لم يكن من الممكن أو المعقول أن يتجاهل عالم جليل بحجم الجغرافي المصري الراحل الدكتور جمال حمدان نهر النيل في كتاب موسوعي بعنوان “شخصية مصر” خصصه لدراسة ما أسماه “عبقرية المكان” في موقع مصر.
حياة أو موت
يرى حمدان في الفصل الذي خصصه ل”مصر والنيل” أن الحقيقة الأولى في الوجود المصري كما يسميه هي أن “مصر هي النيل” فبدون هذا النهر المتدفق لا كيان لمصر٫ ليس فقط بسبب اعتمادها على مياهه وإنما ايضاً بسبب اعتمادها على التربة التي يجلبها مع تلك المياه٫ فكما أن “النيل نهر متفرد” فمصر ايضاً بلد ذو موقع متفرد بين مجموعة الدول المطلة على هذا النهر.
وبطبیعة الحال فان من “يملك السيطرة على منابع النيل” يمكن ان يستخدم تلك المنابع كسلاح سياسي ضد مصر٫ اذ انه يملك في هذه الحالة أن يصيب مصر اما بالغرق أو بالعطش والنيل بهذا “مقتل كامن او ممكن لمصر” وبالتالي فإن السياسة المائية لمصر هي “مسألة حياة أو موت” ولا أقل من ذلك.
ويؤكد الدكتور حمدان أن الاستعمار الأجنبي الذي عانت مصر منه طويلاً وعى هذا الدرس جيداً٫ فمنذ أقدم العصور سعى من استعمروا مصر للسيطرة على النيل.
فحين تعاظم المد الثوري الوطني ضد الاستعمار الفارسي في مصر في القرن الرابع قبل الميلاد٫ فكر ملك الفرس أردشير الثالث في تحويل مجرى أحد الأنهار التي كان يُعتقد حينها أنه منبع النيل لكي يمنع مياهه من الوصول إلى مصر كوسيلة عقاب جماعي للمصريين٫ وبعد تلك الواقعة بقرون طويلة وتحديداً في عهد الدولة الفاطمية وحين وقعت في مصر مجاعة عُرفت باسم “الشدة المستنصرية” نسبه إلى الخليفة الفاطمي المستنصر٫ سرت بين المصريين إشاعة مفادها أن حكام الحبشة سدوا مجرى النيل وأن هذا تحديداً هو سبب الشدة٫ وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الإشاعة فإنها فيما يبدو لاقت تصديقاً لدى الخليفة الفاطمي الذي أرسل إلى حكام الحبشة لكي “يطلقوا النيل”.
المياه .. والاستعمار الحديث
ومع انطلاق عصر التوسع والاستعمار الأوروبي الحديث بداية من القرن السادس عشر الميلادي٫ تكررت محاولات “خنق” مصر عن طريق السيطرة على النيل٫ فالبرتغاليون حاولوا إقناع حكام الحبشة بحفر قناة من منابع النيل الازرق الى البحر الأحمر ليمنعوا مياه النيل عن مصر.
أما الاستعمار الإنجليزي فقد اتخذ منذ دخوله الى كل من مصر والسودان في القرن التاسع عشر الميلادي من مياه النيل أداة للضغط السياسي والمساومة واتخذ حججاً وذرائع مختلفة لكي “يخلق عقبات في مجرى النهر يسلب بها مصر جانباً من المياه”.
ويؤكد جمال حمدان أن استخدام المياه كسلاح فاعل كان أحد أهم أدوات السياسة الاستعمارية وكان القصد من سياسات المياه هذه ولا سيما في السودان هي “تهديد مصر سياسياً والتحكم فيها وإخضاعها للإرادة الاستعمارية” وبذلك تصبح السيطرة على مياه النيل “سيفاً مسلطاً”على رقاب حركة التحرير الوطني والاستقلال السياسي في مصر.
ويشير حمدان الى ان اقامة السدود بل والإكثار منها كانت سياسة بريطانية مخططة فيما يتعلق بمياه النيل في السودان وكان الغرض هو “تخفيض مستوى النيل بحيث يتعذر مل الحياض في بعض السنين” وبالتالي “يتفاقم خطر الجفاف”.
ولا أدل على هذا الهدف من تلك الأصوات التي كانت ترتفع في مجلس العموم البريطاني تطلب منع مياه النيل من التدفق الى مصر عقاباً لها على قيامها باسترداد قناة السويس عام ١٩٥٦.
كما أن المستعمر البريطاني عمد قبل ترك مستعمراته في شرق افريقيا مثل أوغندا وتنزانيا وكينيا الى تحريض تلك الدول على المطالبة بحصص في مياه النيل.
ويعود حمدان ليؤكد بعد سرد كافة هذه المؤامرات على أن مياه مصر حق مكتسب وليست منحة ولا منة ولا فضلاً من أحد٫ ويشير الى أن اتجاه مصر نحو أفريقيا والمساهمة الجادة في تنميتها وكسب ود دولها وصداقتها هي في جوهرها سياسة تأمين لمياه النيل واستمرار تدفقها نحو بلد المصب : مصر.