«إلى الضمير العالمي الذي قامت الأمم المتحدة لتمثيله.. وإلى أبناء إفريقيا.. القارة التي ستدور فيها معركة الحرية الأخيرة.. فمن أجل رسالة الأمم المتحدة، ومن أجل حرية إفريقيا، سُفك هذا الدم!».
كان هذا هو الإهداء الذي استهل به الأستاذ أحمد بهاء الدين الكاتب الصحفي الكبير، كتابه المجهول «مؤامرة على إفريقيا» والذي صدر بعد وفاته بنحو 12 عاما ضمن سلسلة «ذاكرة الكتابة» التي كانت تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة وكان الأستاذ رجاء النقاش يرأس تحريرها.
الراحل أحمد بهاء الدين أراد بهذا الكتاب أن يخلد ذكرى السفير المصري كمال الدين صلاح الذي استشهد في مقديشيو عام 1957، مطعونا بسكين من الخلف على يد شاب صومالي.
كان كمال الدين صلاح عضو لجنة الوصاية التي عينتها الأمم المتحدة لتهيئة الصومال للاستقلال الكامل من الاحتلال الإيطالي، يعبر الشارع أمام منزله في العاصمة الصومالية، وفجأة هجم رجل بسكين طويل وظل يطعنه حتى سقط مضرجا بدمائه، وتمكن المارة من القبض على هذا القاتل، أما صلاح فقد كانت لديه بقية من قوة مد بها يده إلى الوراء وانتزع السكين المغروس في ظهره، لكنه عندما وصلوا به إلى المستشفى كان قد أسلم الروح.
ويقول بهاء الدين: «ما كان أحد يتصور أن يلقى كمال الدين صلاح مصرعه في الصومال وهو يحمل اسم الأمم المتحدة ويمثلها في إعداد شعب الصومال للاستقلال الكامل.. كان واضحا أن هذه ليست جريمة قتل عادية من القضايا التي تقع كل يوم، إن كمال الدين صلاح هو الرجل الثاني الذي استشهد وهو ينفذ رسالة الأمم المتحدة، الأول هو الكونت برنادوت الذي كان ممثلا للأمم المتحدة في فلسطين وقتلته إسرائيل في سبتمبر عام 1948، وصلاح هو الثاني وقد قتله من؟».
«كمال الدين صلاح مواطن إفريقي، ابن بلد من البلاد التي ينبعث منها النور إلى إفريقيا، والصومال بلد إفريقي من البلاد التي حددت الأمم المتحدة لها موعدا حاسما يجب أن تستقل فيه، موعدا ليس ببعيد في سنة 1960. ليس من المصادفة قطعا أن يلقى كمال الدين مصرعه في هذه اللحظة بالذات، وبعد شهور قليلة فقط من نجاة بلاده من جريمة قتل مشابهة في بورسعيد.. فما سر هذه الجريمة؟»، يتساءل بهاء الدين.
ويستطرد قائلا: كان هذا السؤال يتردد على لسان كل مصري، وكل مهتم بسياسة مصر ومستقبل إفريقيا، ولم أكن أقل من الآخرين اهتماما بالعثور على إجابة لهذا السؤال، حتى أتاحت لي الظروف فرصة نادرة.. لقد كان من عادة كمال الدين أن يدون مذكراته وخواطره، وأن يحتفظ بها لنفسه وقد ترك بعده كمية هائلة من الأوراق الخاصة والمسودات وقصاصات الصحف والخطابات.
قلب الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين أوراق وقصاصات السفير كمال الدين صلاح، وعثر فيها على إجابات وتفاصيل عن حياة بطل تلك الدراما الفاجعة التي انتهت بمصرعه.
كان الصومال في بداية خمسينيات القرن الماضي مشمولا بوصاية الأمم المتحدة، وفي عام 1953 كان كمال الدين صلاح يقوم بعمله كقنصل لمصر في مرسيليا، عندما تلقى قرار الحكومة المصرية بنقله إلى الصومال، ولم يكن هناك تمثيل سياسي لمصر في تلك البلاد، ولكن مجلس الوصاية في الأمم المتحدة كان قد شكل لجنة ثلاثية من مصر وكولومبيا والفلبين، مهمتها أن تقيم في الصومال الموضوعة تحت الوصاية وأن تراقب عملية نقلها من مرحلة الوصاية إلى مرحلة الاستقلال.
