رغم أن نهر النيل يخترق عدة بلدان افريقية من منبعه حتى مصبه٫ إلا أنه لم يؤثر في ذاكرة وتراث وابداعات شعب بقدر ما فعل في مصر مع شعبها الذي جعل من النهر مادة خصبة لكافة ابداعاته سواء المكتوبة أو المٌغناه او غير ذلك.
وتؤكد الكاتبة المصرية الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها “النيل في الأدب الشعبي” إن هذا النهر لم تتغير مكانته عند المصريين بتغير الأزمنة بل لعله القيمة الأكثر ثباتاً في كافة العصور التي مرت على المحروسة.
فإن كان المصري القديم اعتبر النيل نهراً مقدساً وارتبطت احتفالاته وأعياده به فإن هذه المكانة الرفيعة لم تتغير حين اعتنق المصري المسيحية ثم الإسلام٫ بل إن وصف النيل ب”المبارك” ظل مستمراً في كلتا المرحلتين : المسيحية والإسلامية على حد سواء.
وكما أشار الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة فان المصريين يشيرون الى النيل رغم كونه نهراً بلفظ “البحر” وليس من نهر آخر يسمى بحراً سواه.
ولذا فإن الأدب الشعبي وخاصة الأغاني التراثية تستخدم لفظ البحر للإشارة إلى النيل .
أغاني “النيل”
وتجمع الدكتورة نعمات فؤاد عشرات الأمثلة من الأغاني الفولكلورية التي أبدعها المصريون وجعلوا من النيل فيها موضوعاً رئيسياً وردَّدوها على ضفافه.
فالنيل هو حيث تنتظر المحبوبة عودة حبيبها المسافر او الغائب:
“اقعد في السراية اللي ع الباجورية
عشان اشوف المراكب اللي فايته والمعدية”
https://www.youtube.com/watch?v=q3h2SOOdwdg
والنيل حاضر في أفراح المصريين وأعراسهم وفي أغانيهم التي يغنونها في تلك المناسبات٫ فإن أرادوا مدح العروس وصفوها بأنها “شلباية البحر”.
وإن غاب العريس لسفر ما فإن العروس تغني وتذكر “البحر” أو النيل ايضاً وتقول:
“يا البحر دا ما اشربه
سافر حبيبي فيه”
وحين يفيض النيل ويحين وقت ملء الجرار بالمياه من قنواته المتعددة٫ فإن الفلاح المصري يغني منادياً الفتيات اللواتي يملأن الجرار ويقول :
“يا شايلة البلاص دلي واسقيني
يا حاردة القَصه على الجبين لويلي”
والنيل هو سبيل المسافر للعودة إلى موطنه والى اهله:
“يا شمس غيبي
يا مراكب حلي
بلدي بعيدة
وطالب محلي”
بل إن حادي الإبل في مصر ورغم كون وظيفته في الصحراء بشكل أساسي لكن النيل حاضر في أغانيه التي يقود الإبل على إيقاعها ايضاً:
“هجرتني يا زين وطال البحر
حرمتني نوم العشا والفجر”
أما في صعيد مصر وتحديداً في المنيا فتغني الاخت لشقيقها ليلة زفافه لتقول:
“البحر زفه٫ زفة عرسان
ياما فيها اخويا٫ اي عود الزان”
أما البحار أو “المراكبي” كما يحلو للمصريين أن يُسمُّوه فانه يتباهي في أغانيه بقدرته على ان يخوض أمواج النيل :
“طول عمري ريس على البحار
اتجلى طي الموج واسافر مع التيار”
وتصل ظاهرة التغني بالنيل وأمواجه ومياهه الى اقصى جنوب الوادي الذي شقته مياهه في مصر أي بلاد النوبة٫ حيث عثرت مؤلفة الكتاب على أغنية بلهجة أهل تلك المنطقة وتمكنت من ترجمتها الى اللغة العربية فوجدت ان كلماتها تقول :
“أيها الفيضان الهائل إجلب الخير
واحمل لنا الطمى الجديد
وأعدوا القوارب إلى الجزيرة
سنبذر فيها الحب …
جدِّف وحاذر …. جدف بقوة
الفيضان شديد … وماؤه ثقيل
أيها البحر .. اتريد عروسك عروس البحر
لماذا تسبب الاضطراب لمركبنا ؟
سنبذر فى الجزيرة ونعود
لنأكل الفطير باللبن والسمن
أسرع وجدف لا تغضب الفتاة
اني لا احتمل غضب الحسناء
انها تحمل لى الرطب الجني
سنلتقي على شط النيل
ونجلس فى الظل لنتسامر”
https://www.youtube.com/watch?v=P3C2-f5Mxuw
على شط النيل
والنيل أيضاً هو ملتقى العشاق٫ هو المكان المفضل لكي يبوحوا بعشقهم كما تعكس أغنيات عدة من بينها :
“عجبي على حليوه
في المركب معديه
طلبت منه الوصال
جال دا انته بلديه”
وحين يلوح الحبيب في احدى المراكب التي تحفل بها صفحة النهر٫ يغني العاشق الولهان بلهفة:
“الزين على المعادي
لابس قميص ابيض
وفي يده عاجي”
بل إن قصص الحب تبدأ – وفقا للغناء الشعبي- على ضفاف النيل٫ حيث يصادف الشاعر الشعبي محبوبته التي يصفها بالغزال ذي الخدود الحمراء اللون .. والشديدة النعومة :
“واقف على الشط
بصطاد وانا عايم
صادني غزال زين
خدوده حُمر ونعايم”
وتخلص المؤلفة من كل هذه النماذج إلى حقيقة أن “النيل مصدر كل شيء حي في مصر٫ إنه حياة العاشق والمعشوق٫ للناس والحيوانات والنبات”.
هكذا رأى المصريون نهرهم العظيم وهذا تغنوا به وغنوا له.