رؤى

مذكرات محمد فريد.. زعيم يؤرخ لوقائع الوطن

الوحيد من بين زعماء مصر الذي جعل من التأريخ منهجاً في حياته ،هو الزاهد في المناصب والمطامع والمنافع حتي مات غريباً في برلين لم يجد حتي ثمن الكفن،وهو الوحيد في عصره الذي سار في جنازته مليون مواطن ,في رسالة  عرفان من الشعب للزعيم المحبوب الذي لم يصل للسلطة بل وصل لقلب المصريين ، نحدثكم عن المظلوم الزعيم محمد فريد، صاحب المواقف النضالية المستقل في الرأي والحجة .. عاصر الإمام محمد عبده فتعرف عليه ولم يكن من حوارييه ، تعلم في الألسن علي يد الطهطاوي وكذلك في الأزهر لكن ظل مستقلاً بغير إنحياز، عندما رأي شمس سعد زغلول تشرق في زعامة مصر دعا  كوادر الحزب الوطني لدعم سعد، وعندما دخل  الشيخ علي يوسف ساحة المحاكم   في معركة الحريات الصحفية  انحاز له (رغم موقفه المعلن من يوسف ووصفه له بالحقير ) بل ودفع ثمن الدفاع عن حرية الصحافة وترك القضاء ودخل السجن وتعرض للتشويه علي (يد شماشرجية عصره ).

سبق الحكيم في تسجيل وقائع مصر

لقد كان محمد فريد عندما شرع فى كتابة  مذكراته يعمل وكيلاً لقلم القضايا  بالدائرة السنية،التى كان قد عين بها منذ مايو 1887 عشية تخرجه من مدرسة الحقوق ونقل فى نفس الشهر إلى النيابة العمومية ومن هنا كان إهتمامه بتسجيل كل حدث في مصر مما كان يراه, كما فعل  من بعده  توفيق الحكيم في نائب الأرياف, لكن فريد سجل  كل تطور طرأ على التشريع حيث إهتم الإحتلال بإصدارسلسلة من التشريعات الخاصة بالقانون المدنى وبالإجراءات،وأدلى برأيه فى بعض الأشخاص من رجال الهيئات القضائية ,الذين كانوا ضده في التحقيق بعدذلك ليثبت فريدأنه يبحث  الحقيقة ولاغيرها كما تتبع محاولات الإنجليز للسيطرةعلى القضاء والنيابة.

مذكرات محمد فريد جاء في المذكرات أن فريد يتألم من عذاب المصريين طوال تاريخهم من السخرة في الزراعة   التي  ظهرت عقب قيام  محمد على فى بداية حكمه على بإلغاءنظام الإلتزام وهو نظام مالى إدارى كانت الدولة تطرح إلتزام إقليم معين فى مزاد علنى ومن يرسو عليه المزاد يقوم بدفع خراج الإقليم ويتولى هو جباية الخراج من الفلاحين وكان له الحق فى أن يجمع أكثر مما هو مقرر عليه كما كان من حقه أن يتولى زراعة عشر مساحة أراضى إلتزامه لحسابه ويسخر الفلاحين فى ذلك العمل وقد عرف هذا القدر من الأرض بطين (الوسيه) وحين ألغى محمد على هذا النظام سنة 1813 ترك للملتزمين أطيان الوسية ينتفعون بها مدى حياتهم على أن تؤول للدولة بعد موت المنتفع و لم يكن للفلاح حق الرقبة فى الأرض الخراجية ولكن كان له حق الإنتفاع بها فقط أما ملكية العين ذاتها فكانت للدولة ومنذ عهد محمد على بدأت حقوق حيازة الأرض الخراجية فى التطور فأصبح من حق صاحب الأرض أن يورثها لأولاده إذا كانوا قادرين على فلاحتها  حتى صدر قانون المقابلة عام 1871 م فحصل بمقتضاه من دفعوا المقابلة على حقوق التصرف الكاملة فى أطيانهم ما عدا الوقف إذ كان يتطلب إيقاف الأرض الحصول على موافقة الخديوي وهكذا رصد فريد الواقع الأجتماعي لمصر بدقة .

وينتقل فريد للحديث عن العرابيين ويصفهم بالوطنيين الأحرار حتي لو جانبهم الصواب ..وفريد زعيم مدني حزبي )وليس عسكرياً  وكان  حزينا لسقوط الثورة العرابية ,وذلك يظهر في حبه لنضال عبد النديم  يؤكد فريد معرفته بنديم العرابيين  وسجل تاريخه

يدخل فريد عش الدبابير ويعترض علي فساد القضاء  في عهد الاحتلال فيكتب” فى يوم 3 من شهر نوفمبر صدر أمر عال بتعيين المسيو (مفسود الملطى ) – هكذا وصفه بالحرف الواحد  -قاضياً بمحكمة مصر الأهلية وكان محامياً أمام المحاكم المختلطة والأهلية فيكون فى محكمة مصر قاضيان أجنبيان هما مفسود وبلاتون دلبورجلو وراتب كل منهما 57جنيه مصرى ونصف مع أن ماهية القاضى الوطنى 40 جنيه فتأمل الفساد .

نص من جريدة حول محمد فريد
نص من جريدة حول محمد فريد

 نحو بوصلة الوطن

 كان الزعيم محمد فريد فى بداية الأمر لا يختلف كثيراً عن “المعتدلين” من أتباع الشيخ محمد عبده فى نظرته للإحتلال البريطانى، فنجده يكتب فى يناير 1891، إنما حب الوطن يلزمنا  التمنى بخروجهم من مصرنا العزيزة بشرط عدم عودتنا إلى الدولة العثمانية، وفى الواقع يمكننا أن ندبر أحوالنا بأنفسنا”وأن السبيل لذلك هو “أن نؤيد الوحدة الوطنية، بل نوجدها من العدم، ونسعى فى منع الدخيل من التداخل فى إدارتنا، لكن يلزم أن يكون ذلك شيئاً فشيئاً لا مرة واحدة كما رغب العرابيون فى سنة 1882 ؛ ويذهب فريد  إلى ضرورة عدم التعاون مع الإنجليز  ويعيب على النظار المصريين رضوخهم لطلبات الإنجليز، بدلاً من أن يمتنعواعن قبول الوظائف الكبرى فى ظل تلك الظروف، ويرميهم بالحرص على مرتباتهم أكثرمن الحرص على استقلال الوطن، ويتهمهم صراحة بأنهم هم الذين ساعدوا الإنجليز على إحتلال البلاد، “ويساعدونهم الآن على كمال ضمهم لأملاكهم الواسعة بسيرهم الذاهب باستقلال البلاد” كذلك نجد محمد فريد يعيب على محافظ الأسكندرية والخديو عباس الثانى إلقاءهما  كلمتيهما  باللغة الفرنسية فى حفل إفتتاح أول معرض وطنى بالأسكندرية  22 أبريل 1894 ،ويرى أنه كان يجب عليهما الخطابة باللغة العربية بإعتبارهما مصريين وطنيين.   .

وعندما نطالع  مذكرات فريد ندرك أننا امام مؤرخ قاضي يصدر حكماً ولا يعود عنه حتي لو تغيرت الظروف ,ووجد فريد  نفسه مدافعا عن الشيخ  وكان فريد  السبب وراء إنشاء شركة اللواء التي أصدرت جريدة برئاسة تحرير أحمد حلمي لملاحقة وفضح كل مهادن مع المحتل وهكذا يكشف فريد موقفه بوضوح ويكشف شراكته السياسية مع مصطفي كامل منذ البداية  .

