لم يكن نهر النيل وأرض مصر التي يخترقها هذا النيل من الجنوب إلى الشمال بالبعيدة أو بالغريبة عن عرب الشام أو الحجاز أو اليمن بل كان اتصالهم بأرض وادي النيل سابقاً على شروق شمس البعثة المحمدية.
سيد الأنهار
كان النيل نهراً طالما داعب خيال الكُتَّاب العرب وزاد هوسهم -إذا صح التعبير- بهذا النهر المميز في مجراه وتأثيره بعد دخول الإسلام الى أرض مصر واستقراره فيها.
وغلب على كتابات المؤرخين المسلمين عن النيل قدر لا بأس به من المبالغة يبين مدى انبهارهم بهذا النهر٫ حيث يصفه الرحالة والمؤرخ ياقوت الحموي في كتابه “معجم البلدان” بأنه “سيد الأنهار” وهو ما ذهب إليه أيضاً المؤرخ المصري أبو عمرو الكندي في “فضائل مصر المحروسة” حين وصفه بأنه “أشرف أنهار الأرض” لأنه “يسقي عدة أقاليم من ديار مصر وماؤه أفضل المياه”.
ويضيف الحموي أن النيل “يزيد بترتيب وينقص بترتيب بخلاف سائر الأنهار٫ فإذا زادت الأنهار في سائر الدنيا نقص وإذا نقصت زاد” كما أن زيادته “في أيام نقص غيره”.
أما المؤرخ الدمشقي ابن فضل الله العمري فيرى أن النيل هو “النهر الأعظم” على الإطلاق٫ الذي “لا يعدله في عظم نفسه شي” وذلك “لعظم ما عليه من البلاد وطوله في الأمم”.
ويحذو حذو العمري مؤرخ آخر هو أبو الحسن الهروي الذي لا يخفي انبهاره بالنيل ويصفه في كتابه “الإشارات في معرفة الزيارات” بأنه “من عجائب الدنيا” ولا يوجد نهر على شاكلته سوى نهر الملتان في الهند.
أما المسعودي صاحب كتاب “مروج الذهب” فيؤكد في كتابه أن النيل هو “من سادات الأنهار واشراف البحار” وينسب إلى النبي الكريم (صلعم) حديثٌ يصف فيه النيل بأنه “يخرج من الجنة”.
ويضيف المسعودي في موضع آخر أن النيل “إذا زاد غاضت له الأنهار والأعين والآبار وإذا غاض زادت٫ فزيادتها من غيضه وغيضه من زيادتها”
وعلى ذات النهج يسير الرحالة الشهير محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة الذي أفاض في وصف مصر حين زارها في عهد دولة المماليك البحرية ووصف في كتابه الذي أودع فيه كافة انطباعاته ومشاهداته نهر النيل بأنه “أفضل أنهار الارض” من حيث عذوبة المذاق واتساع القُطر وعظم المنفعة٫ ويشير ابن بطوطة الى حقيقة طريفة وهي أن أهل مصر دأبوا على الإشارة الى النيل باعتباره “بحراً” فهو في نظرهم أكبر من مجرد نهر ويقول “ليس في الأرض نهر يسمى بحراً غيره”.
بين الواقع والخيال
قدَّم واضع علم الاجتماع وصاحب المقدمة الشهيرة عبد الرحمن بن خلدون وصفا مبدعا للنيل ولمصر أيضا ، وهو يصف النيل بقوله “فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه. تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشرة مراحل من الجبل، ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر، فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية، ويسمى بنيل مصر وعليه الصعيد من شرقيه والواحات من غربيه. ويذهب الآخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأممهم كلهم على ضفتيه”.
ثم يتجاوز وصف النيل إلى وصف مصر نفسها بأنها “بستان الدنيا” و”حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرِّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك؛ تلوح القصور والأواوين في جوه. وتزهو الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه؛ قد مثل بشاطئ النيل نهر، ومدفع مياه السماء، يسقيه العلل والنهل سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجَّةً؛ ومررت في سكك المدينة تغصُّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنِّعم”.
وهي صورة لا تختلف كثيراً عن تلك التي رسمها لمصر عبد الله بن عُمر بن الخطاب حين قال “من أراد أن ينظر إلى شبه الفردوس فلينظر إلى مصر حين يخضر زرعها ويزهر ربيعها”.
ومن هذه النماذج المنتقاة يمكن ملاحظة أن صورة النيل عند المؤرخين والرحالة المسلمين امتزج فيها الواقع بكثير من الخيال والأسطورة راسماً صورة مدهشة لهذا النهر تفوق في مكانتها أي نهر آخر على وجه الأرض.