ربما يُعد جبار ياسين، الكاتب العراقي المقيم في فرنسا منذ ما يزيد عن أربعين عامًا، واحدًا من الأنقياء الطيبيين القلائل الذين لا يزالون يجعلون الحياة تحتفظ بمذاقها اللائق بها ونكهتها المرتجاة منها، مضيئين إياها بطيبتهم ومحبتهم للجميع. يعشق جبار ياسين العصافير حارصًا على أن يضع لها الطعام كل يوم، فيما ترافقه القطط التي لا يفكر في إزعاجها أبدًا، بل تشاركه الغرفة والفراش.
جبار ياسين الذي لم يقتل في حياته حشرة أبدًا، تمتليء مزرعته في الريف الفرنسي بأنواع الخضروات والورود والفواكه التي يهديها مجانًا وبكل محبة لأصدقائه ولمن يزورونه هناك. ذات مرة قال لي إن الإنسان الذي لا يناضل من أجل أخيه الإنسان لا يستحق الحياة، بل يساوي صفرًا. هو يعشق الناس، خاصة البسطاء منهم، ولا يدخر وسعًا في مساعدة أحد، دون أن يسأل من هو أو من يكون.
في كتابه ” كتاب الصداقات ” الصادر حديثًا عن دار بتانة للنشر والتوزيع بالقاهرة، يكتب جبار ياسين عن أصدقاء له من جنسيات مختلفة حتى يمكن أن نسمي كتابه هذا ” ملتقى جنسيات العالم ” وهو هنا يرسم بورتريهات مُحِبّة لهؤلاء الأصدقاء، مسلطًا زوم قلمه على الجوانب المشعة لديهم، على مواقف حياتية جمعته بهم. في مقدمته لكتابه هذا يقول إنه كتاب غير مُنجزٍ ولن يُنجز في حياة كاتبه، كتاب لم تكن له بداية لتكون له نهاية. الشكل يعطيه هذا الافتراض، فهو مرتب وفقًا للحروف الأبجدية العربية التي هي عذر لترتيب القراءة ” من الألف الفاتحة لكل خيال، حتى الياء التي لا تختتم الألف باء الكونية “.
أفعال حياة
أرقام الصفحات ليست سوى وهم شأن كل ترقيم، فالكتاب في أصله، في لحظة كتابته، أو بالأصح لحظات كتابته مجتمعة، لم يكن يبالي بترقيمٍ، وكل نص فيه كان من الممكن أن يكون كتابًا، وهو كذلك. فالحجم مظهر من مظاهر الكتاب، وليس له شئ من معانيه. الحجم هو التأويل الأسهل لكتاب، أو أي شئ آخر. خلف كل عبارة في هذه النصوص أفعال حياة وعواطف وطبيعة غير قابلة للرسم والوصف. لحظات وساعات وأيام الصداقة فيها شئ يفوق الوصف، تقترب منه الكتابة دون النفاذ إلى جوهرها. إنها الحياة بعينها، التي تقلدها فرشاة الرسام وريشة الكاتب. تقلدها ولن تستطيع خلقها أو إعطاء حياة مطلقة لها، بل وهم أو صورة بلاغية أو تفصيل يحيل إلى الأصل. آلهة الصداقة لم تكن في أي ملحمة من الملاحم القديمة. الأخيرة منغمرة في عداواتها وحروبها وصنع المكايد للبشر, الصداقة ابتكار إنساني خالص لا تعرفه كائنات الأعالي، وهي في اكتمال دائم شأنها شأن كل شئ أرضي.
هي في المقام الأول انكسار نور، رقة، انبهار بالآخر، ضعف شعري في شعرية الحياة، هشاشة جميلة تخفي صلادة، رقيقة مثل جناح فراشة، شيء خلاب لا يوصف بل يعاش. على المرء أن يعيشها ليدرك معناها، سعادتها، معراجها، جوانيتها، حزنها أيضًا.
أصدقاء الأصدقاء
هنا يتساءل الكاتب هل هناك من عبث في الصداقة؟ وهل تموت الصداقة كما تموت الأشياء الحية، ليكون للعبث سياق فيها؟ ويجيب قائلًا: أنا لا أجزم. أؤمن أن للأشياء خلودها المتواضع، على الأقل، في التاريخ الشخصي لكل كائن إنساني، كما يرى أننا لا نعرف متى تبدأ الصداقات بين البشر ولا نتوقع ونحن في عزها نهاية لها، بين أحضانها، كأغصان في شجرة الحياة الخالدة. نعرف أنها لن تنتهي وإن يُبست أحيانًا. لا نعرف متى تبدأ، ولا تنتهي إلا بالرحيل عن العالم. لكن صدى موسيقاها وبريقها يبقى أحيانًا في ذكريات الآخرين: أصدقاء الأصدقاء وأصدقاء أصدقاء الأصدقاء، في سلسلة أنساب ليس فيها رابطة للدم بل رابطة معنى.
أيضًا يذكر الكاتب أن مغامرة جلجامش هي صدى البحث عن الصديق الضائع في الزمن الضائع للإنسان، حيث يجرف تيار الزمن الوجود الشكلي للصداقة، صورتها بيومياتها، لكنه لن يمحو معناها الذي منذ لحظة بدايتها يجعل أسئلة الوجود ذات مغزى. كذلك يقول إنه قبل أن يقرأ ما كتبه مونتين بسنوات طويلة، أدرك بعفوية، شيئًا من فهمه للصداقة: الصداقة ليس لها هدف إلا ذاتها. إنها الشئ لذاته، فلسفيًّا. عاطفته مع أصدقاء طفولته، في المدرسة وخارجها، كانت على سجيتهم وسجيته الطفوليتين. لا تملك لا غيرة، لا فقر ولا غنى، لا ملبس ولا عري، كان يميزهم في قرارته. كان يصادقهم للجذل الذي كان يتملكه برفقتهم. شيء من إشباع نرجسيته برفقتهم كرفقة المرآة. شئ من معرفة للنفس، من نوع نادر، صورة لنفسه ولهم وللعالم الصغير حينها، العالم البرئ بالضرورة الذي تجترحه الطبيعة كل لحظة.
التجربة الفريدة
جبار ياسين يكتب هنا فيقول إننا نتزوج الصداقة قبل أن نتزوج النساء. الصداقة كشراكة في كل شئ بعقد واضح كما في رواية ألكسندر دوما الفرسان الثلاثة في قسمهم: واحد من أجل الكل، وكل من أجل واحد. شراكة في الحياة والقدر والمغامرة الكبرى في الوجود. إنها التجربة الفريدة في الحب الأفلاطوني، إن حالف الحظ من جرب هوى الصداقة.
الكاتب الذي يعلن هنا أن تجربة الحياة، في كل أرض وبلاد، تمضي بالبشر إلى وحدة طاعنة، إلى آمال ضائعة، ومن حالفه الحظ، تبقى جمرات من نار الصداقة تضيء أيامه بين حين وحين ناثرة دفئها في فضاء العمر، يكتب هنا عن إحدى وخمسين شخصية عربية ومصرية وعالمية معروفة، ينتمي معظمهم إلى عالم الأدب، منهم إبراهيم أصلان، إدجار موران، إبراهيم عبد المجيد، أدونيس، ألبرتو مانجويل، آسيا جبار، أمجد ناصر، تحرير السماوي، ماركيز، جواد الأسدي، صموئيل شمعون، صنع الله إبراهيم. كما يكتب عن أخيه حمزة الذي مات صغيرًا، عن أمه صبرية كامل، وعن زوجته سلفيان.
وفي الأخير أقول إن جبار ياسين كتب هنا في ” كتاب الصداقات ” عن كثيرين، محاولًا أن يعبر لهم عن محبته لهم، مخلدًا أسماءهم في ذاكرته هو أولًا وعلى صفحات كتابه هذا ثانيًا، لكنه نسي أن يكتب عن نفسه، عن جبار ياسين الذي أحب الجميع، كما أحبه كل من تعامل معه، أو ربما لم يشأ أن يجعل لنفسه مقالًا منفصلًا، لأنه كتب في كل مقال من مقالاته هذه جزءًا منه هو شخصيًّا.