ثقافة

خالتي صفية.. أيقونة بهاء طاهر الوطنية (1-3)

منذ بدأت طريقي بُحب الإبداع الأدبي خلال سنوات الصبا ، وحبي لأعمال الاستاذ ” توفيق الحكيم ” تحديداً ، فقد لاحظت أن ثمة علاقة قوية بين المُبدع وتلك الحياة الحقيقية التي عاشها ، فقد اتخذ الأستاذ ” الحكيم ” اسماً روائيا هو ” مُحْسن ” في الكثير من أعماله إبتداءً برائعته ” عودة الروح ” وما تلاها من إبداع !!

وكذلك نجد الأستاذ ” نجيب محفوظ ” في الكثير من أعماله الروائية ، وليس جميعها ، لكثرة ما أنتج عَلى هذا الصعيد ، ولعل ثلاثيته الخالدة ” بين القصرين وقصر الشوق والسكرية ” هي التجسيد الأشهر والأكثر وضوحاً لما أقّصُد ، ف ” كمال ” وهو أصغر الأبناء في عائلة السيد ” أحمد عبدالجواد ” هو شخصية الأستاذ ” نجيب ” كما عاشها في الحقيقة ، في ذلك الزمن وتلك الحقبة التاريخية من حياة مصر ، تلك الفترة المُمتدة بين ثورتي ” ١٩١٩و ١٩٥٢ ” كما اعترف الأستاذ ، أكثر من مرة ….

وبنفس القّدر لاحظت تلك الصفة عند أكثر من مُبدع ، ولا يسمح المجال بالحديث عنهم جميعاً والإتيان بما يٌثبت صحة ما أراه !! …

 ثلاثية القاهرة - نجيب محفوظ
ثلاثية القاهرة – نجيب محفوظ

بهاء .. بين الإبداع والواقع

وحّسبُنا هنا الحديث عن الأستاذ ” بهاء طاهر ” فهو من أبناء قرية الكرنك القريبة من مدينة الأقصر بصعيد مصر ، وبتحليل مضمون الكثير من أعماله نجد وقائع كثيرة تحمل ما يّدُل عَلى الإنتماء من حيث المكان ، اذ  تتوزع حياته بين قُرْىّ الصعيد ونجوعها وشخوصها، أو مدينة الجيزة حيث ارتحلت أُسرته  من عمق الصعيد بتغير العمل الوظيفي لرب الأسرة ، اذ نعيش في كثير من أعمال الأستاذ ” بهاء ” ملامح تلك الحياة المُمتدة  بين سنوات صباه وشبابه ومدارس الجيزة  وإنتهاءً بجامعتها العريقة ، جامعة القاهرة ، وتياراتها السياسية والحزبية والثقافية إبان عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ، أو جنيف حيث عّملّ في المركز الأوربي للأمم المتحدة لعدة سنوات في غُربة سياسية ووظيفية جاءت مع عقد السبعينيات وعواصفه الثقافية وإنقلاباته الإجتماعية والسياسية  !!

روايته ” خالتي صفية والدير ” والتي صدرت طبعتها الأولى في يوليو ١٩٩١ عن دار الهلال المصرية العريقة ، هي خير تجسيد لتلك الحالة التي ربطت بين الإبداع والواقع ، وتحديداً تلك ” المرحلة الصعيدية ” من حياته ، حتى أنه حاول أن ينفي تلك الحالة في مُستهل روايته ، اذ يقول في الصفحة الأولى وقبل أن يدخل القارئ في عّاْلمهُ الإبداعي ، هذه الكلمات :

” الأحداث والشخصيات والمواقع في هذه القصة من نسج الخيال ، وأي تّشابه مع الواقع هو مّحض مصادفة ” ….

وعندما ندخل ونعيش في تلك الأحداث والوقائع في هذا العمل الجميل ، نكتشف أن التّشابُه هو الواقع ، ولا مجال للمصادفة !!

بهاء طاهر
بهاء طاهر

صحيح أن الأستاذ ” بهاء ” وبوصفه أديبا ومُبدعا كبيرا لا يمكن أن يقع في خطأ النقل الميكانيكي للواقع ورسمه عَلى الورق ، ولكنه أضاف من خياله وجمال لغته وإبداعه ما يجعل تلك الرواية لها مكانة خاصة عند صاحبها ، وعند القارئ ، بل ودون مبالغة عند الوطن بأسره !!

فالرواية تتحدث عن الوحدة الوطنية بأجمل وأعذب تجلياتها ، وفي مجتمع  يحمل موروثه الثقافي عَلى ظهره منذ آلاف  والسنين ، فهو المجتمع الذي يتجاور فيه الفقير شديد الفقر وأصحاب الثراء والغنى الذي يصل عند الكثير من عائلاته الى حد الفُجر والوحشية والعنف !!!

ومن ثنايا الفقر المُهين المُذٍلْ الى الثَّرَاء الطاغي بكل جبروته وطُغيانه ، تتخلق وتتناسل كل قيم التخلف ومّظاهره ، من جهل ومرض وثأر وقتل وعنف !!

هذه الرواية البديعة ، والتي صاغها الأستاذ ” بهاء طاهر ” بلغة واضحة وبسيطة وآسرة ، تجعلك أسيرها فعلاً وقولاً ، فهي في مكتبتي منذ زمن طويل ، أُصافح غُلافها كل يوم ، ولا أفكر في قراءتها ، فثمة أعمال سابقة قرأتها للأستاذ ” بهاء ” أعطيتها الأولوية عن ” خالتي صفية ” فقد قرأت له ” شرق النخيل ، وقالت ضُحَى ، وبالأمس حّلِمتْ بك ، والحب في المنفى ، وواحة الغروب ” وغيرها ، حتى جاءت المصادفة معها ، مع ” خالتي صفية ” فصفحاتها التي تصل الى نحو ١٧٠ صفحة ، تتحول معك الى صديق حبيب ، تُرِيد أن تستمع له ، وتأنس بصحبته ، وتتمنى أن يطول الزمن معه ولا ينقضي ولا ينقطع !!

وبرغم ذلك ، ومن فرط الجمال ، إنتهت  صحبته في بضع ساعات ، وكُنت  أتمنى أن تطول ، ولكن ماذا أقول ، وتلك صفة كل شئ جميل في حياة الإنسان ، فالزهور والورود والياسمين ،  برغم عمرها القصير لا يّبقىّ منها سوى عبقها الطيب الفواح وذكراها العطرة !!!

وهذا حّالُنا مع ” خالتي صفية والدير ” والتي لا يّبقىّ  منها سوى عطرها الفواح ، فبرغم تجسيدها للواقع الخشن لحياة صعبة وعنيفة ، فإن القيم النبيلة في هذا الواقع تّنبُتْ وتزدهر ، فقيم الجمال والوفاء والتسامح تصل الى حد الأسطورة ، التي تجعل سلوكيات العنف والثأر قيما عقيمة لا ينبغي أن تعيش ، بل لابد لها من الفناء والموت والإندثار ، فيما يتحول الدير الى بيت للحب والرحمة والسكينة لكل أهل القرية ، الى الحد الذي يتسع لكل من تتنكب به الطريق ، فلا هناك مُسلٍمْ وقبطي ، بل حب لوطن مُقَدَّس لا يقف أهله عند من هو دينك !!

بل قيمتك تتحدد من سلوكياتك التي تتعانق فيها ترانيم وتراتيل الحب والتسامح ، لا العنف والقتل  والكراهية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock