قبل انعقاد مؤتمر الآستانة، وقبل أن تقر الدول المشاركة فيه دعوة تركيا لإرسال جيش إلى مصر لـ«فرض الأمن والنظام»، بدأت إنجلترا في التخطيط لضرب الإسكندرية، وأخذت تفتعل الأسباب والذرائع للتعجيل بالحرب كي تضع المؤتمر أمام الأمر الواقع.
أوعزت الحكومة البريطانية إلى الأميرال سيمور قائد الأسطول الإنجليزي المرابط أمام شواطئ الإسكندرية أن يخلق أي وسيلة للتحرش بمصر لإثارة الحرب عليها، لخلق «الحالة القهرية» التي أشار إليها اللورد دفرين ممثل إنجلترا في مؤتمر الآستانة، واشترط إضافتها إلى قرار الامتناع عن التدخل المنفرد في مصر.
في أول يوليو عام 1882، أرسل سيمور إلى قادته في لندن يخبرهم بأنه اكتشف أن المصريين يقومون ببعض الترميمات في حصون الإسكندرية، وأنهم يركبون بطاريات جديدة تجاه بوارجه، وأن أحمد عرابي وزير الجهادية يعتزم سد بوغاز الإسكندرية لحصر البوارج الإنجليزية التي كانت راسية في الميناء.
أجابت القيادة الأميرالية الإنجليزية على برقية سيمور في 3 يوليو، وطلبت منه منع أي محاولة لسد بوغاز الإسكندية، ورخصت له بأن يطلب وقف الأعمال الجارية في الحصون وفي حال رفض عرابي فليدمرها بمدافعه.
ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الزعيم الثائر أحمد عرابي» أن الدلائل والبينات كشفت نية الحكومة البريطانية بضرب الإسكندرية واحتلال البلاد مهما كانت الأسباب والملابسات، وذلك قبل اختلاق حكايتهم عن ترميم الحصون.
وعرض الرافعي عددا من الشواهد التي تثبت نوايا الإنجليز:
* عرض السفير الإنجليزي في باريس على الحكومة الفرنسية الاشتراك في اتخاذ وسائل عاجلة لحماية قناة السويس حتى لو أدى الأمر إلى احتلالها، وهو ما رفضه رئيس الوزراء الفرنسي دي فريسينيه.
* إصرار ممثل إنجلترا في مؤتمر الآستانة على التدخل الحربي في مصر لقمع الثورة.
* هجرة الأوربيين المستمرة من مصر وخاصة الجالية الإنجليزية، لدرجة أن القنصلية البريطانية في الإسكندرية لم يبق فيها إلا كاتبان يسجلان أسماء الإنجليز الذين يرغبون في البقاء.
* اعتراف قائد الأسطول الإنجليزي في 6 يوليو أن أعمال الترميم التي كانت جارية توقفت ومع ذلك أصر على الضرب.
* تدبير مذبحة الإسكندرية لتبرير التدخل لحفظ الأمن.
* محاولة رشوة القبائل البدوية في صحراء سيناء قبل الغزو، من خلال المستشرق بالمر، ألا أنه فشل في مهمته إثر اغتياله على أيدي أحد أفراد تلك القبائل.
بريطانيا تتحرش بمصر
في 6 يوليو أرسل الأميرال سيمور إلى قومندان الإسكندرية طلبة عصمت بلاغا يطالبه فيه بالكف عن أعمال التحصين الجارية، فأجابه طلبة بأن قواته لم تضع أي مدفع جديد في الحصون ولم يجر فيها أي عمل جديد، فبعث سيمور بلاغا آخر يعلمه فيه أن الأخبار التي وصلته تؤكد أن هناك استعدادت حربية على واجهة الإسكندرية الشمالية وإن لم تتوقف تلك الأعمال فسيكون واجبا على الأسطول الإنجليزي تدمير المعدات الحربية المصرية.
مُجددًا، نفى طلبة باشا قيام القوات المصرية بأي أعمال عسكرية، فرد عليه سيمور بضرورة تسليم الحصون والبطاريات المنصوبة عليها في شبه جزيرة رأس التين والساحل الجنوبي، وإلا سيتم ضربها في صبيحة الغد 11 يوليو.
عقد الخديوي توفيق اجتماعا دعا إليه الوزراء وكبار رجال الدولة في سراي رأس التين ليستشيرهم في الموقف بعد وصول الإنذار الأخير، فاستقر رأي المجلس على رفض تسليم الحصون والبطاريات، وأرسلوا خطابا إلى الإنجليز يؤكدون فيه على أن الاستجابة لتلك المطالب فيها انتقاص من كرامة الدولة المصرية، «مصر الحريصة على حقوقها الساهرة وعلى شرفها، لا تستطيع أن تسلِّم أي مدفع ولا أي طابية دون أن تُكره على ذلك بحكم السلاح، فهي لذلك تحتج على بلاغكم الذي وجهتموه اليوم».
بعد تسلم الأميرال سيمور الرد المصري في ١٠ يوليو سنة ١٨٨٢، أصدر تعليماته إلى البوارج الإنجليزية كي تتخذ مواقفها بالضرب على الترتيب الذي وضعه. واتخذت البوارج موقفها على هذا النحو ليلة الضرب.
استدعى عرابي باشا في تلك الليلة الأميرالاي إسماعيل بك صبري قومندان حصون الإسكندرية، وكان عرابي وقتئذٍ في الترسانة بصحبة محمود باشا فهمي وطلبة باشا عصمت ومحمد باشا كامل وكيل نظارة البحرية، وأصدر تعليماته للقوات بأن تستعد ووزع على القادة مهام اليوم التالي.
وفي ليلة ١١ يوليو كانت البوارج الإنجليزية على أهبة القتال، أما الأسطول الفرنسي فقد انسحب إلى بورسعيد تنفيذًا لتعليمات حكومته، ولم يترك سوى سفينتين لم تعملا أو تشاركا في أي عمل حربي «هكذا ترك الفرنسيون الإنجليز وحدهم ينفردون بالضرب والقتال، ولو اشتركوا معهم لتغيَّر وجه المسألة المصرية، ولمَا استطاع الاحتلال الإنجليزي أن يثبِّت أقدامه في البلاد»، يضيف الرافعي.
مدافع الإنجليز تدك الإسكندرية
وفي الساعة السابعة من صبيحة يوم الثلاثاء ١١ يوليو سنة ١٨٨٢ أعطى الأميرال سيمور إشارة الضرب، فأطلقت البارجة «ألكسندرا» أول قنبلة على طابية الإسبتالية، وتلتها البوارج الأخرى، فأخذت تطلق قنابلها المدمرة على حصون المدينة وعلى المدينة ذاتها، ولم ترد القلاع على الضرب إلا بعد الطلقة الثالثة.
ووفقا لما ذكره الرافعي في كتابه «كان الضرب من جانب الأسطول الإنجليزي شديدًا مروعًا، فكانت قنابله محكمة المرمى شديدة الفتك، أما القلاع فكانت ضعيفة متراخية وسقط كثير منها في البحر دون أن تصل إلى البوارج الإنجليزية».
استمر الضرب من الساعة السابعة إلى الحادية عشرة، وكانت قذائف الإنجليز تلقي النار والدمار على المدينة في شدة مروعة، وسكتت السفن قليلًا ثم استأنفت الضرب وجاوبتها الحصون حتى الساعة الثانية بعد الظهر .
واستأنف الأسطول الضرب بعد الساعة الثانية واستمر يرسل قذائفه الهائلة في شدة حتى منتصف الساعة السادسة، أي قبل غروب الشمس بنحو ساعة، «ثم نزل الليل وقد سكتت الحصون فلن تجيب بعد، إذ قد دمرتها مدافع الأسطول تدميرًا، وتهدمت في المدينة أبنية كثيرة ومساكن واحترق بعضها، وقد هجرها كثير من أهلها منذ بدأ الضرب في هرولة ورعب».
ويقول المؤرخ محمود الخفيف في كتابه «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه»، إن من مواطن الفخر في هذه المعركة ما أظهره أهالي المدينة من حمية وبسالة في الدفاع عن مدينتهم، أما أحمد عرابي فيقول في مذكراته إنه «في أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء في خدمة المجاهدين ومساعدتهم في تقديم الذخائر الحربية وإعطائهم الماء وحمل الجرحى وتضميد جروحهم ونقلهم إلى المستشفيات». ويصف الشيخ محمد عبده المشهد قائلا: «تحت مطر الكلل ونيران المدافع كان الرجال والنساء من أهالي الإسكندرية هم الذين ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها وكانوا يغنون بلعن الأميرال ومن أرسله».
ويأسف عرابي في مذكراته على الحالة التي كانت عليها قواته وتجهيزاته «من الأسف أن قاذفات المدافع القديمة كانت لا تصل إلى السفن الإنجليزية، ومدافع الأرمسترنج لم تكن لها المساطر التي بها تعرف المسافات وتحكم الإصابة بواسطتها اللهم إلا مسطرة واحدة كانت في محل التعليم بالعباسية استحضرت ليلًا وسلمت إلى الشهم المقدم سيف النصر بك قومندان طابية الفنار فكان يطلق المدافع بنفسه وينتقل من محل إلى آخر ويحكم الإصابة بواسطة المسطرة المذكورة، فكانت معظم المدرعات التي تعطلت، من جراء المقذوفات التي أحكم إطلاقها، ولو كانت مدافع الأرمسترنج كلها ذات مساطر لأمكنها تعطيل المدرعات الإنجليزية بما تقذفه من القاذفات الصائبة».
أما عميد الجالية السويسرية في الإسكندرية جون نينيه فيصف بسالة القوات المصرية في تلك المعركة رغم قلة عددها وعتادها فيقول: «كان رجال المدفعية المصرية يطلقون قذائفها في إحكام وحماسة أدهشت خصومهم الذين ظل عملهم الجهنمي متواصلًا عشرة ساعات ونصف الساعة، دون أن يستطيعوا المباهاة بالنصر الحاسم، وكانت تغطي المدينة أثناء الضرب طبقات من الغبار والدخان وكان قصف المدافع يصم الآذان.. كنا حين تُبدد الرياح سحب الدخان نشاهد قذائف المدافع المصرية تسقط في البحر في منتصف المسافة بينها وبين سفن الأسطول، وقد أدى رماة مدافع أرمسترنج عملهم على خير ما يرجى وذلك على الرغم من أن مدافعهم كانت أقل عيارًا من مثيلاتها من المدافع الإنجليزية وقد أصابوا سبع مدرعات إصابات بعضها خطير وبعضها ضئيل».
عادت المدافع الإنجليزية تضرب المدينة في الساعة العاشرة من اليوم التالي وأرسلت قذائفها على طابية قايتباي وطابية الأسبتالية، وبدا أن القوات المصرية أنهكت بعد أن دكت الحصون وخارت القوى.
مصر ترفع «الراية البيضاء»
كان مجلس الوزراء قد اجتمع في اليوم الأول للضرب للنظر في الأمر برئاسة الخديوي وحضر الاجتماع عرابي باشا، وبعد أن تداول الوزراء والخديوي قرر المجلس الاتصال بالأميرال سيمور وإبلاغه أن ما كان يطلبه قد تحقق له بضرب الحصون فلا داعي بعد ذلك للضرب وانفض المجلس على أن ترفع في الغد «الراية البيضاء» وهي راية طلب الهدنة للمفاوضة.
ويقول الخفيف: رُفعت الراية البيضاء على بعض الحصون وعلى وزارة الحربية، فتوقف الضرب وذهب طلبة باشا يصحبه ترجمان فصعد إلى ظهر اليخت الخديوي «المحروسة» وهناك التقى بمندوب من قبل سيمور، فسأله عما يريد من رفع الراية البيضاء، فأبلغه طلبة قرار مجلس الوزراء، فأجاب المندوب في صلف وسماجة بأن الأميرال يطلب الترخيص له بإنزال جند من بحارة السفن لاحتلال ثلاث قلاع هي: العجمي، والدخيلة، والمكس، فإن لم يأته الرد في الساعة الثانية بعد الظهر استأنف الضرب.
وطلب عصمت باشا أن يطيل الأميرال ما تفضل به من مهلة؛ ليستطيع أن يبلغ الخديوي رده ويعود إليه، لكن سيمور رفض الطلب، واستأنف الضرب حتى المساء.
بلغ عدد الضحايا من المصريين في تلك المعركة غير المتوازنة نحو ألفين غير الجرحى، أما الإنجليز فلم يزد قتلاهم عن خمسة وجرحاهم عن تسعة عشر، وذكر عرابي أنه اُستشهد من رجال الطوابي وحدهم مائة رجل، وقُتلت امرأتان من المتطوعات كانتا تعنيان بالجرحى، ولم تزد خسائر الإنجليز على خمسة من القتلى وتسعة عشر جريحًا.
استقر رأي عرابي وصحبه على الانسحاب من الإسكندرية ثاني يوم الضرب، فأخذ الجيش يخليها يوم الأربعاء ١٢ يوليو، وفي مساء ذلك اليوم غادر عرابي بقواته ووصل إلى «حجر النواتية» على ترعة المحمودية بعد الغروب وقضى الليلة هناك، وفي الصباح ركب رفاصًا سار به في الترعة حتى وصل إلى «عزبة خورشيد» ومنها إلى «كنج عثمان» بالقرب من كفر الدوار، وهناك أمر بإنشاء الاستحكامات وهي التي اتخذها الجيش المصري معسكرًا له، وعُرفت بمعسكر كفر الدوار.
اتخذ عرابي عزبة «كنج عثمان» مقرًّا لقيادة الجيش، وفي صباح يوم ١٣ يوليو تحقق الأميرال سيمور من انسحاب العرابيين، وأنه لم يبقَ منهم أحد في المدينة، فأنزل كتيبة من جنوده البحارة واحتلوا سراي رأس التين وشبه جزيرة رأس التين.
المراجع:
كتاب «أحمد عرابي الزعيم الثائر» – عبد الرحمن الرافعي
كتاب «أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه» – محمود الخفيف
مذكرات أحمد عرابي