في منتصف الستينات وفي قلب ضاحية حلوان في القاهرة٫ حلقت في سماء مصر طائرة نفاثة كانت خلاصة مشروع وطني طموح آنذاك ونتاج جهد وعمل العشرات من المهندسين والعمال المصريين وحملت الطائرة اسم “القاهرة ٣٠٠”
مصنعا هليوبوليس و36
ويروي الكاتب وعضو هيئة التدريس في معاهد الشرطة محمد ضيائي نافع في كتابه “قصة صناعة الصواريخ والطائرات المصرية” الصادر عام ٢٠٠٦ أن صناعة الطائرات لا سيما الحربية منها كانت حلماً طالما راود المصريين. و أن قصة صناعة الطائرات المصرية تعود إلى عام ١٩٤٩ حيث لفتت نتائج حرب فلسطين نظر المؤسسة العسكرية الى ضرورة تأسيس مصنع للطائرات٫ وتأسس هذا المصنع بالفعل في موقع مطار مصر الجديدة الذي كانت تستخدمه القوات البريطانية وقوات الحلفاء لأغراضها الحربية.
وعقب انسحاب القوات البريطانية من القاهرة٫ تسلمت مصر المطار وأقام المهندسون المصريون فيه مصنعاً وورشة لتصميم هياكل الطائرات ، وقد تغير اسمه لاحقاً الى مصنع طائرات هليوبوليس.
ومع قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ وتغير النظام أنشأت القيادة الجديدة مصنع ٣٦ الحربي او مصنع الطائرات في حلوان والذي يرى المؤلف أنه “مصنع تفخر به مصر” حيث كان “يحوي جميع الورش والهناجر والإدارات والمخازن اللازمة لصناعة طائرات كبيرة” وكان عدد العاملين في هذا المصنع لا يقل عن خمسة وعشرين ألف عامل وكان أشبه ب”خلية نحل” على حد تعبير الكاتب.
الطائرة النفاثة
ومع نهاية عام ١٩٥٩ عرض العقيد طيار عصام الدين خليل على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مشروع تصميم وانتاج طائرة تدريب نفاثة وطائرة مقاتلة أسرع من الصوت.
ولقى هذا المشروع استحسانا لدى الرئيس وكلف العقيد خليل بإجراء الاتصالات اللازمة لإنجاز هذه الخطة.
ووجد العقيد ضالته في مشروع طائرة تدريب نفاثة صممها المهندس الألماني البروفيسور فيللي ميسر شميت٫ مصمم الطائرة المقاتلة الألمانية التي عُرفت باسمه في الحرب العالمية الثانية٫ لصالح شركة اسبانية تدعى هيبانو.
واستمر العقيد خليل في عقد الاتصالات المكثفة حتى تمكن من أن يشتري التصميم الخاص بالطائرة٫ ونظراً لأن هذا المشروع مشروع متكامل أي بناء الطائرة وصناعة المحرك الخاص بها فقد تم تأسيس مصنع المحركات النفاثة لهذا الغرض وتم تأسيس المباني والورش اللازمة لذلك كما تم تركيب المُعدات الخاصة بصناعة المُحرك.
وبدأ العمل بالفعل في قسم التطوير والتصميم في مصنع ٣٦ لصناعة الطائرات “بقيادة أكفأ المهندسين المصريين بالتعاون مع الخبراء الألمان الذين كانوا قد بدأوا في الوصول الى مصر للعمل في المشروع ووصل عددهم الى ٣٠٠ خبير”.
وشاء القدر أن تُنشئ الهند – حليفة مصر في ذلك الحين في حركة عدم الانحياز- مصنعاً مشابها لصناعة الطائرات في مدينة بنجالور الهندية وأنتج هذا المصنع بالفعل طائرة هندية عُرفت باسم h f 24.
وفتح هذا الإنتاج الباب واسعاً لتعاون مصري-هندي مكثف في مجال الصناعات الحربية٫ حيث تم الاتفاق بين مصر والهند على تركيب المحرك الذي صممته الأيدي المصرية في الطائرة الهندية وبذلك تحصل مصر على هذه الطائرة وفي المقابل تستمر الهند في إنتاج الطائرة٫ في حين تستمر مصر في تصنيع المحرك الذي يحمل اسم E 300.
وبحلول شهر مارس من عام ١٩٦٣ وتحديدا في اليوم السابع منه كانت الطائرة القاهرة ٣٠٠ جاهزة للاختبار.
ويصف المؤلف يوم الاختبار بقوله “أخذت الطائرة القاهرة ٣٠٠ تتهادى في طريقها إلى ممر الإقلاع كالعروس في ليلة العرس” ثم صعد إليها “طيار الاختبار الهندي كابل بهرجافا مرتدياً زي الطيار المقدم على الاقلاع بطائرة مقاتلة نفاثة وعلى شفتيه ابتسامة عريضة أضاءت وجهه الأسمر”.
ثم حلق الطيار ب”العروس” لمدة عشرين دقيقة كاملة ثم عاد بها إلى أرض المطار وهبط بسلام وسط تهليل وتصفيق من المهندسين والعمال المتواجدين في انتظاره والذين اعتبروا ذلك اليوم عيداً في مصنع حلوان وظلوا يحتفلون بذكرى ذلك اليوم باعتباره “نقطة تحول في صناعة الطائرات في مصر”.
إجهاض المشروع الواعد
إلا أن انجازاً كهذا ما كان يمكن ان يمر مرور الكرام٫ إذ أخذت دول عدة متربصة بمصر على عاتقها إجهاض هذه التجربة وهي لا تزال في مهدها.
ويرى الكاتب أن نجاح تجربة تصنيع الطائرات المصرية كان أحد الاسباب التي عجلت بعدوان عام ١٩٦٧ حيث “أمكن إيقاع مصر في شرك الحرب” مع الدولة الصهيونية و”عمل على ذلك كثير من الدول الغربية والشرقية”.
وكان من المفهوم – حتى في إطار إعادة مصر بناء جيشها بعد هذا العدوان- أن تتأثر تجربة بناء الطائرات وفي عام ١٩٦٨ صدرت التعليمات من القيادة السياسية بإيقاف المشروع واضطر وزير الصناعة والأب الروحي للصناعة المصرية الحديثة الدكتور عزيز صدقي آسفاً لابلاغ المهندسين والعمال بذلك لدى زيارته لمصنع حلوان.
ورغم توقف التجربة٫ إلا أن هذا لم يمنع مصر في نفس العام وتحديدا في مايو 1968 من المشاركة في معرض للطائرات والمحركات في إيطاليا٫ وعرض الفريق المصري المشارك محرك الطائرة القاهرة ٣٠٠ والذي لقى استحسان رواد المعرض آنذاك.
وحتى يومنا هذا٫ يقف شامخاً في متحف Flugwerft Schleissheim في ألمانيا ومنذ العام ١٩٩٧ نموذجٌ أوليٌ لتلك الطائرة كشاهد على ما يمكن للعقل المصري أن يبدعه ويصنعه في حال وجود حاضنة تشجعه وتدفعه قدماً إلى الأمام.