في هذه الظروف التي تواجه فيها هِبةُ النيل مؤامرة خبيثة تستهدف وجودها وماضيها ومستقبلها يتأهب شباب غال من أبنائنا وبناتنا لبذل الحياة في سبيل هذه الأرض الطيبة ونهرها المقدس الذى جري بالنعم فيها قرونا، عاقدين العزم على صد عدوان مبيَّت لازالت كل محاولات دفعه بالحوار والتفاوض تصطدم بحائط صلد من الحقد والكراهية وقصر النظر.
ولأن الاجتهادات تختلف فيما يجب عمله فقد يكون من المفيد أن نلقى نظرة على بعض الحروب و الأحداث التاريخية التي تراوحت فيها الآراء في الأزمات المصيرية بين حكمة الركون الى دعوات السلام وتجنب الحروب وويلاتها وحتمية اللجوء للقوة وضروراتها إذا لم يكن من ذلك بد.
حرب الفولكلاند
بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية تخلت بريطانيا عن الكثير من مستعمراتها واحتفظت ببعض مناطق نفوذ تبعثرت على أطراف الكرة الأرضية رموزا للإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس. كانت منها جزيرتا الفولكلاند الواقعتان في قاع الكرة الأرضية في مواجهة الأرجنتين، التي كانت تحلم باستعادتهما من الإمبراطورية التى كانت تسيطر عليهما منذ مائتى عام. وفي انتخابات عام ٧٩ نجح حزب المحافظين اليمينى في الوصول الى مقاعد الحكم بزعامة مارجريت تاتشر التي جاءت بنية تقليص الإنفاق على الخدمات فأغلقت العديد من المستشفيات واختصرت الكثير من برامج الضمان الإجتماعى ورفعت أسعار الفائدة على القروض، وواجهت بذلك احتجاجات كثيرة، وخلال ثلاثة أعوام هبطت شعبيتها الى أدنى المستويات وأصبح مستقبلها السياسي في مهب الريح. لكن حدث ما لم يكن متوقعا حين فوجئت بريطانيا بالأرجنتين تقتحم جزيرتى الفولكلاند وتعلن استعادتهما للسيادة الأرجنتينية. كانت الخطوة مباغتة وحاسمة وانطوت على تحد بالغ للنفوذ والكرامة البريطانية. استشاطت تاتشر غضبا واتصلت بالرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريجان واخبرته أنها ستسترد الجزر بالقوة وضمنت تأييده، وسحقت أي همسات تردد أو همهمات إعادة حساب أو دعوات للتريث في حزبها. كان رأيها الحازم أن ما حدث هو عدوان على بريطانيا وأنه لا يمكن السكوت عليه، وبسرعة صدر قرار من مجلس الأمن يؤيد حق بريطانيا، وفى ظرف أسبوعين تكونت حملة ضخمة من السفن الحربية والفرقاطات وحاملات الطائرات والغواصات، وأبحر الأسطول البريطاني ثمانية آلاف ميل نحو النصف الجنوبى من الكرة الأرضية، وضمت إحدى السفن ضابط البحرية ابن الملكة المحبوب الأمير أندرو. وبعد أقل من شهر وصلت القوة الى الجزر في جو شتاء قارس وتعاملت مع سفن الارجنتين بمنتهى الشراسة بادئة بإغراق احدى الغواصات البريطانية للسفينة بلجرانو أكبر سفينة لدى الارجنتين وراح معها ثلاثمائة وستون من البحارة والجنود مما أخرج البحرية الأرجنتينية عمليا من المعركة، وغرقت فرقاطة بريطانية كذلك، ثم خاضت المدفعية والمشاة بمعاونة القاذفات المقاتلة معركة بالغة العنف حتى استعادت الجزيرتين ورفعت عليهما العلم البريطاني. وبمجرد انتهاء المعركة ارتفعت أسهم تاتشر للسماء فقامت بزيارة الفولكلاند على ظهر مدرعة ولقبت بالمرأة الحديدية. وفي الانتخابات التالية حققت فوزا ساحقا اعتبرته تفويضا لها بالاستمرار في تقويض اركان دولة الرعاية الاجتماعية، فشرعت في برنامج خصخصة عنيف تخلصت فيه من الركائز القديمة للصناعة، وحولت الاقتصاد من إنتاجى الى خدمى، ثم فرضت شروطها على الاتحاد الأوروبى، فرفضت الدخول في عملة اليورو ورفضت وثيقة الحقوق الاجتماعية لكنها نجحت في جعل لندن العاصمة المالية للاتحاد مما أفاد الاقتصاد بدرجة كبيرة. وتحالفت مع الرئيس ريجان لإسقاط الاتحاد السوفيتى، إلا أنها سقطت بعد ذلك من جراء قسوتها وحدة آرائها وانعدام قدرتها على الشعور بمعاناة الناس، حتى أنه نقل عنها قولها “انا لا أومن بشئ اسمه المجتمع”.
ويكاد يجمع معظم المحللين على أن قرار الحرب وخوضها كانا خطوة بالغة الذكاء عظيمة الفائدة لزعامة تاتشر ولمكانة بريطانيا في المعسكر الغربى، استردت بها عنصر المبادرة وقوة التأثير العالمى ووضعتها بعد سقوط الاتحاد السوفيتى فى الموقع الثانى عمليا بعد الولايات المتحدة.
هتلر بين تشمبرلين وتشرشل
ولو عدنا إلى الحرب العالمية الثانية فربما نلمح بعض التشابه في سيناريو البداية. فبعد الحرب الأولى خرجت المانيا مهزومة مجروحة وفرضت معاهدة فرساى عليها أن تقلص جيشها الى مائة الف فقط ومنعتها من ان يكون لها سلاح طيران او سلاح مدرعات فزادت البطالة وعم الركود الإقتصادى، لكن الجندى هتلر صعد نجمه وسرعان ما وصل لزعامة الحزب النازى على اجندة معاداة الشيوعية وتحجيم سيطرة اليهود على الاقتصاد، وبعد حريق البوندستاج مقر البرلمان أصبح مستشاراً لألمانيا، وبدأ ببناء شبكة طرق واسعة وطور هياكل البنية التحتية وخلق فرص عمل كثيرة قضت على البطالة فأكسبته تأييد الشعب، ثم شرع سرا في بناء سلاحى الطيران والمدرعات وزيادة عدد الجيش. وعندما تجمعت لديه قوة مناسبة بدأ يتطلع الى ضم البلاد المحيطة والتي كانت ترتبط تاريخيا بالمانيا كالنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا. وكانت بريطانيا وفرنسا تراقبان ما يحدث لكن لم تكن لدى أىٍ منهما شهية للدخول في حرب جديدة. وفى عام ١٩٣٨بدأ هتلر بالزحف على ارض الراين غربا ثم دخلت قواته النمسا التي رحبت بها، ولكن حين تحرك نحو تشيكوسلوفاكيا غربا تأكدت نواياه التوسعية لكثير من الساسة الانجليز وارتفعت تحذيراتهم، إلا أن رئيس الوزراء البريطانى تشمبرلين ظل يؤثر السلامة فتوجه إلى المانيا ثلاث مرات حاول خلالها استمالة هتلر للتعاون وسمح له في آخر زيارة باحتلال الأطراف الجرمانية فقط من تشيكوسلوفاكيا، وعاد الى لندن مبتهجا ملوحا باتفاقية سلام معه، لكن كثيرين في الساحة البريطانية عبروا عن قلقهم ونبهوا لخطر التراجع أمامه وقالوا ان ذلك سيفتح شهيته للمزيد وحذر تشرشل مما سماه سياسة المهادنة. وبالفعل خالف هتلر المعاهدة واجتاح كل تشيكوسلوفاكيا ومع ذلك لم تتحرك بريطانيا وتقاعس تشمبرلين عن التصدي له. بينما استمر هتلر في السعي لمزيد من التوسع فعقد تفاهماً مع ستالين أتاح له اجتياح بولندا. عند ذلك استيقظ الانجليز واعتبر تشمبرلين ذلك بمثابة إعلان حرب فأخلى موقعه بعد أسابيع قليلة لتشرشل الذى قاد الأمة البريطانية والعالم الغربى في أكبر حرب في التاريخ مع المانيا. ويعتقد كثير من المؤرخين أن هذا التراخى في التصدي لهتلر كلف العالم ست سنوات من حرب هائلة وخمسين مليونا من الضحايا.
ساعة المواجهة
هذه السطور السابقة تقودنا إلى الحديث عن الأزمة الراهنة التي تواجهنا كأمة مصرية .. أزمة السد الإثيوبي ..ونحن في مصر علينا أن نتنبه إلى أن ضبط النفس الهائل الذى تصرفت به الدولة المصرية إزاء عدوان سافر على حقوقنا وتحد غير مسبوق لكل الأعراف والقوانين الدولية لا ينبغي أن يعطى انطباعا بضعف أو قلة حيلة ولكن إعداداً لساعة مواجهة اتضحت من زمنٍ حتميتها. فالحقد الحبشي على مصر قديم وقد عبر ساستها وممثلوها في السنوات الأخيرة عن كم هذا الحقد بكل الصور ولم يعد هناك شك بالرغبة الجنونية لديهم فى قطع شريان الحياة عنها. ونذكّر الذين لا يريدون رؤية ذلك الخطر بالمثل المصرى العتيق “من لا يرى من خلال الغربال .. أعمى”. فمصر لم تناصب العداء لأهل الحبشة يوما ولكن كان الغدر يأتى من جانبهم، ورغم أن الأمطار التي تسقط على هضبتهم كانت دائما تزيد على عشرين ضعف لما يصل لمصر في النيل إلا ان الحبشيين لم يصنعوا منها شيئا بينما قدمت مصر للعالم أروع الحضارات ونبتت على ارضها بذور الإيمان والتوحيد وكانت سلة الطعام للبشر عبر العصور.
إن على المعارضين او الذين يتخوفون من احتمالات المواجهة العسكرية أن يدركوا أن ما يفعله أبى أحمد في اثيوبيا يمثل نفس الخطر الذى شكله هتلر على أوروبا. فكما سعى هتلر لقضم دولها قطعة بعد قطعة فإن أبى احمد يسعى لقضم النيل الأزرق سدا بعد سد لتركع مصر في النهاية وتستجدى الماء منه ومن حلفائه قطرة قطرة وبأى ثمن. إن الانسياق وراء تفاوض لانهاية له هو الفخ الذى يجب أن نتجنبه بعد ان اوضحنا للعالم عدالة قضيتنا، إذ لابد في النهاية ان يكون خيار الحرب حاضراً باستمرار علي الطاولة إزاء ما هو مخطط لنا، واللجوء للقوة قد يكون في آخر المطاف أفضل ما نفعله رغم الثمن الفادح، فالنيل لا ثمن له وواديه وديعة عمرها آلاف السنين لا سبيل للتفريط فيها وهو ما لم ولن يفهمه الإثيوبيون.
مصر وفكرة الحرب
لقد عانت مصر لعقود طويلة من عقدة الهزيمة وثمن الحروب، وحتى فوائد النصر جاءت أحيانا منقوصة لاعتبارات تاريخية كثيرة ليس هنا مكانها، لكنها تحتاج الآن إلى أن تثبت للعالم قوتها وعزمها على صيانة حقوقها والتصدى لأى غارات على مصالحها، ومن المؤكد أن شراسة الخطاب الإثيوبى وتبجحه في التنصل من كل المعاهدات، واستهتاره بالقانون الدولى تشى بأنه يستخف بقدرات مصر العسكرية أو بان هناك من يصورون له أن المصريين باتوا يخافون من فكرة الحرب ، وربما ساعد على ذلك هذا الإلحاح المتكرر في بعض التصريحات على أننا لا نفكر في الحرب التزاما بمبدأ التفاوض ولا شيء غيره، مما شجعهم على المضي في غيهم.
إن التحدى الذى تواجهه مصر لم يعد قضية المياه فقط ولكنه تحد لمستقبلها في نظام عالمى جديد يتشكل تدريجيا امامنا وتريد اثيوبيا ان تسرق دورنا فيه. والتحليلات ترشح إسرائيل وتركيا وإيران كلاعبين أساسيين مستقبلا في منطقة الشرق الأوسط، ونتساءل هل تملك مصر أن تتخلف عن الركب أو تدخل هذا المعترك مكتوفة الأيدى مغلولة الإرادة تستجدى الماء من ملك الأحباش الجديد ابي احمد ؟
إن إثبات مصر لقوتها وصلابة عزيمتها في الدفاع عن مصالحها ضرورة حياة لا غنى عنها. وواجب تهون دونه كل الأرواح، وهو رسالة لازمة للعالم – الذى لا يفهم إلا لغة القوة- بأن مصر لها دور في المنطقة وفى هذا النظام العالمى الجديد وأنها عازمة عليه ولن تفرط فيه.