المؤرخ الموسوعي والباحث المنهجي

وبعد أن استقال محمد فريد من خدمة الحكومة يوم 19 نوفمبر 1896 إحتجاجاً على نقله إلى بنى سويف بسبب حضوره محاكمة الشيخ على يوسف وتوفيق كيرلس فيما عرف بقضية التلغرافات، نجده يعبر عن إرتياحه للتخلص من خدمة الحكومة “التى لا تقبل إلا كل خاضع لأوامر الإنكليز ميت الإحساس غير شريف العواطف”،وفي الأساس كان فريد يرفض كل أشكال القهر ولو كانت مع خصومه وسبق ودافع عن سعد زغلول وهو مختلف معه .

ويسجل فريد  رفضه أكثر من مرة تشغيل السخرة للمصريين في ظل بذخ  إسماعيل باشا الخديوي الذي تفنن في  الإسراف والترف وإرتكاب المحرمات بكافة أنواعها ,حتى كان يعطى (المومسة  حسب وصفه)ما يزيد عن أربعين ألف جنيه وبذلك إنتشر الفسق بين الطبقات العليا من ذوات البلد حتى صارت الدياثة من أكبر وسائل التقرب من جنابه, فلله در من بيدهم أمورنا المالية, إذاقاموا بوفاء تلك الفوائد وتنظيم الإدارة وتأسيس المدارس بالضرائب والمصائب على الفلاح وترك كثير من العوائد والمكوس كالفردة  وعوائد القبانة وهى أعمال كانت تؤدى عن طريق السخرة ثم الضريبة الشخصية  التي كانت تفرض على كل ذكر بالغ من المصريين وكانت بداية تقريرها فى 1835 م كما جاء في  «من مصر إلى مصر»، وقد أصدر فريد كتاب «رحلة إلى بلاد الأندلس ومراكش والجزائر» ليثبت أنه مؤرخ كبير موسوعي ، وكتاب «تاريخ الرومانيين»  الذي يؤكد به جدارة الباحث المتخصص  ، إضافة إلى ذلك أنشأ فريد مع كل من أحمد حافظ عوض ومحمود أبي نصر مجلة علمية سميت ﺑ «الموسوعة». لتعليم الفقراء مجانًا، كما وضع أسس الحياة النقابية بمصر، حيث أنشأ أول نقابة للعمال عام ١٩٠٩م. وقد عرفت مصر على يديه المظاهرات الشعبية الضخمة حيث كان باستطاعته الحشد إليها، وتعبئة الناس نحو مطلب واحد كما حدث عندما طالب القصر والحكومة بوضع دستور لمصر.

الخديوي إسماعيل
الخديوي إسماعيل

وعقب وفاة مصطفى كامل تم انتخاب محمد فريد عام ١٩٠٨م رئيسًا للحزب الوطني في ظروف حالكة، حيث بدأ الاحتلال والقصر في تضييق الخناق على الحركات الوطنية وتقييد حرية الصحافة. وكان من تبعات ذلك أن تم إحالة فريد لمحكمة الجنايات بتهمة باطلة حُكم عليه فيها بستة أشهر، تم نفيه بعدها عام ١٩١٢م، إلا أن مشوار كفاحه في سبيل الوطن لم يتوقف بنفيه، فقد استمر في الدفاع عن قضايا الوطن في الخارج، كما حدث في مؤتمري السلام بجنيف عام ١٩١٢م ولاهاي ١٩١٣م.

ظل محمد فريد في كفاحٍ ونضالٍ مستمرين طيلة حياته، حتى بعد أن أصابه المرض، حيث نصحه الأطباء بالراحة إلا أنه لم يهدأ، حيث استمر في الدفاع عن قضيته ورسالته حتى وافته المنية في برلين عام ١٩١٩م

موقف محمد فريد من الإنجليز والأتراك

كان محمد فريد مصرياً خالصاً فرصد في مذكراته بالجزء الأول قبل النفي  وحدد موقفه من الأتراك والإنجليز,فقال :”ورغم لجوء الإحتلال إلى الاستعانة بالذوات، وبتعيين عدد من المستشارين والمفتشين فى النظارات المختلفة ويرجع تمسك الإحتلال بالعناصر التركية الحاكمة إلا أن هذه الفئة لم تكن لها جذور متينة فى المجتمع المصرى، فهى تضم أخلاطاً من الأتراك والشراكسة والأرمن والسوريين والأتراك، وغيرهم ممن كانوا يحتقرون المصريين ويتعالون عليهم، وينظرون لهم نظرة المتبوع للتابع ولا يرون فيهم إلا أدوات خلقت لتخدمهم وتوفر لهم الحياة الرغدة اللينة، ومن ثم أصاب المصريين من مظالمهم الشئ الكثير، وغرس ذلك كراهيتهم فى قلوب المصريين، ولذا فإن سيطرتهم على مراكز السلطة تضمن نجاح سياسة الإحتلال لأن أزمة الثقة التى احتدمت بينهم وبين المصريين تجعل إنضمامهم إلى أبناء البلاد فى أى عمل وطنى يوجه ضد الإحتلال أمراً مستبعداً. بسبب الركود في الحياة السياسية المصرية طوال العقد الأول من عهد الإحتلال، فلم يرتفع فيه صوت بالمعارضة سوى بعض الذوات الذين استهوتهم فكرة الجامعة الإسلامية، فأسسوا جريدة “المؤيد” عام 1889 للترويج لها، ولتنتقد بحذر شديد سياسة الإحتلال  وترد على مزاعم “المقطم” لسان حال الإحتلال.

جريدة المؤيد
جريدة المؤيد

 بوفاة الخديو توفيق وتولية إبنه عباس حلمى  8 يناير 1892  تغير الموقف، فقد كان الخديو الجديد لا يود أن يكون دمية فى يد الإحتلال، وتطلع إلى مزاولة سلطته كاملة،لذلك لم يرتح لسلوك مصطفى فهمى رئيس النظار فأقاله فى 15 يناير 1883 ، وأسند الوزارة إلى حسين فخرى ناظر الحقانية فى وزارة رياض ولم يستشر كرومر فى هذا التعيين كما كانت تقضى بذلك التقاليد المتبعة فى عهد والده توفيق، وإكتفى بأن أبلغه بقرار تشكيل الوزارة بعد أن تم تشكيلها بالفعل. وكان الأمر بمثابة إنقلاب سياسى، أحدث أثراً كبيراً فى الشعب، وبعث الأمل فى نفوس الجماهير، مما زاد الخديو الشاب تمسكاً بموقفه، وأخيراً إضطر أن يقبل حلاً وسطاً بناء على نصيحة قناصل الدول فأقال  وزارة حسين فخرى وكلف رياض باشا بتشكيل الوزارة فى 19 يناير، وكان هذا الحل مكسباً فى حد ذاته، إذ استطاع عباس أن يقيل مصطفى فهمى الممالئ للإحتلال. وترتب على تلك الأزمة أن إلتهب حماس الشعب وإلتف حول الخديو؛ كذلك كان من نتائج تلك الأزمة إتجاه الخديو إلى تقوية علاقاته مع السلطان العثمانى بإعتباره صاحب – السيادة على مصر ليتخذ من هذا الوضع القانونى سلاحاً يشهره فى وجه الإحتلال، – وكان لذلك أكبر الأثر فى توجيه الحركة الوطنية صوب الجامعة الإسلامية. ولكن الإنجليز لم يتركوا الموقف يفلت من أيديهم، إذ كان لابد من إعادة الخديو إلى حظيرة الطاعة والخضوع لمشورة المعتمد البريطانى، وهيأت لهم الظروف الفرصة فيما عرف بأزمة الحدود يناير 1894 ، فقد زار الخديو الوجه القبلى، ووصل إلى وادى حلفا حيث استعرض فرقة من الجيش المصرى، وأبدى بعض الملاحظات على نظام الجند، فعد كتشنر سردار الجيش المصرى هذه الملاحظات إهانة له ولضباطه الإنجليز فأرسل غلى حكومة يلده  يستشيرها فيما يجب عمله، وكان ردها أن يطلب من الخديو إصدار أمر يومى بشكر السردار وإمتداح الضباط الإنجليز، فبادر رياض إلى نصح الخديو بضرورة إصدار الأمر المطلوب، واستسلم عباس لهذه النصيحة، وبذلك قضى على نفوذه بالجيش المصرى، وبدأ يتراجع عن خطة مواجهة الإحتلال بصورة مباشرة تعرضه للوقوع فى أزمات جديدة قد تكلفه عرشه. وبدأ يعترض على الميزانية للمرة الأولى فى ديسمبر – – 1893 . فقد عقدت اللجنة التى شكلت لبحث مشروع ميزانية الحكومة فى عام 1894 مقارنة بين أبواب الميزانية والحالة المالية للأمة المصرية، فرأت “أن الأمة المصرية سائرة فى طريق الفقر وعسر الحال، وأن هذا يزيد على توالى الأيام وتداول الأعوام..”، وطالبت اللجنة بوضع نظام جديد للضرائب يخفف الأعباء الواقعة على عاتق الأهالى، وحل مشكلة الديون العقارية، وإعترضت اللجنة على درجات الوظائف العليا التى يشغل الأجانب معظمها، وإعترضت على إنشاء الأقلام الأفرنجية بالمصالح الحكومية، ورأت إنقاص مصروفات الجيش  والبوليس والحد من استخدام الضباط الأجانب فيهما، وطالبت بإلغاء مجلس بلدية الأسكندرية لسيطرة الأجانب عليه، ورأت إنقاص إعتمادات مصلحة إبطال الرقيق التابعة للداخلية وإحالة عملها على خفر السواحل، وطالبت باستخدام الأموال المقتصدة من ذلك كله فى تخفيف ضرائب الأطيان وعشور النخيل والدخولية وتعميم التعليم ورد رياض باشا رئيس النظار على إعتراضات المجلس بخطاب عدد فيه إنجازات الحكومة الخاصة بالرى وإلغاء بعض الضرائب الشخصية، ثم نصح الأعضاء بإتباع خطة الإعتدال والاستقامة فى كافة الأمور.

وأرادت سلطات الإحتلال أن تلقن أعضاء مجلس شورى القوانين درساً يجعلهم يعرفون حدودهم، فكان حادث الرقيق يوليو 1894 الذى إتُهم فيه على باشا شريف رئيس المجلس ومحمد الشواربى باشا عضو المجلس مع إثنين آخرين من كبار الموظفين الذوات، وقد أورد محمد فريد تفاصيل الحادث فى المذكرات حيث كان يحب أن يري الناس الحقيقة كاملة مهما كانت صعبة .

الخديوي عباس حلمي
الخديوي عباس حلمي

المؤرخ الذي عرف مصر مثل كف يده

كتب فريد في مذكراته يحدد موقفه من فرنسا  بعد توقيع الوفاق الودى  1904 التى أطلقت فرنسا بمقتضاه يد إنجلترا فى مصر؛ وإنصرف الخديو عباس حلمي  عن تأييد الحركة الوطنية ليمالئ  الإحتلال بصورة علنية، فشهد العرض العسكرى الذى أقيم فى ميدان عابدين بمناسبة عيد ميلاد الملك إدوارد السابع ) 9 نوفمبر1904، وعين ضابطاً إنجليزياً ياوراً خاصاً له   وأخذ الذوات والأعيان يتحينون الفرص لإبداء ولائهم للإحتلال بعدما إنفردت إنجلترا بمصر ولم ينازعها فى إحتلال البلاد أحد، و أصبح واضحاً أن سلطات الإحتلال ستوجه جل إهتمامها إلى تصفية المعارضة السياسية. وحين أخذ كرومر يظهر بمظهر صاحب السلطة فى البلاد، وطوف بعواصم الأقاليم، قوبل من المديرين والأعيان بالحفاوة والتكريم. وإمتدح رياض باشا كرومر فى خطبة ألقاها فى حفل عام حضره الخديو بالأسكندرية 23 مايو 1904 ، فأشاد بما “له من اليد الطولى فى كل ما له مساس بالمصالح والمنافع العمومية”، وما ساقه الإحتلال إلى البلاد من “التقدم والرقى وبث العلوم والمعارف ولم يبق فى ميدان المعارضة السياسية سوى بعض الأعيان وأبناء “الطبقة الوسطى”، تلك الطبقة التى نمت مع نمو المدن المصرية نتيجة التطور الذى لحق بمجتمع المدينة منذ مطلع القرن التاسع عشر ، وكانت الطبقة الوسطى دعامة نضال الحزب الوطنى تحت زعامة مصطفى كامل، الذى إهتم بتنظيم المثقفين فأسس “نادى المدارس العليا” فى ديسمبر 1905 ليجمع شمل الطلاب والخريجين حول حركة الحزب الوطنى، ونجح هؤلاء فى تنظيم إضراب مدرسة الحقوق فبراير 1906 ، الذى كان بمثابة إحتجاج على سياسة الإحتلال التعليمية. وبلغ نشاط الحزب الوطنى ذروته خلال حادث دنشواى  في يونيو 1906،  إذ استطاع أن يعبئ الشعور الوطنى ضد الإحتلال ويجمع حوله صغار الملاك والفلاحين والحرفيين بالإضافة إلى التجار والمثقفين. وإشتدت حملة مصطفى كامل على الإحتلال فى داخل البلاد وخارجها حتى كان تعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف أكتوبر 1906 نتيجة نضال محمد فريد مع رفيق عمره مصطفي كامل  وقد ترتب على تلك التطورات تحول كبير فى مسيرة الحركة الوطنية، فأخذت الإتجاهات السياسية المتباينة تنظم نفسها فى شكل أحزاب سياسية تعبرعن وجهة نظرها فى القضية الوطنية فأعلن مصطفى كامل تأسيس الحزب الوطنى بصفة رسمية فى 23 اكتوبر  1907كرد فعل لتأسيس حزب الأمة بعد ما ظل إسمه علماً على الحركة الوطنية منذ عام 1894 ، وكان يعبر عن مصالح الطبقة الوسطى. أما حزب الأمة فكان يعبر عن مصالح الأعيان الذين عاصروا عهد إسماعيل  وإرتفع قدرهم تحت الإحتلال، وأصدروا جريدة لتعبر عن مصالحهم وتنطق بلسانهم يوليو 1907 وقد أعلن تأسيس الحزب فى 21 سبتمبر 1907 ، وتزعمه حسن باشا عبد الرازق. ونظم المرتبطون بالقصر أنفسهم فى “حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية”  9 ديسمبر 1907  برئاسة الشيخ على يوسف. وإلى جانب هذه الأحزاب الثلاثة كان ثمة جماعات سياسية لم يكن لها وزن كبير فى الحياة السياسية للبلاد إنتظمت العناصر الطفيلية التى لم يكن لها جذور فى المجتمع، وإرتبط مصيرها بالإحتلال كبعض مثقفى الذوات والأتراك والشوام والأقباط ممن  تربوا فى المعاهد الأوربية، وأسندت إليهم سلطات الإحتلال بعض الوظائف الكبرى، فقد تكون “الحزب الوطنى الحر” برئاسة وحيد بك الأيوبى  5 يوليو 1907  ليعبر عن مصالح هؤلاء. كذلك أسس بعض أثرياء الأقباط الذين إرتبطوا بالإحتلال “الحزب  المصرى” بزعامة أخنوخ فانوس  2 سبتمبر 1908 . . وكام محمد فريد موجودا يدافع بضميره الوطني عن مصالح الوطن  ويقف بكل قوة داعما  وشريكا لمصطفى كامل ثم واصل المسيرة الوطنية من بعده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock