السر «أخوك بيسلم عليك».
وحسب تقرير لجنة التحقيق المصرية التي تقصت وفاة مصطفي حافظ بأمر مباشر من الرئيس جمال عبدالناصر وعثر عليها الإسرائيليون ضمن الوثائق التي عثروا عليها بعد احتلال غزة في 1967، فإنه في 11 يوليو عام 1956 في ساعات المساء الأخيرة جلس مصطفي حافظ علي كرسي في حديقة مقر القيادة في غزة، وكان قد عاد قبل يومين فقط من القاهرة، وكان يتحدث مع أحد رجاله عندما وصل إليهم العميل الذي كان يعرفه حافظ لأنه سبق أن نفذ ست مهام مطلوبة منه في إسرائيل.
وروي العميل لحافظ ما عرفه عن قائد الشرطة وهو ما أزعج مصطفي حافظ وبخاصة أن بعض الشكوك أثيرت حوله، وقرر حافظ أن يفتح الطرد ثم يغلقه من جديد ويرسله إلي قائد الشرطة، وبمجرد أن فتح الغلاف سقطت علي الأرض قصاصة ورق فأنحني لالتقاطها وفي هذه الثانية وقع الانفجار وفي الخامسة صباح اليوم التالي لفظ الشهيد مصطفي حافظ أنفاسه الاخيرة متأثراً بجراحه، وأصيب أحد ضباطه بإعاقة مستديمة بينما فقد العميل بصره، واعتقل قائد الشرطة لكن لم يعثروا في بيته علي ما يدينه.
وبعد الإعلان عن خبر اغتيال مصطفي حافظ، احتفل رئيس الوزراء الصهيوني بن جوريون وموشي ديان رئيس الأركان الشهير، اللذان وقعا علي الخطة، وشربا نخب التخلص من «الرجل الظل»، ذلك الضابط المصري العظيم الذي أسس كتائب الفدائيين وأدخل الرعب على الإسرائيليين..والذي سطر اسمه بحروف من نور في سجل شهداء الشرف والنضال والحرية .
المراجع:
كتاب «كم طلقة في مسدس الموساد الإسرائيلي» – للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة
كتاب «أشهر الاغتيالات في العالم»- للكاتب الحسيني الحسيني معدي
مقال «ما أغفله التاريخ.. الشهيد د مصطفى حافظ .. عبقري مصري في سبيل فلسطين»- للكاتب حسن عمران
مقال «الرجل الظل»- موقع «المجموعة 73 مؤرخين»
مقال «مصطفى حافظ.. ملف اغتيال مجهول» للكاتب عادل حمودة جريدة البيان الإمارتية
أرشيف جريدة «الأهرام»