فن

في ذكراه.. محمود المليجي.. مُبدع حتى النهاية

يَعُد الكثيرون من النقاد المشهد الاخير في فيلم الأرض ليوسف شاهين ،  أهم و أعظم مشهد في تاريخ السينما المصرية .. مشهد محمد أبو سويلم ذلك الفلاح المصري العظيم الذي يتشبث بأرضه ويقبض عليها بينما تجره خيل الاقطاعيين والفاسدين بحبل  فينزف الدم من جسده  ومن يديه المتشبستين بالأرض، فيما يقفز الغضب والحزن والانكسار من عيني “أبو سويلم”  ويكسح جسده الأرض الشراقي المتعطشة للماء الذي يريد الإقطاعيون الفاسدون أن يمنعوه عنها

اختار النقاد أيضا فيلم الأرض في المركز الثاني بعد فيلم العزيمة  في  استفتاء قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية عام 1996  بمناسبة انعقاد مهرجان القاهرة السينمائي آنذاك .. وأطلقوا  على محمود المليجي بعد أدائه الاستثنائي لشخصية الفلاح الفصيح محمد أبو سويلم لقب أنطوني كوين الشرق .. وفي مشهد السحل رفض المليجي استبداله بدوبلير وأدى هو المشهد العظيم وتحمل كل آلامه.

 وبعد مرور واحد وخمسين عاما على عرض الفيلم الرائع يبدو ” الأرض” كالجواهر الثمينة النادرة التي تزداد قيمتها  بمرور الزمن .. فالفيلم الذي ناقش قضية المياه من خلال   أوامر وصلت لعمدة  قرية مصرية تعيش في زمن الملكية عام 1933 كانت تقول ان نوبة ري أرض الفلاحين ستنقص للنصف وسينخفض وقتها من عشرة أيام لخمسة فقط ، ذلك أن أرض الإقطاعي الفاسد محمود بك ستتقاسم المياه  مع أرض الفلاحين فتثور ثائرة الفلاحين بقيادة ابو سويلم   الذي يتمسك برأيه وموقفه الرافض لنقص المياه حتى النهاية فيما يترك مشهد السحل ل”أبو سويلم ” النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات ..وها هي قضية المياه تشملنا الآن جميعا فنحن كوطن وأرض وشعب  نقف في قلب المشكلة بعد بناء  السد الأثيوبي لكن مصر  تضع خطا أحمر لمسالة حجز المياه بواسطة السد وإلا فكل الاحتمالات مفتوحة أيضا.

لا شك أن دور محمد أبو سويلم  قد كتب  شهادة للمليجي بأنه  واحد من عظماء القمة  على مدار تاريخ السينما المصرية كله..

 أغرب مشهد

بعد ثلاثة عشر عاما من عرض الأرض أيقونة يوسف شاهين ومحمود المليجي السينمائية ، يمثل المليجي مشهدا آخر في منتهى الغرابة والتفرد سيظل مرتبطا به يذكره التاريخ باعتباره أغرب وأعجب المشاهد  ليس فقط في تاريخ السينما المصرية وإنما السينما العالمية أيضا

في يوم السادس من يونيو عام 1983 كان المليجي  يجلس مع عمر الشريف أثناء البريك أو الاستراحة بين  تصوير مشاهدهما في فيلم أيوب وقال المليجي لعمر : “يا أخي الحياة دي غريبة جدا ..الواحد ينام ويصحى وينام ويصحي ويشخَّر” (من الشخير) ثم أومأ برأسه لاسفل وأطلق صوتا ولم يحرك ساكنا .. وعلى حد قول هاني لاشين مخرج الفيلم اعتقد الجميع أن الأمر هو واحد من تجليات المليجي وعبقرياته التمثيلية، وأنه يؤدي مشهدا من اختراعه  أبدوا اعجابهم بموهبة المليجي الفنية الخارقة لكن الموقف طال فقال عمر الشريف بصوت عال :”خلاص بقى يا محمود اصحى المشهد خلص “لكن المليجي لم “يصحى” ولم يحرك ساكنا واكتشفوا أنه مات بالفعل فجاؤوا بطبيب أخبرهم بوفاته نتيجة أزمة قلبية حادة .. وهكذا مات المليجي وهو يمثل كما عاش حياته كلها مخلصا لهذا الفن .. فن التمثيل

الشرير

ولد محمود حسين  المليجي في الرابع والعشرين من ديسمبر عام  1910 بحي المغربلين بالقاهرة وانتقلت أسرته إلى حي الحلمية .. وعشق فن التمثيل منذ صباه الباكر .. وفي المرحلة الثانوية في مدرسة الخديوية برزت القدرات الفنية الهائلة للمليجي في التمثيل وتلقى دروسا علي يد عمالقة الفن آنذاك مثل جورج أبيض وعزيز عيد وفتوح نشاطي.. والغريب أن محمود المليجي عشق الغناء في بداياته وحاول احترافه  لكن والده ثار عليه بسبب صوته الأجش وحاول أن يكون ملاكما لكنه تلقى ضربة  في إحدى المباريات جعلته يلغي فكرة الاتجاه للرياضة من الأساس

