انقطعت تماما عن عالم الكتابة لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر بعد أن اعتدت الكتابة بشكل منتظم لما يقرب من ثلاثة أعوام بموقع «أصوات أونلاين» وحين أردت العودة عاندتي الفكرة رغم تعدد الموضوعات التي أرغب في الكتابة عنها .. سألت نفسي هل جف نبع الكتابة؟ أم أنني فقط في حاجة إلى التعافي من كل ما أحاط بي من أحزان؟ … «التعافي» وهل يتعافى المرء من ألم فقد الأحبة؟ هل يتعافى المرء من الموت؟ فعلى مدار تسعة أشهر فقط فقدت أربعة من عائلتي لأسباب مختلفة -تعددت الأسباب والموت واحد- أعي أنني لم أكن وحدي التي فقدت أحبة لها، فعلى مدار العامين السابقين ومع تفشي وباء كورونا تحولت صفحات الفيسبوك إلى سرادق عزاء كبير ينعي فيه الكل أحبتهم فخيم الحزن الشديد على الجميع ولكن لم يطرح أحد شيئا عن التعافي من الفقد؟ .. بالطبع لست مؤهلة للكتابة عن التعافي من ألم الفقد فالأمر في حاجة إلى متخصصين بمجال علم النفس ومع هذا أجدني مدفوعة دفعا إلى الكتابة عن الموت والتعافي منه .. ربما كانت الكتابة ملاذي الأخير للتعافي ومواصلة الرحلة.
جدي والقمر جيران
مات جدي لأمي رحمة الله عليه وأنا بالعاشرة من عمري واتشحت نساء عائلتي بالسواد، كان موت جدي هو أول حادث فقد أتعرض له، حينها سألت أمي أين ذهب جدي؟ أجابتني بصوتها الحاني المفعم بالحزن الشديد «طلع السماء» .. بات جدي منذ ذلك الحين «معلقا بالسماء» أرى وجهه محفورا على سطح القمر كلما تطلعت إليه وهو في تمام إكتماله بدرا .. أتذكره كلما رأيت حمامة بيضاء تطوف بالسماء لأنه كان يهوى تربية الحمام .. أتذكره كلما حل شهر رمضان الكريم وكلما استمعت لصوت النقشبندي والشيخ محمد رفعت .. أتذكر رحلاتي معه إلى المساجد المحيطة ببيته القديم بحي السيدة عائشة «مسجد الرفاعي والسلطان حسن والسيدة نفيسة والسيدة زينب والسيدة عائشة ومسجد بن طولون» .. كبرت وعرفت معنى الموت لكنني أبدا لم أتعلم بعد كيفية التعافي منه بشكل تام، فموت الأحبة صادم مهما كبرنا وتصورنا أننا أصبحنا أكثر خبرة ودراية بشئون الحياة.
أمي التي أعدتني لدور الأم
ماتت أمي رحمة الله عليها قبل بلوغها الخمسين من عمرها بعد حصولي على شهادة الليسانس بأشهر معدودة .. أتذكر جيدا لحظاتها الأخيرة وهى توصيني خيرا بأختي الكبيرة هويدا رحمها الله وأختي الصغيرة خديجة .. فور أن صعدت روح أمي إلى السماء وجدتني دون أن أدري أبادر بإرتداء عباءتها السوداء ومعها ارتديت دور الأم الذي كانت قد أعدتني له مبكرا لشعورها الدائم باقتراب موعد يومها المحتوم بسبب ما كانت تعانيه من أمراض.
بعد منتصف الليلة الأولى لوفاة أمي حاولت تفقد أحوال أبي فوجدته يجلس بسريره يمسح دموعه بصمت شديد كانت تلك هى المرة الأولى التي أرى فيها دموع أبي رحمه الله ثم رأيت دموعه للمرة الثانية يوم 9 إبريل 2003 يوم سقوط بغداد- احتضنت أبي وشعرت أنه لم يعد أبي بل صار طفلي الصغير .. ماتت أمي فأصبحت الأم لأبي وأخوتي .. لم أبكي وفاة أمي في حينها كنت أشعر أنني إذا ما سمحت لدموعي أن تتساقط فإنني لن أتمكن من حمل مسئولية دور الأم الذي أعدتني له أمي.
بعد سنوات عدة من وفاة أمي ذهبت لطبيب نفسي حدثته عن موت أمي وكيف أنني لم أذرف عليها دمعة واحدة خوفا من الإنهيار، حدثني الطبيب عن فكرة «قبول الموت» وأن السبب في عدم تساقط دموعي ليس الخوف من الإنهيار ولكن السبب الحقيقي يكمن في عدم قبولي لموت أمي .. طالبني الطبيب بلعب «لعبة .. قبول الموت» -وهو تمرين يشرف عليه الطبيب خلال جلسات العلاج الجماعي- مع التمرين سمحت لدموعي بأن تتساقط للمرة الأولى حزنا على موت أمي.
