بعد «مقتلة الإسكندرية» التي أُزهقت فيها مئات الأرواح من الأهالي والأجانب، زاد قلق الناس وشعورهم بخطر الموقف، فقرر الخديوي توفيق الانتقال فجأة من العاصمة إلى الإسكندرية، وحجته تهدئة الخواطر فيها، فسافر إليها يوم الثلاثاء ١٣ يونيو 1882، وودعه على المحطة أحمد عرابي باشا وزير الحربية.
قبل أن يتحرك القطار عهد الخديوي إلى عرابي بمراقبة أحوال القاهرة، والسهر على الأمن العام فيها واتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع وقوع أي حادث، وصحبه في سفره درويش باشا المندوب العثماني.
في الإسكندرية قُوبل الخديوي بفتور شديد، وأطلقت المدافع تحية له واصطف الجند على الجانبين حتى سراي رأس التين، وقد وجل الناس عند سماع المدافع، ولم يكونوا يعلمون بمجيء توفيق وظنوا أنها مدافع الحرب.
كان رجال الدولة والأعيان في هذا الوقت الحرج، يتوافدون على بيت عرابي في القاهرة، وسأله أحدهم عن توقعاته إذا تم العدوان على مصر فقال: « لن نكون نحن المعتدين، ولكننا سنقاوم كل من يعتدي علينا، نحن أمة مخلصة نعترف بالجميل لمن يأخذ بأيدينا ويعيننا على إصلاح وطننا، ونحن لا نبغي إلا الإصلاح، ولكن الذين يريدون أن يغشونا سوف يجدون منا كل غش».
كانت البلاد في هذه الظروف بلا وزارة منذ استقالة البارودي في ٢٧ مايو 1882، فلما وقعت حادثة الأحد الدامي بالإسكندرية في 11 يونيو، اتجهت الأنظار إلى وجوب تأليف وزارة تضطلع بأعباء الحكم، وتضع حداً للفوضى التي استهدفت البلاد.
حكومة إسماعيل راغب
حاول قنصلا ألمانيا والنمسا والمندوب العثماني إقناع توفيق بتشكيل وزارة جديدة يبقى فيها عرابي وزيرًا للحربية، استشار الخديوي بعض رجال الدولة في أمر تأليف الوزارة الجديدة، فاستدعى شريف باشا ثم مصطفى فهمي باشا ثم عمر لطفي باشا وغيرهم، وكلف كلا منهم بتأليف الوزارة، لكنهم اعتذروا جميعا لِما كان بينهم وبين عرابي من جفاء، ثم استقر الأمر على تكليف إسماعيل راغب باشا بتشكيل الوزارة ولم يكن على صدام مع عرابي وقبل بأن يستمر عرابي وزيرا للحربية في الوزارة الجديدة.
أرسل راغب باشا إلى الخديوي كتابا يحدد فيه منهج حكومته، ويتضح من هذا الكتاب وفقا لما أورده المؤرخ محمود الخفيف في كتابه «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» أنه كان ينوي حُكم البلاد حكما دستوريا، يكفل الاستقرار والتقدم، ويقطع الطريق على دسائس الإنجليز.
بعد أن أشار راغب في كتابه إلى احترام الفرمانات المحددة لمركز مصر واستقلالها ومراعاة الاتفاقات الدولية المتصلة بالديون واحترام مبدأ الدستور والسير وفق أحكامه قال: «أما الأصول التي يجب بذل الجهد في ترتيبها على قواعد أساسية وتوضع بالاشتراك مع مجلس النواب وتصديق عظمتكم؛ فهي الأصول الأساسية التي تعيد حقوق الحكام والمحكومين من كل صنف والقوانين الإدارية والقضائية وتنظيم حالة الإدارة والقضاء ، على وجه يلائم مصالح البلاد ويحفظ لها صورتها المدنية».
ونظرا لما كانت تمر به مصر من ظروف حدد راغب في كتابه إلى الخديوي عددا من البنود التي كان يرى أن لها أولوية، منها: إصدر عفو عام عن كل من عليه مسؤولية أو له اشتراك في الأحداث الأخيرة، عدا المشتركين والمسؤولين في حادثة الإسكندرية وفي المواد الحقوقية، فلا يشملهم العفو، وألا يعامل أحد بجزاء إلا بعد محاكمته في مجلس بمقتضى القانون وصدور الحكم عليه. ولا تجرى مخابرات في المصالح السياسية من مأموري الحكومة مع أحد وكلاء الدول بالقطر المصري إلا من طرف وزير الخارجية فقط، وعليه أن يستشير مجلس الوزراء في الأمور الهامة وإن حصلت مخابرة من أحد المأمورين فلا تعتبر ولا يعتد بها.
ويشير الخفيف إلى أن برنامج حكومة راغب كان كفيلاً بإعادة الهدوء إلى مصر، وأن يُرضي الوطنيين ويضمن حقوق الأجانب.
وافق الخديوي في كتاب رسمي على برنامج راغب، لكن المشكلة لم تكن في توفيق، فالإنجليز بادروا بوضع العراقيل في سبيل الوزارة الجديدة، حتى يؤثروا على المؤتمر الذي سينعقد في الآستانة بعد تأليف الوزارة بثلاثة أيام.
دسائس الإنجليز
ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «أحمد عرابي الزعيم الثائر»: إن إنجلترا التي دبرت مذبحة الإسكندرية أبت إلا أن تستغلها دون نزاهة ولا هوادة حتى تصل إلى احتلال مصر، وكان من تدابيرها ألا تمكن وزارة راغب باشا من تهدئة الخواطر وإقرار الأمن في نصابه، «أغلب الظن أنها لم تكن تبغي تأليف الوزارة لكي تبدو البلاد في حالة غير عادية، وتتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شئون البلاد».
فلما تألفت الوزارة قابلتها السياسة الإنجليزية بجفاء وعدم ثقة، وقللت من قدرتها على إعادة الأمن إلى نصابه، وأخذت تخلق لها العقبات والعراقيل، وبارح السير إدوار مالت قنصل بريطانيا العام الإسكندرية يوم ٢٧ يونيو، وأناب عنه المستر كارترايت الذي شهد ضرب الإسكندرية، وغادر المدينة أيضا المستر كوكسن القنصل البريطاني، وأوعزت الحكومة البريطانية إلى السير أوكلن كولفن الرقيب المالي الإنجليزي بالامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء، وهذه علامات ونذر تُنبئ عما كانت تبيته السياسة الإنجليزية من إثارة الحرب والقتال.
كان مسيو دي فريسينيه رئيس وزراء فرنسا قد دعا الدول الأوروبية الكبرى إلى عقد مؤتمر للنظر في المسألة المصرية، فلبى هذه الدعوة كل من إنجلترا وألمانيا وروسيا وإيطاليا والنمسا، أما تركيا فقد رفضت الفكرة بدعوى أن إيفاد مندوبها درويش باشا إلى مصر كاف لحل الأزمة، واحتجت أيضا بأن الأحوال في مصر لا تستدعي عقد مؤتمر بعد تأليف وزارة راغب باشا، واضطلاعها بأعباء الحكم وإعادتها الأمن إلى نصابه.
وأبلغ وزير خارجية تركيا سفراء الدول الأوروبية بالآستانة قرار دولته برفض انعقاد المؤتمر، لكن الدول لم تعبأ به واعتزمت عقده، وبقيت تركيا على امتناعها ورفضت الاشتراك فيه حتى ضرب الإسكندرية، فكان من المهازل السياسية أن يجتمع مؤتمر دولي في الآستانة للنظر في المسألة المصرية دون أن تشترك فيه حكومة الآستانة ذاتها، ودون أن تشترك فيه مصر.
مؤتمر التمهيد لضرب الإسكندرية
اجتمع المؤتمر بمقر السفارة الإيطالية في «ترابيا» بضواحي الآستانة على شاطئ البوسفور يوم ٢٣ يونيو سنة ١٨٨٢، وكان أعضاؤه سفراء الدول الكبرى الست (بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا)، وكان السفير اللورد دفرين يمثل بريطانيا في المؤتمر.
ثم اجتمع ثانية يوم ٢٥ يونيو، وقبل البدء في مداولاته تم إبرام العهد المشهور بـ«ميثاق النزاهة» الذي وضعه مسيو دي فريسينيه في ١٦ يونيو وعرضه على اللورد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا فقبله.
ونص «ميثاق النزاهة» الذي وقع عليه أعضاء المؤتمر، على أن تتعهد الحكومات التي يوقع مندوبوها على هذا القرار، بأنها في كل اتفاق يحصل بشأن تسوية المسألة المصرية لا تبحث عن احتلال أي جزء من أراضي مصر، ولا الحصول على امتياز خاص بها، ولا على نيل امتياز تجاري لرعاياها لا يخوَّل لرعايا الحكومات الأخرى.
ويلفت الرافعي النظر إلى أن إنجلترا حينما وقعت على هذا الميثاق كانت تنوي نقضه، كما نقضت سائر عهودها في المسألة المصرية، «الدليل القاطع على ذلك أنها في الوقت الذي أبرمته — ٢٥ يونيو سنة ١٨٨٢ — كانت تُعد معدات الحرب والقتال وتجهز جيشها لاحتلال مصر، ولم يمضِ على هذا العهد ستة عشر يومًا حتى ضرب أسطولها مدينة الإسكندرية بمدافعه يوم ١١ يوليو».
اجتمع المؤتمر في جلسته الثالثة يوم ٢٧ يونيو، وأخذ أعضاؤه يتداولون في المسألة المصرية، وألقى اللورد دفرين بيانا عن الحالة في مصر، ذهب فيه إلى أن الفوضى قد تمكنت من البلاد جراء ثورة الجيش وانتقاضه على الخديوي، وأن هذه الفوضى قد أدت إلى اختلال الإدارة وارتباك الأحوال، ووقوف حركة التجارة وفقدان الثقة وعجز الأهالي عن سداد الضرائب، وتقصير الحكومة عن الوفاء بتعهداتها المالية حيال الدائنين الأجانب، ثم تعريض حياة الأوروبيين للخطر.
ويرى الرافعي أن هدف بيان دفرين الإيعاز بأن الحالة في مصر تستدعي التدخل في شئونها، وأن هذا التدخل يجب أن يكون حربيا لقمع الثورة وإعادة سلطة الخديوي، على أن يكون هذا التدخل إنجليزيا، «لكن إنجلترا تظاهرت على لسان دفرين بأنها تبغي أن يكون التدخل تركيًا، وهي عالمة بأن الحكومة التركية بلغت من الضعف والتردد بحيث لا تقدم على هذه المهمة، ولو أنها تدخلت بجيشها لكان من المحتمل أن يكون ذلك إنقاذا للموقف وتفاديًا من الاحتلال؛ لأن الدول الأوروبية ما كانت لتقبل بقاء جيش عثماني في مصر إلى ما شاء الله».
ويشدد الرافعي على أن الحالة لم تكن تستدعي إرسال جيش عثماني أو غير عثماني، «وزارة راغب باشا كانت تستطيع إعادة الأمن والنظام إلى نصابه، لو لم تبادرها السياسة الإنجليزية بالعقبات والعراقيل».
كانت إنجلترا واثقة من جمود السياسة التركية وضعفها، مطمئنة إلى انقسام الدول الأوروبية في الرأي، وعدم اتخاذها قرارًا معينًا في المسألة المصرية، فانتهزت هذه الفرصة وأخذت قبل انعقاد المؤتمر وخلال انعقاده تُعد معدات الحرب والقتال؛ لتنتهك بأسطولها وجيشها حرمة العهود والمواثيق، وتحتل مصر تحت سمع المؤتمر وبصره.
دفرين وخداع المؤتمر
وللتدليل على نية إنجلترا التآمرية ما ذكره الرافعي من أن إيطاليا قدمت مقترحا عُرض على المؤتمر بجلسة ٢٧ يونيو، وكان ينص على أن تقرر الدول الامتناع عن التدخل المنفرد في مصر ما دام المؤتمر منعقدًا، ألا أن دفرين أخذ يُلح في ضرورة وضع تحفظ على المقترح الإيطالي، حتى قرر إضافة فقرة «فيما عدا الأحوال القهرية».
وبذلك وضح ما كانت تضمره إنجلترا من مخادعة المؤتمر، وما كانت تبيته من نية الشر والعدوان ونقض العهد والميثاق، وقد اطمأنت بعد وضع هذا التحفظ، وتركت المؤتمر يجتمع ويقرر ما يشاء، إذ كانت هذه الكلمة كافية لتجعل قراراته عديمة القيمة.
قرر المؤتمر في جلسته الثالثة وجوب التدخل في مصر لإخماد الثورة، وأن يعهد إلى تركيا بهذه المهمة، على أن ترسل إلى مصر قوة كافية من الجند لإعادة الأمن والنظام إليها، وأخذ يتداول في الجلسات التالية في شروط هذا التدخل وحدوده، واستفادت إنجلترا من هذا البطء لإتمام تدابيرها وإنفاذ خطتها في تدخلها المنفرد.
ووضع المؤتمر في جلسته السابعة — يوم ٦ يوليو سنة ١٨٨٢ — قواعد هذا التدخل، وهي: أن يحترم الجيش الذي ترسله تركيا مركز مصر وامتيازاتها، التي نالتها بموجب الفرمانات والمعاهدات، وأن يخمد الثورة العسكرية ويعيد إلى الخديوي سلطته، ثم يشرع في إصلاح النظم العسكرية في مصر، وأن تكون مدة إقامته في مصر ثلاثة أشهر، إلا إذا طلب الخديوي مدها إلى المدة التي تتفق عليها الحكومة المصرية مع تركيا والدول الأوروبية العظمى، ويعين قواد هذا الجيش بالاتفاق مع الخديوي، وتكون نفقاته على حساب مصر، ويعين مقدارها بالاتفاق مع مصر وتركيا والدول الست العظمى الأوروبية.
صدر هذا القرار على أن يعرض على الحكومة التركية والحكومات الأوروبية الست، وأرسل نص القرار إلى حكومات الدول فأقرته، ووافقت على تقديمه إلى الحكومة التركية، فأُرسل إليها ولكنها لم تقره، «وقفت موقف الإحجام والتردد، شأن السياسة التركية في ذلك العهد. واعتمدت في رفضها التدخل على تقارير مندوبها درويش باشا الذي يقول فيها إنه ليس في مصر ما يوجب تدخُّلها، وقد وافقت إنجلترا على دعوة تركيا إلى التدخل في هذا الوقت الذي كانت تُعد فيه معدات القتال لتتدخل هي بمفردها؛ ذلك لأنها كانت مطمئنة إلى بطء السياسة التركية وترددها، وأنها تستطيع خلق الحالة القهرية التي نوه إليها اللورد دفرين، فتتذرع بها إلى التدخل الحربي من جانبها ضاربة قرار المؤتمر عرض الحائط»، كما يقول الرافعي.
المهزلة
أنفذت بريطانيا خطتها، وضرب أسطولها مدينة الإسكندرية يوم ١١ يوليو قبل أن تتقدم الدول إلى تركيا بقرار المؤتمر، وقبل أن يتبين موقف الأتراك حيال هذا القرار.
ومن الوقائع الثابتة أن إنجلترا أخذت تجهز معدات القتال قبل انعقاد المؤتمر، فقد أصدرت وزارة البحرية الإنجليزية في ١٥ يونيو تعليماتها إلى بواخر النقل بالاستعداد للسفر إلى مصر، مُقلة كتائب الجنود لإرسالها إلى ميناء الإسكندرية.
كانت آخر جلسة عقدها المؤتمر قبل ضرب الإسكندرية — وهي الجلسة السابعة — يوم ٦ يوليو، فلما وقع الضرب ظهر أن المؤتمر لم يكن إلا مهزلة اتخذتها إنجلترا وسيلة لشغل الناس عما تضمره من نياتها العدائية، واجتمع المؤتمر مع ذلك بعد الضرب يوم ١٥ يوليو، وأخذ يستأنف النظر في تدخل تركيا الحربي.
استغل الإنجليز المؤتمر لتهيئة الأجواء في أوروبا لقبول تدخلها العسكري في مصر، «دبروا مذبحة الإسكندرية حتى يُظهروا الحالة في مصر بأنها حالة فوضى واضطراب، ونهب وقتل لا يؤْمَن معها على حياة الأجانب، وأنها تستدعي تدخل الدول لوضع حد لهذه الفوضى، ثم اشتركوا مع بقية الدول الكبرى في عقد مؤتمر الآستانة للمفاوضة في إيجاد علاج لهذه الحالة الخطيرة، وهيئوا الأفكار في أوروبا لضرورة التدخل لقمع الثورة في مصر».
…………………………………………………………………………..
المراجع:
كتاب «أحمد عرابي الزعيم الثائر» – عبد الرحمن الرافعي
كتاب «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» – محمود الخفيف
مذكرات أحمد عرابي