حياة دبلوماسية حافلة
بدأ صلاح حياته في السلك الدبلوماسي في القدس سنة 1936، وكانت الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإنجليزي الإسرائيلي في أعلى مراحلها، ثم نُقل إلى اليابان عندما كانت الحرب اليابانية الصينية هي مشكلة العالم، ومن اليابان ذهب إلى بيروت، إذ كانت الحرب العالمية ناشبة، وجيوش حكومة فيتشي تحتل لبنان .. وجيوش إنجلترا وفرنسا الحرة تتهيأ لغزوها، والمجاهدون العرب يفرون من قبضة الإنجليز في العراق وفلسطين وإيران إلى بيروت التي كادت تغلق عليهم كالمصيدة، فدفعته سليقته ووطنيته إلى مساعدة هؤلاء اللاجئين، حتى طلب لورد كيليرن من الحكومة المصرية أن تسحبه من لبنان بسبب نشاطه، فأعادته إلى القاهرة حتى أشرفت الحرب على نهايتها.
بعدها صدر قرار بنقل كمال الدين إلى سان فرنسيسكو، وفجأة وقع خبر اغتيال رئيس الورزاء المصري أحمد باشا ماهر، واُعتقل في هذا الحادث أحد أقارب صلاح وهو الأستاذ فتحي رضوان، ذهب صلاح يسأل عن قريبه في السجن، فأُلقي القبض عليه من باب الاشتباه، وفتشوا بيته ووضعوه في السجن يوما وليلة، قبل أن تتبين حكومة النقراشي حماقة ما فعلت فأطلقوا سراحه.
صدر قرار بإلغاء سفر صلاح إلى سان فرانسيسكو، ونقل بدلا منها إلى اليونان، ليشهد هناك الحرب الإهلية بين الحكومة والشيوعيين، ومن اليونان نقل إلى العاصمة الأردنية عمان ليشارك في الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، ثم إلى تشيكوسلوفاكيا ليحضر فترة الانقلاب الشيوعي هناك ثم إلى دمشق ليشهد أصعب أيام حكم الشيشيكلي واصطدامه بالشعب السوري، ثم يأخذ هدنة في العاصمة السويدية ستوكهولم فتقوم ثورة 23 يوليو في مصر، وينقل إلى مرسيليا عام 1953، وكانت مرسيليا في ذلك الوقت مركزا هاما من مراكز نشاط الثوار الجزائريين، وكان الفرنسيون يرمقون كل مصري رسمي أو غير رسمي بنظرة شزراء خشية أن يكون ممن يقدمون مساعدات للثوار، وكان لابد أن يصطدم بهم كمال الدين صلاح لهذا السبب أكثر من مرة.
مر هذا الشريط الهائل الذي يبلغ طوله 18 عاما برأس صلاح في دقائق قليلة، وهو يبتسم قائلا أنه أغلب الظن سيحيا في الصومال حياء هادئة، فهذا البلد الصغير الفقير لم يعرف عنه العالم أنه مثير للمشاكل من أي نوع، وهو موضوع تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات تنتهي في عام 1960 بعدها سيصبح مستقلا، والدولة التي تتولى الإدارة في الصومال تحت إشراف الأمم المتحدة حتى يحصل على استقلاله هي إيطاليا، وهي تعد دولة استعمارية تثير المتاعب منذ صفيت إمبراطوريتها الإفريقية في الحرب الثانية، ثم إنه ليس ذاهبا هذه المرة بوصفه ممثلا لمصر، إنه يحمل صفة أخرى هي أنه ممثل للأمم المتحدة وهي الهيئة النبيلة المستقلة المحايدة المترفعة عن الأغراض (في ذلك الوقت)، لا يهمها إلا أن يتهيأ هذا الشعب للاستقلال في الموعد المطلوب.. «نعم أنها ستكون حياة هادئة».
نظام الوصاية
وقبل أن يتتبع بهاء الدين رحلة السفير المصري كمال الدين صلاح في مقديشيو منذ وصوله إليها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، أفرد الكاتب الكبير مساحة من كتابه لتعريف نظام الوصاية الذي استحدثته الأمم المتحدة لتهيئة الدول المحتلة في ذلك الوقت للاستقلال.
يقول بهاء الدين: «قبل الحرب العالمية الثانية كان هناك نظام الانتداب الذي لم يكن في الواقع أكثر من اسم مهذب للاستعمار، كانت سوريا ولبنان مثلا تحت الانتداب الفرنسي، وكانت فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، ومع ذلك كان الشعب العربي في تلك البلاد في ثورات متصلة ضد إنجلترا وفرنسا بوصفهما دولتين استعماريتين، فلما نشبت الحرب العالمية الثانية، ومن خلال أحداثها ووعودها، بدا أن الشعوب المستعمرة سوف يبزغ عليها بعد الحرب فجر جديد.. وفي مؤتمر يالطا، حيث اجتمع رزوفلت وتشرشل وستالين، واتفقوا على تنظيم العالم وهيئة الأمم بعد الحرب، على أن تتشاور الدول الخمس التي سكيون لها مقاعد دائمة في مجلس الأمن في شأن مسألة الوصاية الإقليمية قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة».
ولما انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو لوضع ميثاق الأمم المتحدة، ولد مبدأ عالمي جديد هو أن الشعوب المستعمرة والمتخلفة مسئولية من مسؤليات المجتمع الدولي كله، وإن العلاقة بين الدولة المستعمرة والدولة الخاضعة للاستعمار ليست علاقة خاصة ، إنما هي علاقة عامة، من حق الأمم المتحدة ومن واجبها كممثلة للمجتمع الدولي أن تتدخل فيها، واتُفق على تقسيم البلاد غير المستقلة إلى نوعين، الأول هو المستعمرات بوجه عام، والنوع الثاني هو المستعمرات التي كانت خاضعة لنظام الانتداب قبل الحرب، والمستعمرات التي كانت تستعمرها (دول الأعداء)، أي ألمانيا وإيطاليا واليابان، هذا النوع الثاني هو الذي تَقَرر وضعه تحت الوصاية.
وللأمم المتحدة وفقا لهذا النظام أن تُشرف على إدارة الأقليم المشمول بالوصاية، ومن أجل ذلك فقد نص ميثاقها على تكوين جهاز خاص من أجهزتها يتفرغ لهذه المهمة، ذلك هو مجلس الوصاية، ومهمته أن يراقب إدارة الدولة الوصية للبلد المشمول بالوصاية، وأن يتلقى سنويا تقريرا من هذه الإدارة، وأن يفحص العرائض التي قد تقدم إليه من البلد المشمول، وأن يرسل بعثات دورية تزور هذه الإقاليم.
والوصاية على أي بلد لها هدف واضح ومحدد لا يحتمل التحايل، ذلك هو: إعداد الشعب الموضوع تحت الوصاية للاستقلال الكامل طبقا لمعاهدة محددة، ويتشكل مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة على النحو التالي:
1- الدول التي تقوم بالوصاية على الأقاليم وهي (إنجلترا وفرنسا وبلجيكا واستراليا ونيوزيلندا وأمريكا)
2- الدول ذات المقاعد الخمسة الدائمة في مجلس الأمن وهي ( إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا والصين)
3- عدد آخر من الدول، يكفي لكي يصبح عدد الدول الأعضاء التي لا تقوم بالوصاية مساويا للدول الأعضاء التي تقوم بالوصاية.
وتطبيقا للبندين الأول والثاني أصبح أعضاء أول مجلس وصاية: إنجلترا وفرنسا وأمريكا واستراليا ونيوزيلندا وبلجيكا وروسيا والصين، ولما كانت 6 من هذه الدولة يقومون بالوصاية على بعض الأقاليم، ودولتان فقط هما روسيا والصين لا تقومان بأي وصاية، فقد وجب تعيين أربع دول أخرى أعضاء في المجلس حتى يكون عدد كل من الدول الوصية والدول غير الوصية (6)، فإذا تغير عدد الدول الوصية تغير بالتالي عدد الدول غير الوصية احتفاظا بالمساواة العددية.
ويرى بهاء الدين أن السر في هذا التشكيل بالغ التعقيد، أن الدول الوصية وهي الدول القوية، حرصت على الاحتفاظ لنفسها بنصف عدد الأعضاء، حتى لا تصدر القرارات ضد مصلحتها، ومعنى ذلك أن الدولة الوصية لا تحب أن تسلم سريعا بضرورة إنهاء وصايتها أو الإسراع بإعداد الإقليم التابع لوصايتها للاستقلال، «فها هنا إذا مجال كبير للمناورات».
كان هذا أول إنذار للمسافر إلى الصومال السفير كمال الدين صلاح الذي يبدو أن مهمته لن تكون سهلة، كما تصور وهو يعد نفسه إلى السفر لهذا الجزء الهادئ من العالم.
شعب على الفطرة
وصل كمال الدين صلاح إلى مقديشيو، ولم تمض أسابيع حتى وقع في غرام هذا الشعب الفقير، كما وقع هذا الشعب الصغير الفقير في حب الدبلوماسي المصري. ومصدر هذا الحب المتبادل، أن صلاح وجد نفسه محاطا بشعب مسلم، ولغته المفضلة العربية ولهجاته المحلية فيها كثير من الكلمات المصرية القديمة، أما الصوماليون فقد وجدوا في الوافد المصري أنه إفريقي مثلهم، نعم أنه يمثل الأمم المتحدة ولكنه من دينهم ومن جنسهم ومن قارتهم، فهم يطمئنون إليه ويفتحون له قلوبهم ويعتبرونه واحدا منهم، يقاسمهم حياتهم ومستقبلهم ومشاكلهم، ويجدون في البلد التي جاء منها (مصر) البلد الإفريقية التي استطاعت أن تتحرر وتستقل وتصبح دولة مرموقة متحضرة، فهي صورة معبرة للأمل المنتظر أمام الإفريقيين جميعا.
وينقل بهاء الدين إحدى رسائل صلاح الأولى التي كتبها إلى أصدقائه وذويه من مقديشيو شارحا فيها ظروف البلد الذي انتقل إليه: «قمت بجولة في أنحاء الصومال دامت أسبوعين، قطعت خلالها ثلاثة آلاف ميل بسيارة جيب، اجتزت خلالها أراض صحراوية وغابات استوائية ومناطق زراعية.. لقد اختلطت خلال هذه الرحلة بالأهالي وتحدثت إليهم، وصليت معهم في المساجد، وخطبت فيهم شارحا وضع بلادهم والدور الذي يجب أن يقوموا به ليحققوا استقلالهم والدور الذي تقوم به الأمم المتحدة لمساعدتهم».
ويكمل صلاح: الناس هنا يعيشون على الفطرة كيوم هبط سيدنا أدم على الأرض، يأكلون مما يحصلون عليه من صيد الغابة، شبه عرايا ليس على أبدانهم سوى ما يستر العورة، يبيتون في العراء، وقد يكون لسلطان القبيلة وزعمائها أكواخ من القش وفروع الشجر، حتى العاصمة نفسها، نجد أن أحياء أبناء البلد فيها فقيرة كئيبة ورغم أن هناك مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة ألا أن أغلبية الناس منصرفون عن زراعتها، فهم لا يعرفون طرق الزارعة ويعجزون عن مجارة الإيطاليين الذي يزرعون المناطق القريبة من النهرين بآلات حديثة.
«ورغم كل ما سبق نجد هؤلاء الناس يتقدمون في فهمهم السياسيي بشكل عجيب، ففي أقصى الغابات نجد واحدا يملك (راديو بطارية) يسمع منه ومعه الآخرون نشرات الأخبار، لقد وجدتهم يعرفون أخبار مصر معرفة دقيقة، ويتتبعون معاهدة الجلاء، والحلف العراقي التركي، وسفر جمال عبد الناصر إلى مؤتمر باندونج.. إنهم يتعلقون بمصر تعلقا شديدا وينتظرون منها ان تساعدهم».
انتهت رسالة كمال الدين صلاح التي شرح فيها أوضاع البلد الإفريقي العربي الذي وصل إليه، وفي الحلقة القادمة يسرد الأستاذ أحمد بهاء الدين المشاكل التي واجهت صلاح في الصومال وكيف حاول أن يقيم قناة اتصال بين القاهرة ومقديشيو وكيف أصر ممثلو الاستعمار القديم على إفشال مهمته ومهمة مجلس الوصاية؟