رؤى

أحمد يوسف أحمد.. مسيرة عروبي مصري

من الصعب على واحد مثلي ، يعرف الدكتور” أحمد يوسف أحمد ” منذ أكثر من أربعة عقود ، أن يتحدث عنه في عُجالة ، أو في قليل من الكلمات …

مهمة شاقة بلا جدال ، غير أنني وجدت في إسهامات الدكتور ” أحمد ” الكثير من الجوانب التي يتعين الوقوف عندها ، ولذلك كتبت عنه أكثر من عشرة فصول ، تمثل بإذن الله ، كتاباً مُكثفاً ومختصراً، أرجو من الله أن يعينني على إصداره …

ابن ثورة يوليو

الدكتور ” أحمد يوسف أحمد ” هو من أبناء ثورة يوليو ١٩٥٢ ، وهو أحد الوجوه المُشرفة والمُشرقة  لها ، والمُعبر في الكثير عن  توجهاتها بغير ادعاء ، أو ضجيج ، فلم يُعرف عنه يوماً ، تّطلُعاً لمنصب ، أو سعياً لمغنم ، أو طمعاً في مال …

أتذكر هذا الوصف ، الذي سمعته من المفكر الماركسي الكبير الدكتور ” اسماعيل صبري عبد الله ” وأظن أن ذلك كان في منتصف السبعينيات من القرن الماضي ، والذي عبرّ عن اعجابه الكبير بشخصه الكريم ، إثر مشاركة الدكتور ” أحمد” بورقة بحثية عن ” تأثير الفوائض البترولية العربية على التغيرات الإجتماعية في الوطن العربي ، بعد  حرب اكتوبر١٩٧٣ “…

 ووقتها كان الدكتور ” أحمد ” مشاركا  في حلقة نقاش محدودة لمُنتدى ” العالم الثالث ” الذي كان يرأسه الدكتور ” اسماعيل ” وزميله الدكتور ” ابراهيم سعد الدين ” رحمهما الله …

ومن اللافت  للنظر أنني سمعت هذا الوصف وذلك التقدير أيضا  من أستاذي الكبير الدكتور ” فؤاد مرسي ” و لا أعرف إن كان هذا التقدير يرجع الى معرفة شخصية ربطت بين الرجلين أم لا ؟؟

 غير أنني عرفت أن هذا التقدير يرجع الى تلك المتابعة الدؤوبة من الدكتور ” فؤاد” لكل مايتعلق بالفكر والمفكرين وخاصة الجيل الجديد منهم ، والذي كان الدكتور ” أحمد” أبرز أبنائه آنذاك  …

واذا كان هذا التقدير من بعض أعلام الفكر الماركسي العربي والمصري ، للدكتور ” أحمد ” بهذا الوضوح والموضوعية ، فما بالنا بهذا التقدير الذي يصدر عن أعلام الفكر القومي العربي الحديث …

كانت ندوة ” ثورة ٢٣ يوليو القضايا والتحديات ” التي نظمتها ” دار المستقبل العربي ” ومديرها الأستاذ ” محمد فائق ” في عام ١٩٨٦ ، هي مرحلة جديدة في الحياة العملية والقيادية للدكتور ” أحمد” …

كان غالبية الأساتذة والمفكرين والمثقفين الذين شاركوا في هذه الندوة البالغة الأهمية ، والتي ضمت نحو مائتي كاتب ومفكر وصحفي وباحث من جميع أنحاء الوطن العربي ، قد سمع بعضهم عن الدكتور ” أحمد ” غير أن الأكاديميين منهم كانوا يعرفونه حق المعرفة …

فالتاريخ الأكاديمي له ، كان واعداً منذ البدايات الأولى …

الصراعات العربية - العربيةففي بداية عقد السبيعنيات من القرن الماضي ، تقدم الباحث والمعيد بكلية الإقتصاد والعلوم السياسة ” أحمد يوسف أحمد ” برسالة علمية رائدة للحصول على درجة الماجستير ، وكان موضوعها ” السياسة الخارجية  السوفيتية  تجاه اسرائيل مابين عام ١٩٤٨ الى عام ١٩٥٦ ، مع الدراسة التحليلية للموقف السوفيتي  من قرار التقسيم الصادر عام ١٩٤٧ والمُتعلق بفلسطين ” …

كان الموضوع رائداً بلا شك ، والمُدهش أن المشرف على الرسالة ، كان على ما أظن هو الدكتور ” بطرس غالي ” السكرتير العام السابق للأُممْ المتحدة ، والذي يُعرف عنه توجهاته التقليدية المُحافظة !!!
والتي تصادمت بطبيعة الحال مع رؤية واستنتاجات الدكتور “‘أحمد ” والذي ينطلق من منظور مُختلف عن أستاذه …

كنت يومها حاضراً تلك المناقشة ، وكم  كان الدكتور ” أحمد ” مُقنعاً في رؤيته ، وشجاعاً في التعبير عن وجهة نظره …
غير أنه من الصدق القول ، أن أساتذة الدكتور ” أحمد ” وهم الدكتور ” خيري عيسى وبطرس غالي ” وغيرهم كانوا على نفس المستوى من الإحترام ، فرغم اختلاف بعضهم مع النهج الفكري والسياسي لطالبهم النابه الذكي ، ابن حي شبرا العريق ، فانهم لم يجدوا مفراً من منحة درجة الإمتياز لأطروحته …

غير أن المفاجاة الأكبر في المسيرة الأكاديمية للدكتور ” أحمد ” كانت مع رسالته للحصول على درجة الدكتوراه ، كانت الرسالة عن ” الدور المصري في اليمن ما بين عامي ١٩٦٢ و ١٩٦٧ “…
والتي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة ١٩٨١.
كم كان الموضوع رائداً بقدر ما كان شائكاً وصعباً ومُعقداً …

ففيه جوانب مُتعددة ، منها السياسي والعسكري ، وفيه الإجتماعي والاقتصادي ، فيه ما هو واضح وجليّ ، وفيه ما هو غامض وخفي …
من أجل تحقيق هذه الرسالة وتلك الغاية ، سافر الدكتور ” أحمد ” الى بلاد بعيدة ، ليجمع الوثائق والأبحاث والنصوص ، التي تدعم مشروعه ورؤيته …
ودون الدخول في تفاصيل تلك الرسالة الرائدة ، التي لم يسبقه فيها أحد ، فإنها وُصفت  عند كل من هو مهموم بقضايا العرب ، أنها انتصار كبير للحقيقة في تلك الحرب الوطنية والقومية المجيدة التي لا يستطيع أحد أن يتحمل تبعاتها سوى وطن بحجم مصر ، وقائد بقامة ” جمال عبد الناصر ” …

دكتور أحمد يوسف أحمد
دكتور أحمد يوسف أحمد

معالجة منهجية لفكر عبد الناصر

أعود لندوة ” ٢٣ يوليو ” …
ففي هذه الندوة تحدث الدكتور ” أحمد” في ورقة بحثية كانت تفسيرا و رداً  ونقداً لمفكر عربي كبير هو الأستاذ ” مُطاع صفدي ” الذي كنا نستحي نحن أبناء عبد الناصر ، من حجم التقدير والإحترام وفَرط الحب الذي كان يحمله لقائدنا الكبير …
كان يسبقنا بكثير …
الدكتور ” أحمد” قدم رؤية هي الموضوعية بعينها ، فالدكتور” صفدي ” كان يربط بين حبه الى حد العشق لجمال عبد الناصر ، ومشروعه الفكري …
جاءت ورقة الدكتور” أحمد ” لتؤسس لمعالجة منهجية لفكر عبدالناصر ، ومشروعه الوطني  التقدمي …
فقد توقف كثيراً عند النقد الموضوعي للتجربة ، وذلك الفكر المؤسس للثورة ، والذي نطلق عليه ” الفكر الناصري ” …
ما كتبه الدكتور ” أحمد ” كان يقوم على أهمية الإستفادة

 من دروس وتجارب ثورة ٢٣ يوليو في الحكم ، وذلك الفكر الذي تطور معها إبتداءً من فلسفة الثورة ، الى برنامج ٣٠ مارس ، والتوقف عند ” ميثاق العمل الوطني ” أهم وثيقة للثورة …

كانت وجهة نظر الدكتور” أحمد ” أن التجربة الوطنية ، وبرغم أهميتها قد تعرضت بعد انتقال صاحبها الى رحاب الله ، لكثير من الإنتكاسات ، بل وعند وجود قائدها ، أليس هو القائل ” لقد نجحنا في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي ، بينما فشلنا في ادارة مستشفى القصر العيني ” !!!

جمال عبد الناصر ومحمود فوزي
جمال عبد الناصر

الدكتور ” أحمد” يقول :
” ان الفكر الوطني والقومي الذي قدمه عبدالناصر عبر مسيرته الكبيرة ، هو الباقي ، غير أن ابقاءه حياً وفاعلاً يتوقف على قدر إسهام الأجيال الحالية والقادمة على تطويره ، وجعله مواكباً للوطن والعصر والإنسانية ” …

الحديث عن الدكتور ” أحمد” وقيمته الفكرية والإنسانية يطول ، ومن الصعب الإحاطة به في تلك العُجالة  …
غير أنني سوف أتوقف سريعاً عند ثلاثة رجال رأوْا في الدكتور ” أحمد ” الرجل الذي يضطلع بالمهام الكبيرة :
أولهم الدكتور ” عبد العزيز المقالح ” رئيس جامعة صنعاء في اليمن الحبيب والجريح …

وثاني الرجال كان ، الدكتور ” خيرالدين حسيب ” مؤسس ومدير مركز دراسات الوحدة العربية ومقره لبنان الحبيب …
أما الثالث فهو الدكتور ” محمد الميلي ” الدبلوماسي الجزائري الكبير، ورئيس المنظمة العربية للعلوم والثقافة …
الرجال الثلاثة كانوا من بين الحضور في ندوة ثورة ٢٣ يوليو …

بعد اتفاق مع الأول ذهب الدكتور ” أحمد ” ليؤسس قسم العلوم السياسية في جامعة صنعاء…
ومع الثاني ، أصدر له مركز دراسات الوحدة العربي كتابه الرائد ” الصراعات العربية العربية ” مابين أعوام ١٩٤٥ الى ١٩٨١ ، ثم أشرف ودقق الدكتور ” أحمد ” بعد ذلك ، على العمل الموسوعي الكبير عن ذات المركز ، وهو ” خطب وأحاديث الرئيس جمال عبدالناصر مابين عام ١٩٥٢الى عام ١٩٦٦…

أما ثالث الرجال ، وهو الدكتور ” محمد الميلي ” فقد كلفه بمهمة كبيرة وعسيرة وصعبة ، مهمة قيادة  وادارة ” معهد البحوث والدراسات العربية ” التابع لمنظمة الثقافة والعلوم العربية ، والتابع لجامعة الدول العربية ….

الحديث عن أداء وانجازات الدكتور ” أحمد يوسف ” في كل مهمة من هذه المهام والتي جاء بعضها بالتتابع ، وبعضها بالتوازي ، يضيق المجال عن حصرها ، أو حتى التوقف عندها بالقليل من الكلمات …

الذي أعطاه الدكتور” أحمد يوسف أحمد ” لكل من هذه الهيئات والمراكز والجامعات والمعاهد ، كان كبيراً وعظيماً ورائعاً …
إنجازات تتفق تماماً مع قدرات وامكانيات صديقي الكبير وشقيقي الغالي ، الذي يحمل من الصفات الإنسانية ، وجميل الخصال وعظيم الحب لكل من تشرف  بمعرفته ، ما تعجز الكلمات عن وصفه ، وان كانت مشاعر محبيه وعارفي فضله على نفس القدر من الحب ، فحبه للناس يُقابل بحب  من الله والناس أجمعين …

الجائزة المستحَقة

في الأسبوع الأول من شهر يونية من هذا العام ، عام ٢٠٢١ ، أدركت الدولة  – ممثلة في وزارة الثقافة  – قيمة هذا المفكر القومي الكبير  ، حيث اجتمع المجلس الأعلى للثقافة للإعلان عن أسماء  مُبدعي ومفكري الوطن من مختلف الأجيال  الفائزين بجوائز الدولة ، وجاء اسم الدكتور ” أحمد يوسف أحمد ” في طليعة الأسماء التي مُنحت جائزة الدولة التقديرية في العلوم الإجتماعية والسياسية ،لتكون بمثابة شهادة رسمية من الدولة المصرية لقيمة ومقام هذا المفكر الوطني والقومي الكبير ، والذي نال منذ أكثر من ثلاثة عقود محبة وتقدير مراكز البحث والدارسات العربية والدولية …

صحيح هو تقدير مُتأخر ، ولكن معرفتي بشخصية هذا المفكر الكبير ، تمنحني الدليل فوق الدليل ، أن تقدير وطنه ، حتى وإن جاء مُتأخراً فهو يكفيه شرفاً وسعادة ، وبنفس القدر الذي يمنح فوزه بهذه الجائزة الكبيرة الكثير من المصداقية والموضوعية لجوائز الدولة
تحياتي ودعائي لخير من أحببت …)

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker