رؤى

“غرائب المكتوبجي”.. جناية الرقيب على الصحافة

إذا كان الكاتب الروسي المشهور فيودور دوستويفسكي يرى أن “حدة الوعي علة”، فقد نادى الأديب والصحفي اللبناني سليم سركيس (1867- 1926)، في كتاب ساخر له، بضرورة أن يعيش الإنسان “عيش الأغبياء”، وأن يمضي في حياته رافعاً شعار الشاعر العربي القديم، ابن نباتة السعدي: “لا عيش إلّا عيشَ من لم يعلمِ”!

وسليم شاهين سركيس، صحفي لبناني عمل محرراً لمدة ثماني سنوات في صحيفة “الحال”، التي كان عمه الأديب خليل سركيس يرأس تحريرها، وعرّضته كتاباته الساخرة لمتاعب كثيرة مع الرقابة العثمانية؛ فهرب إلى باريس، وساهم في إصدار صحيفة هناك باسم “كشف النقاب”، ثم انتقل إلى لندن، حيث عاش لمدة 3 سنوات وكتب في كبريات الصحف البريطانية، ومن بينها “الديلي تليجراف”. وبعد ذلك انتقل إلى القاهرة، وعاش فيها زمناً طويلاً، وأصدر المجلة النسائية “مرآة الحسناء”.

ولـ سركيس عدة كتب وروايات، من بينها “الندى الرطيب في الغزل والنسيب”، و”مسيو ليكزك.. أو بوليس باريس”، وكتاب مترجم عن الإنجليزية بعنوان “رحلة السيدة نجلا صباغ الزحيلة”.

لكن أهم كتب سركيس هو “غرائب المكتوبجي” أو “الرقيب” الصحفي، الصادر عام 1896، والذي أُعيدت طباعته في القاهرة مؤخراً (يناير/ كانون الثاني 2021)، وهو الكتاب الذي كان سبباً في صدور حكم بإعدام مؤلفه، لأنه صدّره بإهداء من أغرب ما يكون: إلى جلالة السلطان عبد الحميد الأعظم.. مولاي يسوءُني أنني من جملة رعاياك!

لكن حكم الإعدام لم يُنفذ، حيث فر الكاتب إلى مصر التي كانت واحة للديمقراطية وقتها، وعاش بها حتى وفاته عن عمر ناهز 59 سنة، ونعاه كبار أدباء ذلك العصر، وعلى رأسهم إبراهيم عبد القادر المازني وميّ زيادة.

غرائب المكتوبجيإكسير السعادة

ضاق سركيس ذرعاً ﺑ “المكتوبجي”، الذي كان يُعيّن بفرمان خاص من السلطان العثماني، وكانت مهمته هي مُراقبة وتمحيص كل ما يُكتب في صحف الأقاليم التابعة للدولة العثمانية آنذاك، بحيث يضمن عمل الرقيب ألا يتجاوز أي محرر صحافي “السقف” الموضوع لنقد المسؤولين وأُولي الأمر، بدءاً من جلالة السلطان الجالس على عرشه في الباب العالي بمدينة الآستانة، إلى أصغر مُستَخدم (موظف) في الدوائر السنية العثمانية.

وأراد الكاتب، وهو سليل عائلة لبنانية أنجبت صحافيين ومثقفين معروفين، أن يُطلِع معاصريه على “غرائب المكتوبجي”؛ ذلك الشخص الذي “يختلق كل ذريعة للإضافة والحذف، حرصاً من السلطات المختصة على ألاّ يقترب أحد من حمى السلطان، أو حتى من أسماء المملكة وصفاتها، فتراه في سبيل ذلك يُلبِس الكلماتِ ثوباً غير ثوبها، ويُحمِّلها بمعانٍ غير معانيها، ويُحول غرض التراكيب إلى غير ما يريد الكاتب، ولا يملك الكاتب إزاء هذه السياسات المضحكة إلا الانصياع مُرغماً، تفاديًا لبطش السلطان. غير أن هذه الممارسات على ما هيّ عليه من تسلُّط، لا تخلو أبداً من أقاصيص الفكاهة التي لا يزال يتندر بها الصحفيون حتى الآن”.

يبدأ سركيس كتابه الشيّق بـ “كلمة المؤلف” التي يقول فيها: “قُضيَ عليَّ أن أُولد في المملكة العثمانية من والدين عثمانييّن، لحكمة لستُ أدرك غايتها، كما قُضي على سائر العثمانيين أن يصيروا إلى حالة سقوطهم الحاضرة؛ فلا هم في مقدمات الأمم المتمدنة، ولا هم في أُخرياتها”.

ويسخر الكاتب من نفسه – أولاً- في مطلع الكتاب، قائلاً: “إن أهلي أرسلوني إلى المدارس حيث تلقيت شيئاً من العلم، فأصبحت – في علمي- أستحق أن يُشفق عليّ الجاهل، وصرت أتمثل بقول الشاعر: من لي بعيش الأغبياء فإنه.. لا عيش إلا عيش من لم يعلمِ”!

سليم سركيس
سليم سركيس

ووفق المؤلف، كان للحكومة العثمانية قوانين معلومة منشورة في “الدستور الهمايوني”، من بينها قانون المطبوعات، الذي يجب أن تجري عليه الجرائد، وفيه تحديد مقدار “الحرية المعتدلة”، التي هي – كما يقول- “إكسير السعادة” بالنسبة للصحافيين والكُتّاب. وإلّا، فإن البديل هو “مقصلة المكتوبجي”، الذي يقطع دابر أي فكرة معارضة، بل من الممكن أن يكتب عكسها تماماً على لسان كاتبها، وهو أمر غير مسبوق- ولا ملحوق- في الصحافة العالمية.