ورغم إعجاب المليجي في صباه بعزيز عيد إلا ان عيد بالذات صدمه  صدمة مروعة حين قال له :أنت لا تصلح للتمثيل ووجده أحد زملائه يبكي كثيرا بسبب راي أستاذه فأخبره زميله أنه سمع عزيز عيد يثني عليه  وعلى تميزه في التمثيل لكنه لا يريد أن يخبره برايه الحقيقي حتى لا يصيبه الغرور فطار المليجي من الفرح

رأت فاطمة رشدي المليجي يمثل فأعجبت جدا بأدائه وضمته لفرقتها ليمثل معها عدة مسرحيات منها 667 زيتون ومجنون ليلي ثم نقلته رشدي نقلة أخرى حين أسندت إليه دور البطولة امامها في فيلم الزواج عام 1933  لكن الفيلم فشل فشلا ذريعا فاكتأب المليجي وقرر أن يترك التمثيل وعمل لمدة عامين كملقن في فرقة  رمسيس  التي كانت مملوكة ليوسف وهبي وأشفق وهبي على المليجي فاعاده إلى التمثيل مرة أخرى من خلال مسرحيات الفرقة

https://www.youtube.com/watch?v=KUNV3kR90-g

وفي عام 1936 شارك المليجي في فيلم وداد أمام أم كلثوم ..وبعد ثلاث سنوات  شارك  بدور ورد غريم قيس في فيلم قيس وليلى  وابدع المليجي في أداء دور ورد الشرير .. وبعدها وبداية من عام 1940 انطلق المليجي انطلاقته الكبرى في عالم السينما حيث وجد  المخرجون ضالتهم  في محمود المليجي في أداء أدوار الشر

وكانت الأربعينات والخمسينات هي مرحلة الانتشار الكبيرة للمليجي فكان هو القاسم المشترك في عدد هائل من الأفلام التي انتجت في تلك الفترة  ومثل  فيما بين عامي 40 و59 ما يزيد عن  350 فيلما  كان من أهمها أمير الانتقام ورصيف نمرة 5 وكان من هذه الافلام افلام قلب المرأة وعريس من اسطنبول وعاصفة على الريف واولاد الفقراء والسجين رقم 17 وشكل مع فريد شوقي دويتو فنيا في كثير من الأفلام  وعن علاقته الفنية بفريد  قال المليجي في لقاء له مع المذيع طارق حبيب “أنا  وفريد نتشابه فنيا  في أننا مجرمين ..لكن فريد هو  مجرم الصدفة .. أما المليجي فهو مجرم السليقة”

تراوحت أدوار الشر التي قام بها المليجي بين اللص والقاتل وزعيم العصابة والعشيق الخائن كما أدى أدوار الباشا والفلاح والطبيب والمحامي والسياسي.

 إعادة اكتشاف

اكتشف يوسف شاهين محمود المليجي من جديد حين أسند إليه أهم أدواره على الإطلاق بل أحد أهم الأدوار في تاريخ السينما العربية قاطبة  في فيلم الأرض وقبلها كان المليجي قد انتهى من اداء دور السياسي  وهو أحد أهم أدوار المليجي أيضا في فيلم غروب وشروق

  منذ الأرض وما بعده من أفلام ليوسف شاهين   تمرد المليجي على حصره في أدوار الشر  فأدى دور الرجل الطيب والأب الحنون والإنسان المسالم في أفلام الاختيار  والعصفور   وعودة الابن الضال و واسكندرية ليه  .. وقد قال يوسف شاهين إن المليجي في رأيه هو أفضل ممثل يؤدي بعفوية وتلقائية مذهلة

 عمل المليجي في المسرح وله اكثر من 12 مسرحية كما شارك في عدد من المسلسلات التليفزيونية والاذاعية لكن تبقى السينما هي محرابه الذي كان فيه راهبا مخلصا  وعاشقا كبيرا  وحيث مثل في أكثر من 500 فيلم سينمائي .. والمدهش أنه لم يكن البطل المطلق إلا في عدد قليل  جدا من  هذه الأفلام مثل الارض لكن حضوره كان يطغى على الجميع فيبدو وكأنه البطل بلا منازع

https://www.youtube.com/watch?v=vLhF0OU2L0c

 وقد أطلق النقاد الفنيون على المليجي ألقابا يستحقها مثل أنطوني كوين الشرق وشرير السينما لكننا نضيف إليها لقبا جديدا هو أنه ” صاحب السينما” فهو أكثر  فنان عمل في السينما فرصيده من الافلام يصل الى  أكثر من 500 فيلم منها 21 فيلما ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية

 تزوج المليجي من الفنانة علوية جميل   عام 1939 وهي من أصل لبناني واسمها الحقيقي الياصابات خليل مجدلاني وقد ولدت في طماي الزهايرة قرية أم كلثوم  واستمر الزواج حتى رحيله عام 1983 ولم ينجب منها ،  وكانت هي قد تزوجت قبله وأنجبت ولدين  وبنتا ، ويقال أنها كانت تسيطر عليه وتتحكم فيه بشكل  عجيب ، وحاول هو التمرد على سيطرتها فتزوج من فنانة تدعى فوزية الأنصاري وبعد ثلاثة ايام من الزواج علمت علوية  بالأمر  فاتصلت  بضرتها فوزية لتلقي عليها يمين الطلاق .. ويقال أيضا أن المليجي تزوج من الفنانة سناء يونس سرا في مطلع السبعينات .. رحل المليجي في السادس من يونيو عام 1983  وبقيت عبقريته الفنية  صك   خلود له في تاريخ السينما وقلوب عشاقها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock