«أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» .. شهدت البابوية التي قارب تاريخها على ألفي عام عصورا من الإزدهار وفترات من الإنحدار شأنها في ذلك شأن مجمل المؤسسات الدينية حول العالم غير أن ما يتميز به الفاتيكان أنه مؤسسة تكاد تشبه في تكوينها «دولة صغيرة» يرأسها حاكم روحي يتبعه أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة من الكاثوليك المنتشرين عبر قارات العالم.
الكاتب «إميل أمين» الباحث المتخصص في الشئون الدولية في كتابه «فرنسيس .. فقير وراء جدران الفاتيكان» الصادر عن المركز الثقافي الفرنسيسكاني (CCF)بمصر، يصحبنا في رحلة شيقة داخل أروقة مؤسسة الفاتيكان يروي من خلالها لمحات من سيرة «فرنسيس بابا الفاتيكان» التي تتقاطع في مجملها مع كافة التعقيدات الإجتماعية والسياسية التي يمر بها عالمنا المعاصر.
ما يميز الكتاب أن مؤلفه «إميل أمين» وهو مصري الهوية من أبناء صعيد مصر- إلى جانب عذوبة اللغة المستخدمة – قد تمكن ببراعة شديدة من سرد السيرة الذاتية لبابا الفاتيكان في تشابكها مع رصده لطبيعة علاقة البابا بمصر وموقفه الواضح من القضية الفلسطينية وطبيعة علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية ومجمل بلدان العالم، كما لم يغفل الكاتب عن طرح رؤيته لطبيعة العلاقة التي تربط ما بين العالم الإسلامي والفاتيكان .. فكأن الكتاب بمحاوره المتعددة قد تجاوز حدود كونه مجرد سرد للسيرة الذاتية لبابا الفاتيكان ليصبح بمثابة شهادة على العصر وقضاياه المختلفة.
القادم من أرض الفقراء
بلغ عدد البابوات الرومان الكاثوليك حتى يومنا هذا نحو «265 بابا» أولهم كان القديس بطرس كبير الحواريين الذي استشهد على جبال روما وتلالها السبع وآخرهم هو البابا الحالي «فرنسيس .. بابا الفاتيكان» القادم من أمريكا اللاتينية، أرض الفقراء رغم غناها بالثروات الطبيعية .. تُراه من يكون؟ وكيف تمكن من جمع حصاد كل تلك المحبة حول العالم؟ .. الكاتب إميل أمين يستهل تقديم «فرنسيس» بالإشارة إلى أنه تم إنتخابه من قبل «مجلس الكرادلة .. أمراء الكنيسة» مساء الأربعاء الثالث عشر من مارس عام 2013 حين تصاعد «الدخان الأبيض» من المدخنة التاريخية معلنا للجموع بساحة القديس بطرس عن أن المجتمعين قد توصلوا إلى اسم البابا الجديد، لتنشد الجموع .. «نحب البابا كائنا من يكون … فكلنا مع بطرس نحو يسوع عبر مريم» .. وما هى إلا ساعة من الزمان حتى أطل كاردينال الأرجنتين «خورجي ماريو بيرجوليو» الذي أطلق على نفسه اسم «فرنسيس» نسبة إلى المتصوف الإيطالي «فرنسيس الأسيزي» الذي عاش خلال القرن الثالث عشر الميلادي ووصف بكونه رسالة تسامح وتصالح تسير على الأرض خلال أزمنة «حروب الفرنجة» كما أطلق عليها العرب أو «حملات الصليبين» كما أطلق عليها الأوربيون.
البابا الأرجنتيني
لم يتخيل أحد من رعايا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أن ياتي بابا الكنيسة من أبناء أمريكا اللاتينية حيث جرت العادة على أن يكون البابا إيطاليًا ، فمائتان من بابوات الفاتيكان كانوا إيطاليين غير أن إختيار كردينال بولندا «كارول فوتيلا» يوحنا بولس الثاني عام 1978 جاء ليكسر تلك القاعدة بوصفه ينتمي لإحدى دول أوربا الشرقية ثم جاء من بعده البابا الألماني «جوزيف راتزينجر» الشهير بلقب «بندكتوس السادس عشر» وها هو «خورجي ماريو بيرجوليو» يحل في سدة البطرسية حاملا اسم «فرنسيس».
جاء مولد فرنسيس بابا الفاتيكان في السابع من ديسمبر من عام 1936 في العاصمة الأرجنتينية «بوينس آيرس» لعائلة تضم خمسة أطفال كان فرنسيس أكبرهم سنا والأب «مارو خوسيه بيرجوليو» والأم «ريجينا سيفوري ماريا» وكلاهما «الأب والأم» جاءا إلى الأرجنتين من إيطاليا حيث هربا خلال زمن الحكم الفاشي الذي ساد إيطاليا لفترة من الزمن وربما كانت نشأة فرنسيس كابن لعائلة من المهاجرين تقدم تفسيرا جليا للسر الذي يكمن وراء إهتمام البابا بقضية الهجرة والمهاجرين التي فرضت نفسها على العالم الغربي خلال الآونة الأخيرة.
تخرج فرنسيس كفني كيميائي قبل أن يختار طريق الكهنوت فيلتحق بالمعهد الإكليريكي «فيلاديفوتو» وفي الحادي عشر من مارس 1958 التحق بالرهبنة اليسوعية ودرس العلوم الإنسانية واللاهوتية في تشيلي وفي 12 مارس 1960 أشهر نذوره الرهبانية فغدا بذلك عضوا رسميا عاملا في الرهبنة ومن ثم عاد لاحقا إلى الأرجنتين ليتابع دراساته في الفلسفة واللاهوت بجامعة «سان ماكسيمو دي مغيل» التي حصل منها على درجة علمية في الفلسفة كما تابع دراسته في الآدب وعلم النفس بين عامي «1964-1965» بجامعة «ديلا انماكيو لادا» بسانتا في.
https://www.youtube.com/watch?v=_ab-WnsQFxM
أصبح فرنسيس كاهنا على يد رئيس الأساقفة «رامون خوزيه كاستيانو» عام 1969 وحصل على التدريب الروحي للرهبان الجدد وفقا لقواعد الرهبنة اليسوعية في إسبانيا التي مكث فيها حتى تم إختياره رئيسا إقليميا للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين بداءا من 22 إبريل عام 1973 واستمر في شغل هذا منصب حتى نهاية ولايته في 1979 وعلى الجانب الآخر لم تتوقف مسيرته العلمية حيث حصل عام 1986 على درجة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة فرايبورغ بألمانيا.
لم يكتف فرنسيس بدور رئيس الرهبنة اليسوعية في الأرجنتين بل عمد إلى جانبها إلى الحرص على إلقاء المحاضرات بعدد من المحافظات الأرجنتينية وبعد نهاية ولايته عمل بالتدريس بجامعة «سان مغيل» وغدا عميدا لمعهد اللاهوت بها .. عاد فرنسيس عام 1992 ليكون أسقفا مساعدا لرئيس أساقفة «بيونس آيرس» الكردينال «أنطونيو كاراكينو» ومع رحيل «كاراكينو» عام 1998 غدا فرنسيس رئيس أساقفة العاصمة الأرجنتينية.
فرح الإنجيل
حرص فرنسيس عقب إختياره كبابا للفاتيكان على أن يصلح من شأن الكنيسة الكاثوليكية وليس أدل على ذلك من تلك الوثيقة المعروفة باسم «إيفانجيلي غواديوم» أو «فرح الإنجيل» والتي تعد من أهم الوثائق التي صدرت بعهده وتتضمن رؤيته لمستقبل الكنيسة الكاثوليكية ودورها حول العالم.
شدد البابا في «فرح الإنجيل» على أهمية الرسالة الإجتماعية للكنيسة الكاثوليكية منتقدا الظلم الذي بات يسود العالم وما نجم عنه من تصاعد مطرد لمظاهر العنف الإجتماعي وفي هذا نراه يردد: «طالما لم يتم إلغاء الإقصاء الإجتماعي وعدم المساواة الإجتماعية بين الأمم والشعوب فسيكون من المستحيل استئصال العنف».
استشهد إميل أمين بكتاب «البابا فرنسيس .. المصلح العظيم» لمؤلفه «أوستين إيفريغ» الذي أشار فيه إلى أنه خلال عهد فرنسيس «تم إعادة تصميم للإدارة البابوية بحيث تم السماح للكنيسة المحلية بأن تمتلك تأثيرا أكبر، حيث جرت عملية إعادة ترتيب دوائر الفاتيكان على نحو جعل بنيته أكثر تركيزا وأقل حجما».
على الجانب الآخر لم تحظ ثورة فرنسيس الإصلاحية باستحسان الجميع فلطالما وجهت بعض الأوساط الكاثوليكية المحافظة النقد له حيث خشى المحافظون من أن يؤدي حرصه الشديد على العمل الجماعي وإضفاء المسحة الديمقراطية في إدارة الكنيسة إلى إصابة الكنيسة بالفوضى التي قد ينجم عنها – من وجهة نظرهم- الشلل التام وعجز الكنيسة عن القيام بوظائفها .. غير أن مجلس الكرادلة التسعة المكلف بمساعدة البابا في قيادة الكنيسة قد اعربوا بإجتماعهم المنعقد في فبراير 2017 عن «دعمهم الكامل وولائهم التام لشخص البابا وسلطته».
الإصلاحات التي سعى إليها فرنسيس داخل الفاتيكان ودعواته المستمرة لدعم الفقراء ومقولته الشهيرة «شعبي فقير وأنا واحد منهم» ونقده المستمر لتوحش النظام الرسمالي العالمي جعلت البعض ينظرون إليه بوصفه «رجل شيوعي» خاصة بعد أن أطلق وصفه للرأسمالية بإعتبارها: «مصدر لعدم المساواة في أحسن الأحوال، وقاتلة على أسوأ تقدير» .. لا يعلم منتقدو البابا أن تلك الإنتقادات التي يوجهها البابا فرنسيس للرأسمالية ما هى إلا جزء أصيل مما تمت تسميته «بعقيدة الكنيسة الإجتماعية» والتي وردت بوثيقة «الأشياء الجديدة» التي صدرت عام 1891 ووضعها البابا «لاون الثالث عشر» وتتناول ما أطلق عليه حينها «روح التغيير الثوري» التي كانت تجتاح أوروبا آنذاك .. ثورة فرنسيس الإصلاحية الدائمة تأتي تحت ذلك الشعار الذي طالما ردده بمناسبات عدة .. «إذا لم يكن المسيحي ثوريا في هذا الزمن فهو لا يكون في الحقيقة مسيحيا».
وللحديث بقية..،