اختارت الولايات المتحدة لنفسها في الأساس، أن تسيطر دون أن تغزو أوتحتل أقاليم ودون أن تورط نفسها فى إدارة شئون السكان الخاضعين للاحتلال، وما يترتب على ذلك من ثمن، طالما دفعته دول الاحتلال السابقة، بسبب استخدامها وسائل القوة الخشنة Hard Power من أسلحة وجيوش. فقد فضلت الولايات المتحدة عليها القوة الناعمة Soft Power، بربط الدول والشعوب بشبكة مصالحها وأفكارها ومؤسساتها . ولقد استندت لعبة القوة الناعمة فى حقيقة الأمر الى القوة الخشنة ،والتى تتوارى فى الظل ،وتضمن نجاح القوة الناعمة وقت الأزمات. فالظهور السافر للقوة الخشنة يستفز ويدعو للمقاومة ،وقد جربته الولايات المتحدة في حرب فيتنام ،والتي تعتبر علامة فارقة فى السياسة الخارجية الأمريكية ،لما سبًبه الإنفاق العسكرى الضخم من عجز فى الموازين الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية ،بعد أن كانت دولة الفائض التى تحوز نحو ثلثى ذهب العالم ،مع سقوط عدد كبير من القتلى والأسرى ، مما خلق ظاهرة سياسية أصبحت توصف بعقدة فيتنام Vietnam Syndrome ،وكانت تعنى عزوف الشعب الأمريكى عن التورط فى أى تدخلات عسكرية فى نزاعات العالم الثالث الداخلية ، والبحث عن حلول غير عسكرية للمشاكل السياسية ولتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية من جهة أخرى . [1]
من ناحية أخرى كان صندوق النقد الدولى يختص اساساً عند إنشائه باستقرار العملات الوطنية ودعم الخلل فى موازين المدفوعات بتمويلها بقروض قصيرة الأجل ،ويستهدف أوروبا واليابان. حتى لا تقوم تلك الدول بتخفيض أسعارعملاتها لدعم صادراتها ،ومن ثم الدخول في حروب تجارية فيما بينها ،والتي كانت من بين أسباب الحرب العالمية بينما يختص البنك الدولى اساسا بتقديم القروض لآجال أطول ،من أجل إعادة بناء اقتصادياتها التى خربتها الحرب. كما قام البنك الدولى فى الأساس لمساعدة أوربا فى إعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية ،دون اهتمام حقيقى بالتنمية فى الدول حديثة الاستقلال. ولكنه اتجه للاهتمام بالدول النامية بعد إقرار مشروع مارشال فى سياق الحرب الباردة .
في عام 1973 انتبهت أمريكا الى البترول ،سعياً وراء حل مشاكلها الاقتصادية ،بعد فشلها فى الحفاظ على الدولار كعملة رئيسية مسيطرة ، وكذلك اختلال توازن التجارة الخارجية الأمريكية ،ودعوة ديجول الى تحويل الدولار الأوروبي الى ذهب ،فخططت للتحكم الكامل فى أسعار البترول بالتعاون مع إيران والسعودية ،كوسيلة لضرب أوروبا واليابان مرة أخرى. وحيث كان النفط الرخيص الذي ينتجه الشرق الأوسط – والذى تستفيد منه في الأساس أوروبا واليابان – يؤدى الى إضعاف القدرة التنافسية للمنتجات الأمريكية أمام مثيلاتها الأوروبية .
أنهت الولايات المتحدة نظام سعر الصرف الثابت ،واتجهت نحو التعويم ، فغيرت بذلك وظيفة صندوق النقد الدولى الأساسية ، وبعد أقل من 3 سنوات من رفع أسعار البترول أصبح الصندوق والبنك مختصيْن بمنح الائتمان كليا لدول العالم الثالث ،ومع ان نصيبهما قد تراجع فى منح الائتمان لصالح بالبنوك التجارية الدولية النشاط ،التي تم التوسع فيها لتواكب المهمة الجديدة ،وهي تدوير المال النفطي وإغراء الدول النامية بالتوسع في الاقتراض ،إلا أن دورهما فى الإشراف على اقتصاد الدول النامية ،قد تزايد مع تطور المديونية الخارجية لها
وهكذا فتحت الأزمة النفطية أبواب العالم الثالث أمام الصندوق والبنك. فالتفاقم الحاد في العجز الخارجى للدول غيرالنفطية أوقعها في فخ الدين ،حيث ترتب عليه احتياجات تمويلية عاجلة. ومن الآليات التى أنشأها الصندوق عندئذ ،نظام تسهيلات التمويل الممتدة Extended Facility Fund على أساس أن تصحيح موازين المدفوعات لم يعد ظاهرة عابرة ،بل مشكلة متوسطة الأجل تستدعى تحديد إصلاحات اقتصادية كلية عميقة ،ومن ثم اختلطت الحدود بين الصندوق والبنك .
وأصبح هناك نموذج عام لبرامج الصندوق والبنك يدور حول ثلاثة محاور أساسية هي:
1 – محور خاص بإجراءات القضاء على العجز فى ميزان المدفوعات ويشمل: تخفيض القيمة الخارجية للعملة ،وتحرير الاستيراد من القيود .
2 – محور خاص بإجراءات مكافحة التضخم ،ويشمل: تقليل العجز بالموازنة العامة للدولة عن طريق تخفيض الإنفاق العام ،وزيادة الضرائب خصوصا ضريبة المبيعات والقيمة المضافة، ورفع أسعار الخدمات ،وإلغاء الدعم للسلع التموينية ، ورفع أسعار الفائدة ، وتقييد القروض الائتمانية .
3 – محور خاص بإجراءات تشجيع الاستثمار الأجنبى والخاص ويشمل: إعطاء مزايا ضريبية لنشاط رأس المال الأجنبى ، والعمل على إعطاء قوى السوق مزيدا من الحرية فى تخصيص الموارد .
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تصدر التضخم للعالم ،بسبب افراطها في طبع الدولار بعد إيقاف تحويل الدولار لذهب في أغسطس عام 1971 ،كانت تتخذ مزيدا من الإجراءت التدخلية في الاقتصاد لمكافحة التضخم. رغم أن أهم جانب من جوانب فلسفة الصندوق هو تحرير السوق، ورفض دعم الطاقة والتدخل الحكومي والتسعير، فتحلل لنفسها ما تحرمه على العالم وخاصة الدول النامية
لقد أصدر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تقريراً، أشرف عليه خمسة من الشخصيات الأمريكية الهامة، يحدد للإدارة العناصر الرئيسية لاستراتيجية أمريكية، من أجل تعزيز العلاقات مع مصر والتأثير في السلوك السياسي المصري من خلال أمرين هما: استعادة الروابط ، واستخدام نفوذ دول الخليج في التأثير على السياسات الاقتصادية في مصر وكما ورد بالتقرير بالنص.[2]
“We need to use the Gulf States’ influence to affect Egypt’s economic policies”
الأمر الأول حققت فيه مصر خطوات كبيرة لاستعادة استقلالها منذ ثورة 30 يونية . أما الأمر الثاني فهو خطر ماثل. ولكن ما هي السياسات الاقتصادية المعنية ،والتي يطلب من دول الخليج فرضها على مصر؟
هذه السياسات معروفة بإجماع واشنطون Washington Consensus والتي سبق وتم فرضها على دول العالم الثالث لإخضاعها للنظام الدولي الذي تسيطرعليه الولايات المتحدة ومجموعة السبعة. وهي السياسات التي أقرتها وزارة الخزانة الأمريكية مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي هما في حقيقة الأمرأدوات لتنفيذ السياسة الأمريكية ،كحدي كسارة بندق تقبض عليها اليد الأمريكية وتحشران بينهما الدولة التي تقع في فخ الدين ،ويؤكد ذلك ما ورد نصه في وثيقة السياسة Paper Policy التي الصادرة عن هيئة المعونة الأمريكية: “هناك حاجة في الحوارحول السياسة الاقتصادية الكلية مع الدول المتلقية للمساعدة أن يتم إجراؤها بواسطة المنظمات الدولية ،حيث يتحمل الصندوق والبنك عبء الإصرارعلى سياسات مزعجة وغيرشعبية ،كما أن طبيعتهما غير السياسية أقل حساسية من هيئة المعونة الأمريكية التي ينظر إليها على أنها مرتبطة بالسياسة الخارجية الأمريكية”.[3]
يقول ديك تشيني في مذكراته: كانت الفواتير الباهظة لتصميم ليندون جونسون على خوض الحرب في فيتنام وتمويل مجتمعه العظيم داخلياً، قد باتت مستحقة. فمعدل التضخم الذي كان يدور حول 1.5% في بداية الستينات قفز إلى 5% وتضاعفت معدلات البطالة لتبلغ 6%. وكان هناك تشريع يسمى قانون الاستقرار الاقتصادي يمكِّن رئيس الجمهورية من الامساك بزمام الاقتصاد عبر فرض القيود على الأسعار والأجور والريوع. بموجبه أعلن نيكسون في 15 أغسطس 1971 تجميد جميع الأجور والأسعار لمدة 90 يوما ،واستمر 3 سنوات ،حيث أنشا مجلس تكاليف المعيشة ويشمل لجنة الأسعار تتناول أسعار السلع والخدمات بالتفصيل ويشرف علي المجلس دونالد رامسفيلد ومن بين معاوينيه ديك تشيني. ومن بين الأسعار التي تصدى لها مجلس تكاليف المعيشة أسعار الطاقة. فالقيود على الصناعة النفطية ظلت منذ عام 71 إلى أن ألغاها ريجان عام1981.[4]
الهوامش
[1] – مايكل كلير: ما بعد عقدة فيتنام، اتجاهات التدخل الأمريكي في الثمانينيات، ترجمة محجوب عمر (بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1982) ص ص60-61
[2] – The Washington Institute for Near East Policy: Key Elements of a Strategy in the Middle East WASHINGTON 2015 . SAMUEL R. BERGER , STEPHEN J. HADLEY, JAMES F. JEFFERY, DENNES ROSS AND POBERT SATALOFF
[3] – A.I.D Policy Paper: Approaches to the Policy Dialogue, U.S Agency for International Development, Washington D.C, December 1982, p18.
[4] – ديك تشيني: في زماني، مذكرات شخصية، رجمة فاضل جتكر (بيروت: دار الكتاب العربي، مايو 2012) ص ص75 – 79