في نوفمبر عام 1949 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة وضع الصومال تحت وصاية إيطاليا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة، بعد أن رفض «الحلفاء» عودتها إلى مستعمراتها السابقة، وقبلت الأمم المتحدة مقترح المندوب اللبناني شارل مالك بتكوين مجلس وصاية استشاري يتابع الأوضاع ويُعد الصومال للاستقلال النهائي خلال 10 سنوات، واقتصرت عضوية هذا المجلس حسب المقترح على 3 دول (مصر، كولومبيا، والفلبين)، بعد اعتذار إثيوبيا وجنوب إفريقيا.
رشحت مصر الوزير المفوض محمد أمين رستم كأول مندوب لها في مجلس الوصاية الاستشاري بالصومال ولما اعتذر بسبب مرضه رشحت السفير كمال الدين صلاح، وصل الدبلوماسي المصري إلى مقديشيو عام 1954، وكما أشرنا في الحلقة الماضيةالحلقة الماضية، نجح صلاح في إقامة علاقات ودية مع زعماء البلد الإفريقي العربي المسلم، حتى صار مستشارا وناصحا أمينا لهم، وهو ما أقلق أصحاب المطامع في هذا البلد سواء كانوا إنجليز أو إيطاليين أو أمريكان وحتى الأحباش الذين كانوا يطمحون في ضم الصومال إلى إمبراطوريتهم.
في 16 أبريل من عام 1957، وبينما كان كمال الدين صلاح يعبر الشارع أمام منزله في مقديشيو، طعنه شاب بسكين من الخلف، فسقط مضرجا في دمائه ونُقل إلى المستشفى لُتسلم روحه إلى بارئها بعد ساعات من محاولة إسعافه.
الأستاذ أحمد بهاء الدين أراد أن يخلد ذكرى السفير كمال الدين صلاح ، فجمع يومياته ومذكراته في كتاب «مؤامرة فى إفريقيا» الذي صدر ضمن سلسلة «ذاكرة الكتابة» التي كانت تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة وكان الأستاذ رجاء النقاش يرأس تحريرها.
بعد شهور من وصول كمال الدين صلاح إلى مقديشيو، أرسلت الأمم المتحدة بعثة من رجالها كي تزور البلاد الموضوعة تحت الوصاية في شرق إفريقيا.
كانت البعثة تتكون من ثلاثة: رئيس نيوزيلندي، وعضو أمريكي وعضو آخر هندي، اسمه مستر جايبال، تعرف كمال الدين على أعضاء البعثة، وبدأ كل منهم يبحث عن مصالح بلاده فالعضو الأمريكي يسأل عن وجود أي نشاط شيوعي في هذا البلد الفقير والنيوزيلندي يسأل عن إمكانية وجود علاقات اقتصادية بين الصوماليين وبريطانيا، أما العضو الهندي مستر جابيال فكانت له وجهة نظر أفضى بها إلى صديقه المصري، «إن إنجلترا وفرنسا وبلجيكا تتمنى وتعمل على فشل تجربة الوصاية في الصومال الإيطالي وعدم إعلان استقلال الصومال في سنة 1960 كما خططت الأمم المتحدة».
الاستعمار يسعى إلى وأد التجربة
ويشرح بهاء الدين الوضع في هذا البلد الإفريقي العربي الفقير قائلا: «من الطبيعي أن تتمنى إيطاليا فشل تجربة الوصاية حتى يؤجل الاستقلال وتستطيع أن تبقى في الصومال لما بعد سنة 1960، أما بلجيكا وفرنسا وإنجلترا فكلها دول لها مستعمرات مماثلة ومجاورة في قلب إفريقيا ونجاح تجربة الوصاية في الصومال الإيطالي وإعلان الاستقلال معناه أن تمتد العدوى إلى هذه المستعمرات، أو أن تطبق فيها تجربة الوصاية على الأقل، وهي لا تريد أن تمتد هذه العدوى إلى الصومال الإنجليزي أو الفرنسي أو الكونغو البلجيكية.. ثم هناك الحبشة الدولة الوحيدة المستقلة المجاورة، ولها مطامع في الصومال وعلى الحدود تثور مشاكل وخلافات، وأخيرا هناك الولايات المتحدة الأمريكية ذات الاهتمام الطارئ الجديد بإفريقيا، كجزء من استراتيجيتها العسكرية والاقتصادية التي تشمل العالم كله».
وينقل بهاء الدين عن أوراق كمال الدين صلاح شرحا وافيا لتعقيدات مصالح الدول الكبرى ومعهم الجار الحبشي في الصومال، فالدولة المستعمرة إيطاليا تريد أن تظل تلك البلد بخيراتها وموقعها الهام تحت إدراتها، كما أنها تسعى إلى الحفاظ على مصالح الجالية الإيطالية المقيمة بها والتي تحتكر كل المشروعات الكبرى سواء في الزراعة أو التجارة أو الصناعة.
أما الإنجليز فكانت لديهم رغبة في السيطرة على الصومال الإيطالي وضمه إلى الجزء الواقع تحت سيطرتهم، «الشعب الصومالي الواحد قسمه الاستعمار إلى إنجليزي وفرنسي وإيطالي، ومستقبل شعب الصومال الإيطالي سيؤثر حتما في مستقبل الصومال الإنجليزي الذي هو جزء من الامبراطورية البريطانية بعد أن تزعزعت قواعدها وكادت تصفى في آسيا وحوض البحر الأبيض، وهذه المنطقة التي توجد فيها الصوماليات الثلاث تقع في مواجهة عدن، المستعمرة الإنجليزية أيضا، وتسيطر معها على مدخل البحر الأحمر».
وذكر بهاء الدين أن العلاقة بين الصوماليين والإنجليز سيئة منذ أن كانت بريطانيا تحتل الصومال بعد أن تمكنت قواتها من طرد الإيطاليين خلال الحرب العالمية الثانية، واستقرت هناك لمدة 8 سنوات، قامت خلالها إنجلترا بتسليم منطقتي الأوجادين والهود إلى حكومة الحبشة.
المؤامرة الإنجليزية الحبشية
ويشير بهاء الدين إلى القرار الإنجليزي الإثيوبي المشترك الذي صدر عام 1955، الذي بمقتضاه تسلم بريطانيا المنطقة الواقعة تحت حكمها من الأوجادين إلى إثيوبيا على أن تبقى الإدارة الإنجليزية هناك في ذلك الوقت ، «كان معنى هذا أن الأرض التي كانت إنجلترا مؤتمنة عليها من الصومال قد سلمتها إلى الحبشة دون الرجوع إلى الحكومة الإيطالية دولة الوصاية ولا الزعماء الصوماليين، فثار الرأي العام في المدن الصومالية، وأرسل الزعماء برقيات استنكار إلى كل من اعتقدوا أنهم ينجدونهم.. إلى الحكومة البريطانية وإلى الأمم المتحدة وإلى الجامعة العربية وإلى رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو».
ونظم الزعماء وأعضاء الأحزاب الصومالية مظاهرة كبرى في العاصمة مقدبشيو للإعلان عن رفضهم للاتفاقية الإنجليزية الحبشية، «مرت المظاهرة بمكتب الأمم المتحدة وقدمت نسخة من احتجاجها، وألقى فيها كمال الدين صلاح كلمة هنأ فيها الشعب الصومالي على المثل الطيب الذي ضربه على النظام والتضامن والروح الوطنية العالية والقدرة على ضبط النفس».
بعد يومين من المظاهرة، التقى كمال الدين صلاح بالقنصل البريطاني الذي أخبره بأنه يقدر عواطف الصوماليين، «قلت لهم أنني لو لم أكن قنصل إنجلترا لخرجت وسرت معكم في المظاهرة»، ابتسم صلاح وسكت، فهو يعرف أن القنصل اشترك في المباحثات التي أدت إلى هذه الاتفاقية وأنه من الخبراء بتلك المنطقة وقد خدم من قبل في الحبشة والسعودية والكويت، وحاول أن يفشل المظاهرة ويشتري ولاء بعض الزعماء الصوماليين.
ويرى كمال الدين صلاح أن غاية الإنجليز من إشعال الأزمات في الصومال الإيطالي كانت صرف الصوماليين عن قضايا الاستقلال، «إعطاء مناطق بالأوجادين إلى الحبشة سيدفع الصوماليين إلى الانشغال باستعادة الأرض ويشعل اضطرابات دائمة في المنطقة تغل شعوبها عن الاهتمام بأحوالها الداخلية، مما يسمح لإنجلترا بالبقاء وتنفيذ أغراضها السياسية.. بالضبط كما خلقوا مشكلة إسرائيل في المنطقة العربية».
في ذات الوقت كان الأمريكان قد تمكنوا من إقناع الإدارة الإيطالية بتوقيع عقود امتياز للتنقيب عن البترول دون الرجوع لمجلس الوصاية ولا للمجلس الإقليمي الذي يتكون من الصوماليين أنفسهم، وهو ما دعا إلى رفع تقرير إلى الأمم المتحدة ببحث شروط تلك العقود من جديد وإبداء الرأي فيها.
أمريكا والبترول الصومالي
«كانت أمريكا منحازة إلى الحبشة في أزمة أوجادين، فالممثل الأمريكي في مجلس الوصاية الأممي ويدعى مستر سيرز دعا إلى إنشاء منطقة حزام بين الحبشة والصومال، وهو ما يعني ضم مقاطعة الأوجادين نهائيا إلى إثيوبيا مع أنها أرض صومالية يسكنها صوماليون، بل وليست فيها أقليات حبشية، ففي حدود هذه المنطقة يقوى أمل شركة سنكلير الأمريكية في العثور على البترول، والحبشة متحالفة مع أمريكا، وإيطاليا لا تعترض على ذلك لاسترضاء أمريكا».
وكما أشار كمال الدين صلاح في مذكراته إلى تكالب إيطاليا وإنجلترا وأمريكا على ذلك البلد الجريح، تحدث بإسهاب عن «مطامع الجار الذي كان من المفترض أن يكون نصيرا وسندا ومساعدا للصومال، فإذ به يصبح مصدرا آخر للخطر وطامعا آخر يؤجج الصراع في هذا البلد الصغير».
ويقول بهاء الدين إن الجارة إثيوبيا مرتبطة إلى حد بعيد بالسياسة الغربية عموما والأمريكية بوجه خاص، فضلا عن أنها لها مطامع إقليمية في الصومال، ويشير إلى واقعة انتزاع الإنجليز منطقة أوجادين من الصومال لصالح إثيوبيا، «مما خلق أزمة حدود لم تنته حتى تاريخه».
كانت إثيوبيا تسعى إلى توحيد الصومال معها كما فعلت مع إريتريا، «وفي هذه النقطة أيضا نستطيع أن نلمح بادرة أخرى من بوادر تزايد النفوذ الأمريكي، فاتحاد الصومال مع الصوماليات الأخرى سيكون لحساب الكومنولث البريطاني، أما اتحاد الصومال مع إثيوبيا فسوف تستفيد منه الولايات المتحدة، خصوصا أن مناطق الأوجادين وغيرها من مناطق الحدود هي المناطق التي تأمل شركات التنقيب أن تعثر على البترول فيها».
ظهر دور أمريكا في هذه القضية واضحا عندما نوقشت الحدود بين الصومال وإثيوبيا أمام لجنة الوصاية في الأمم المتحدة، «تقدم السيد رفيق عشي مندوب سوريا بمشروع قرار خاص بمشكلة الحدود يوصي فيه بتعيين وسيط في حالة فشل المفاوضات بين إيطاليا وإثيوبيا لتسوية الحدود بينها وبين الصومال، وقد نشط الوفد الأمريكي في الاتصال بوفود الدول للتصويت ضد مشروع القرار السوري، وقام كمال الدين صلاح ورفيق عشي بالاتصال بالوفود للحصول على تأييدها وقد عاونهما مناديب الهند وسلفادور وهايتي».
دارت بين كمال الدين صلاح ومستر مولكاهي عضو الوفد الأمريكي مناقشة برر فيها الأخير رفضه لمشروع القرار السوري، «سيكون له رد فعل سيئ في الحبشة لأنه مقدم من دولة إسلامية، والأحباش يشعرون أنهم جزيرة مسيحية في بحر إسلامي ويشعرون بالأخطار التي تهدد كيانهم من كل جانب!!»، ورد عليه كمال الدين قائلا «لا مبرر لمثل هذا الشعور أو التفكير، الاعتقادات الدينية وحدها ليست أساسا تبنى عليه تصرفات الدول، ثم أن رفض مشروع القرار السوري معناه بقاء مشكلة الحدود معلقة مع ما يؤدي ذلك إلى متاعب وعدم استقرار في المنطقة»، ورغم المحاولات الأمريكية وافق مجلس الوصاية على المقترح السوري.
ضابط اتصال إثيوبي برتبة «إرهابي»
وبالعودة إلى الخلافات الإثيوبية الصومالية، سجل كمال الدين صلاح في مذكراته ملاحظات غريبة على مستر ديساليج ضابط الاتصال الإثيوبي والقائم بأعمال قنصل بلاده في الصومال، «.. إنه بدرجة وزير مفوض، وقد سبق أن عينته حكومته ضابط اتصال لها في إريتريا أثناء فترة تقرير المصير التي انتهت بانضمام إريتريا إلى الحبشة في اتحاد فيدرالي، وكان له نشاط كبير في الوصول إلى تلك النتيجة، وينسب إليه البعض تدبير اغتيال زعيم الجبهة الإسلامية في إريتريا يوم استعداده للسفر إلى أمريكا لحضور اجتماعات الأمم المتحدة لمعارضة انضمام بلاده إلى إثيوبيا، وبذلك بقيت فكرة المعارضة داخل حدود إريتريا نفسها، ولم يقدر لها أن تجد الطريق إلى المحافل الدولية».
بهذا التاريخ السيئ وصل ضابط الاتصال الحبشي إلى الصومال ومعه كميات كبيرة من الأموال، بدأ على الفور باستثمارها في شراء ولاء بعض الزعماء بغية تأسيس حزب جديد يدعو إلى اتحاد الصومال مع إثيوبيا، لكن محاولاته كانت تقابل بالصد، ففي نفس الوقت كانت تأتي الأنباء عن اضطهاد الحبشة لمواطني منطقة الأوجادين الصومالية.
وفي صفحات متفرقة من مذكراته توقف كمال الدين عند ما وصفه بالنشاط المريب لهذا الضابط الإثيوبي، «حاول خلال إقامته بالفندق إغواء عدد كبير ممن يقابلهم من الصوماليين، كان منهم زعيم حزب الدُجل وريفلة السيد عبدي نور، وفي الكثير من جلساته كان هذا المبعوث الحبشي يحرض على الشعوب العربية وخاصة الشعب المصري، ويشيع أن الدول العربية تنعت الصوماليين بأنهم (عبيد)، كما أنه حاول أن يصور نفسه على أنه إرهابي قادر على البطش بخصومه».
وبعد محاولات عدة نجح ضابط الاتصال الحبشي في استمالة عضو منشق عن حزب وحدة الشباب الصومالي ويدعى محمود البوراكي، وتأسس حزب جديد تحت قيادته باسم حزب «الصومال الأحرار»، وعمل البوراكي على إثارة النزعة القبلية بين أبناء الصومال حتى ينشغلوا بمواجهة بعضهم البعض عن مواجهة أزمات بلادهم.
مصر في قفص الاتهام الأمريكي
في ظل تلك الظروف بالغة التعقيد ومحاولات القوى الاستعمارية وأد تجربة الاستقلال في هذا البلد حاول كمال الدين صلاح أن يدعم أهل الصومال ويُنجح تجربتهم، فتم اتهامه بأنه يحاول بسط النفوذ المصري على الصومال، ودفعت الدول المتصارعة بعض الصوماليين الذين ضمنت ولاءهم إلى التقدم بشكاوى ضد مصر ومندوبها في مجلس الوصاية إلى الأمم المتحدة، وتلقفت جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية الأمر، ونشرت تقريرا تحت عنوان «الصوماليون يطلبون من الأمم المتحدة إيقاف مصر عند حدها»، وكان ذلك بغرض الإساءة إلى مركز القاهرة في الصومال أمام الرأي العام الدولي.
خلال وجوده في نيويورك لإبداء رأيه أمام مجلس الوصاية التقى كمال الدين صلاح برئيس وفد إثيوبيا ودارت بينهما مناقشة نقلها في يومياته، «قال لي رئيس وفد الحبشة الدائم في الأمم المتحدة إن دفاعي عن الصومال في قضية الحدود أمام مجلس الوصاية يعتبر موقفا غير ودي من مصر إزاء الحبشة، قلت له: أنني أقدر تماما علاقات الصداقة التي تربط مصر بالحبشة من قديم الزمان، وأنا مدرك أيضا للمصالح المتبادلة بين البلدين فمصر لها مصالح هامة ومباشرة مع الحبشة في حين أنه ليست لها أية مصالح مباشرة أو غير مباشرة مع الصومال، لا في الميدان السياسي ولا في الميدان التجاري ولا في غيرها، ولكنني أحب أن أوضح أن موقفي في مجلس الوصاية لا يعبر عن وجهة نظر حكومتي، فأنني بحكم مركزي كعضو في مجلس الأمم المتحدة للصومال رجل دولي، ومن واجبي رعاية مصالح الصوماليين والدفاع عن حقوقهم، ولقد كلفوني بأن أبدي وجهة نظرهم للمجلس في موضوع الحدود وقدموا لي من الأدلة والبيانات ما أقنعني، وأنا في هذا كالمحامي الذي يوكله شخص للتكلم باسمه أو الدفاع عنه أمام المحكمة، فلم يكن في وسعي والحالة هكذا أن أتخلى عنهم أو أخونهم وقد ائتمنوني على حقوقهم، لمجرد اعتبارات خاصة بالعلاقات بين بلدي وبلد آخر، أو تنفيذا لتعليمات أتلقاها من حكومتي، فأنني في هذا الموقف أبيح لنفسي عدم التقيد بهذه التعليمات ولو أنني فعلت غير ذلك لكنت رجل غير أمين».
ونكمل الحلقة القادمة