وكان ثمة خطوات محددة لعملية الرقابة على الصحف، فبعد أن يكتب محرر الصحيفة المقالات، وتصير جاهزة للطبع، تبعث الإدارة بنسختين منها إلى “قلم المكتوبجي” لكي يجيزها الرقيب، من عدمه. وغالباً ما يكون مصير هذه المقالات هو “من عدمه”!

ويكون على عمال المطبعة والمحرر أن ينتظروا رجوع المسودة قبل أن يبدأوا بمباشرة الطبع، إذ تُرسل هذه المسودة عادةً الساعة العاشرة صباحًا، وقد تبقى عند “المكتوبجي” إلى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، وهذا التعطيل يشمل الإدارة والمطبعة والعمال والمحررين، مع العلم أن الجورنال يوميّ. وإن تأخرت مادته عن المطبعة سوف يصبح مثل “الطبيخ البايت”.

يحكي سركيس: “عندما تصل المسودة إلى سراي الحكومة، يأخذها العسكري الملازم في خدمة سعادته “المكتوبجي ” من صبي الإدارة، ويضعها على طاولة مولاه. ويبقى الغلام في انتظاره إلى أن يرحم ويُشفق. وعند ذلك، يتنازل فيرسل المسودة إلى أحد خلفاء “قلم المكتوبجي” المُسمى عبد الرحمن أفندي الحوت ليطالعها قبله؛ وذلك لأن المكتوبجي الحالي عبد الله نجيب يعرف من اللغة العربية قدر ما أعرف أنا من لغة أبينا آدم”!

خبر عن سليم سركيس
خبر عن سليم سركيس

القانون في “الراس لا الكراس”!

يضرب الكاتب أمثلة عديدة صارخة على جهل “المكتوبجي”، وغرائبه، منها أن كاتباً من أدباء ذلك الزمان اسمه يوسف حرفوش، كتب كتاباً في الأمثال باللغتيّن الفرنسية والعربية، وورد في جملة من الكتاب المثل الشعبي الشهير “الحركة فيها بركة”، فأمر الرقيب بحذف المثل برمته، زاعماً أن لفظ “الحركة” تفيد في الأدبيات الأوروبية الحديثة، المسيطرة على العقول وقتها، معنى الثورة.

ويروى المؤلف أنه: “ذات يوم من عام 1894، صدر أمر المكتوبجي إلى جميع صحف بيروت كما يلي: لا يُعطى لقب “جلالة وعظمة” إلا للسلطان العثماني عبد الحميد وحده، ويُلقب الملوك والأباطرة الأجانب بلقب “حشمتلو”. وحدث ذات مرة بعد صدور هذا الأمر، أن ورد اسم ملكة إنجلترا في إحدى مقالاتي، فلقّبتها هكذا: «حشمتلها» وهو مؤنث «حشمتلو»، فغضب عليّ المكتوبجي غضبة شديدة، وتهددني من فوره بتعطيل الجريدة، وأمرني أن أستعمل لها اللقب الآتي: «حضرة ملكة انجلترا»!

وفي واقعة أخرى، يقول سركيس: لما أكثر المكتوبجي من حذف المقالات، ضجر الأديب اللبناني عبد القادر قباني، صاحب جريدة “ثمرات الفنون”، من تصرفات الرقيب، وزاره ذات يوم في مكتبه، فقال له: نرجوك يا سيدي أن تعيّن لنا خطة نجري عليها في نشر مقالاتنا، وتُرينا القانون الذي نخضع له في تحرير جرائدنا. فنظر إليه سعادته، وقال بكل هدوء: ألا تدري أين القانون يا بيك؟ فأجاب قباني، الذي كان يشغل منصب رئيس بلدية بيروت وقتها، سلبًا. وإذ ذاك وضع المكتوبجي إصبعه على دماغه، وقال: إن القانون هنا.. “في الراس مو في الكراس”!

مقطع من غرائب المكتوبجي
مقطع من غرائب المكتوبجي

وكان الكاتب المصري الراحل صلاح عيسى، يرى أن كتاب “غرائب المكتوبجي” علامة فارقة في تاريخ الأدب السياسي العربي الساخر، على مر العصور، لكونه نقطة مفصلية في مسيرة هذا النوع الأدبي نادر الوجود في لغتنا العربية. وأعاد عيسى طبع الكتاب حينما كان يرأس تحرير جريدة “القاهرة” الصادرة عن وزارة الثقافة.

وقال عيسى ذات مرة، لكاتب  هذه السطور، إن كتاب غرائب المكتوبجي هو أحد تجليات الأدب السياسي الساخر، القليلة، معتبراً أن أسلوب “سركيس” هو الأب الطبيعي لأسلوب الصحافي الكبير الراحل محمد التابعي، عرّاب اللغة الصحافية الحديثة في مصر، وأن الكتاب أحدث بصدوره عام 1896، نقلة نوعية قفزت بالكتابة (الساخرة) من عصر الجاحظ، إلى عصر النهضة الثقافية المبكرة في نهاية القرن التاسع عشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock