يحفل التاريخ البشري بشكل عام والإسلامي بشكل خاص بشخصيات غيَّرتها السلطة حين وصلت اليها وأمسكت بزمامها٫ فتحول الحجاج بن يوسف الثقفي من معلم قرآن إلى حاكم لا يتردد في قصف الحرم المكي و تحول الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من أحد فقهاء المدينة المنورة الى خليفة يمارس القتل حتى بحق من هم مقربون منه وبعض قومه.
وهذا التحول تحديداً هو ما يجعل شخصية السلطان المملوكي حسام الدين لاجين نموذجاً نادراً في تاريخ هذه الأمة٫ فقد حولته السلطة من شخص تبغضه العامة إلى سلطان محبوب٫ حيث تغير من العربدة الى الصلاح ومن ظلم الشعب أميراً الى التقرب منه سلطاناً.
من الضد إلى الضد
يُعد حسام الدين لاجين الحاكم الوحيد في تاريخ مصر الذي تمتد اصوله الى المانيا٫ او “جرمانيا” بلغة العصر المملوكي٫ بدأ حياته العملية مملوكاً في خدمة السلطان المنصور قلاوون واستطاع ان يثبت كفاءة في خدمة السلطان جعلته ذا حظوة عنده وجعلت السلطان يقلده منصب نائبه في بلاد الشام.
وهنا يبدأ التناقض في شخصية لاجين في البروز والظهور ٫ وهو تناقض سيستمر طيلة حياته بين رؤية المماليك له ورؤية العامة٫ ففي حين لم ير فيه أمراء المماليك سوى سكير عربيد ماجن٫ رأى فيه أهل الشام والياً عادلاً منصفاً.
ويمتد التناقض الى ما بعد وفاة السلطان قلاوون٫ ففي حين كان لاجين أحد الذين عاهدوا قلاوون على الولاء والوفاء لولده الأشرف خليل٫ فانه كان واحدا من الذين اغتالوا هذا السلطان الشاب.
وبعد سنوات من هذا الاغتيال يعود لاجين مرة أخرى لخدمة أسرة قلاوون من خلال ابنه الطفل الذي أجلسه أمراء المماليك على عرش السلطنة : الناصر محمد بن قلاوون.
إلا أن تناقض لاجين يتبدى مرة أخرى حين يتحالف مع الأمير كتبغا لخلع السلطان الطفل وتولي كتبغا منصب السلطنة ثم ينقلب على كتبغا ايضاً ويصبح هو سلطان مصر والشام والحجاز وفقاً لصفقة أبرمها مع أمراء المماليك.
هنا وهنا تحديداً٫ يبدأ التحول الأبرز في حياة لاجين٫ فالأمير المتقلب المتناقض يتحول إلى سلطان اصلاحي يقيم العدل ويُنصف العامة.
ويتبدى احترام لاجين للقضاة حين رفض قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد إصدار حكم لصالح نائب السلطنة المقرب من لاجين الأمير منكوتمر بل وخلع نفسه من منصبه احتجاجاً على هذا التدخل في أحكام القضاء٫ فيستدعيه لاجين ويسترضيه ويعيده إلى منصبه دون تنفيذ طلب النائب بطبيعة الحال.
وعلى صعيد آخر يعيد لاجين اولاد السلطان الظاهر بيبرس الذي أحبه الشعب إلى مصر من منفاهم ويطلق سراح الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة بعد أن فُرضت عليه إقامة جبرية ويسمح له بالنزول إلى القاهرة ويرمم مسجد احمد بن طولون الذي كان ذات يوم ملاذاً له.
ويغلب على سلوكه الزهد والتقشف في النفقات وفي الوقت ذاته يسعى لوقف الغلاء وتوفير السلع الأساسية للشعب ويلغي الضرائب المفروضة عليه واحدة تلو الاخرى ويخاطب العامة فيقول لهم: “لو عشت لما أبقيت مكساً” أي ضريبة مفروضة عليكم.
كان من الطبيعي أن يصبح لاجين بفضل هذه السياسة محبوباً من العامة ويصبح محور أحاديث الناس و بدلاً من الحديث عن سكره وعربدته السابقة يصبح الحديث عن مدى ورعه وصلاح أمره.
ويختلف المؤرخون في دوافع لاجين٫ ففي حين يرى البعض أن الهدف منها كان التقرب من العامة لا أكثر٫ يرى آخرون انها كانت صحوة ضمير لرجل قارب الخمسين من عمره وندم على ما اقترفه في شبابه وسعى للتكفير عنه.
وأياً كانت الدوافع٫ فإن الثابت أن لاجين وإن كان قد جنى حب الناس فقد جنى في الوقت ذاته سخط و غضب ونقمة أمراء المماليك وذلك بسبب تقريبه لتلميذه منكوتمر الذي صار
نائب السلطنة على حسابهم٫ وكذلك فان سياسة “الروك الحسامي” او قيام السلطان بقياس ومسح أراضي مصر لم تسفر سوى عن استئثار مماليكه المقربين بأجود الأراضي دون بقية الأمراء.
ليلة الرحيل
لكل ما سبق٫ أضمر الأمراء اغتيال لاجين ومن المدهش أن السلطان أحس بقرب أجله كما يورد المقريزي في قصة ذات دلالة: “واتفق ايضاً أنه في الليلة التي قُتل فيها لاجين ظهر في السماء نجم له ذنب يخيل لمن رآه أنه قد وصل إلى الأرض٫ فلما رآه لاجين تعجب به وعبس وقال لقاضي القضاة حسام الدين وهو معه “ترى ما يدل عليه هذا النجم” فقال “ما يكون الا الخير” فسكت لاجين ثم قال “يا قاضي …حديث كل قاتل مقتول صحيح” وتغير تغيراً زائداً٫ فشرع حسام الدين يبسطه ويطيب خاطره وهو يقول “انا لله وانا اليه راجعون” وجلس وكررها٫ فقُتل في مجلسه هذا”.
وبالفعل قُتل حسام الدين لاجين على يد الأميرين كرجي وتوغاي بعد أن أتم لاجين صلاته الأخيرة وكانت صلاة العشاء وبكاه الشعب الذي أحبه.
وطارد دم لاجين قاتليْه٫ فلقي كل من كرجي وتوغاي مصرعهما في معركة مع بقية أمراء المماليك٫ كما لم تدم سلطنة المتآمرين إذ سرعان ما عاد الناصر محمد الى كرسي السلطنة مرة أخرى.
المصادر:
وليد فكري- “دم المماليك”- الرواق للنشر والتوزيع- ٢٠١٦.
هاني حمزه- “مصر المملوكيه”- دار العين للنشر- ٢٠١٢