مع موت أمي أصبح أبي طفلي المدلل .. ذاك الطفل الذي بلغ السابعة والسبعين من عمره ومازال قادرا على بث روح الدعابة والمرح بكل من حوله .. عاش أبي حتى ليلة وفاته بروح طفل مغامر يعشق الحياة .. استقبلت وفاة أبي وأنا أردد على روحه «آية الكرسي» .. أفادني درس «قبول الموت» الذي لقنني إياه طبيبي النفسي .. قبلت موت أبي فسمحت لدموعي العزيزة أن تتساقط دون مقاومة كبيرة مني .. وحين زار ملك الموت بيتنا منتصف شهر سبتمبر الماضي وقفت بجوار أخي الكبير وهو يحتضر وأنا أردد .. «اللهم إني لا أطلب منك رد القضاء ولكني أطلب منك اللطف فيه» .. فجاء قضاء الله مصحوبا بلطفه الكبير.
تقبلي الموت يا صغيرتي
توفت أختي الكبيرة هويدا منذ نحو سبعة أعوام وهى على وشك أن تصبح جدة لأول حفيد لها من ابنها الكبير محمد فصرت أنا الجدة لحسن ويوسف وواصلت رحلتي في رعاية ابنة هويدا «ياسمين» وهى شابة جميلة كانت تناديني وهى صغيرة بلقب ماما وتنادي أمها باسمها دون أي ألقاب «هويدا» .. كنت طوال الفترة الماضية أعتقد أنني أُحسن رعاية صغيرتي ياسمين إلى أن تعرض والدها خلال الشهر الماضي لحادث آليم ظل على أثره بالمستشفى لمدة أسبوع كامل في حالة غيبوبة تامة إلى أن توفاه الله، لأكتشف مع وفاته أنني لم انتبه جيدا لصغيرتي فحين احتضنتها عقب وفاة والدها وجدتها لم تتعاف بعد من وفاة والدتها التي مر عليها كل تلك السنوات .. همست صغيرتي بأذني وأنا احتضنها: «عارفة أنا طول الوقت حاسة أن هويدا عندك في بيت جدي وأنها بعد شوية هتفتح عليا الباب وتقولي أنا رجعت .. إزاي هعيش وأنا عارفة أن هويدا وبابا مش هيفتحوا باب البيت عليا بعد كدا» .. بكيت مع ياسمين أباها وأمها بذات اللحظة ولم اتمكن من التفوه بكلمة واحدة .. حل علينا جلال الموت وصمته الموحش ذاك الصمت المسكون بالآلم ومرارة الفقد.
قبل نهاية اليوم الثاني من وفاة والد ياسمين تبارى عمها – وهو رجل في الخمسينات من عمره – أطلق ذقنه حتى طالت وكادت أن تصل حدود بطنه وباتت زوجته المنتقبة تناديه بلقب «الشيخ أحمد»- في تعنيف صغيرتي وكيل التوبيخ لها دون أي مبرر محذرا لها من التفكير في العيش بمفردها بمسكن والدها فعليها أن تختار ما بين العيش ببيت جدها لأبيها أو بيت جدها لأمها … صُدِمَت صغيرتي وصَدِمت معها من كل تلك القسوة الغير مبررة وكل ذلك العنف اللفظي الكامن خلف تطبيق ما يراه شرع الله .. فكيف لشرع الله أن يطبق بكل تلك القسوة وكل هذا العنف اللفظي .. وإذا كان الأمر عادات وتقاليد العائلة التي أعيها جيدا فكيف لها أن تطبق بكل هذا الصلف وعدم مراعاة مشاعر الحزن والفقد الأليمة التي تمر بيها صغيرتي.
سامحيني يا صغيرتي إذ لم انتبه لكِ جيدا ولم أساعدك على التعافي وقبول موت والدتك فجاء موت والدك ليضيق الخناق عليكِ ويزيد من آلم الفقد ومرارته، غير أنني أعدك ببذل قصارى جهدي معك حتى تتعافي وتتقبلي موت والدتك ووالدك معا .. فالرضاء بقضاء الله وقدره يا صغيرتي جزء من الإيمان و«قبول الموت» هو بداية طريق التعافي من فقد الأحبة .. فدعينا معا نخوض سويا رحلة التعافي من فقد أحبتنا.