بقلم: د.هاني نسيرة، نقلًا عن موقع مركز تريندز
تأتى الذكرى العشرون على أحداث الحادي عشر من سبتمبر مختلفة عن ذي قبل، فقد عادت حركة طالبان المتطرفة لكابول قبل أسابيع فقط من ذكرى سقوطها عقب أحداث سبتمبر قبل عشرين عاما في أكتوبر عام 2001.
وليس اختلاف الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر الأكبر في تاريخ الإرهاب العالمي، لهذا السبب وحده ولكن لملامح ومتغيرات عديدة طرأت على المشهد العالمي، منها توقيع الاتفاق الأمريكي العراقي، في 26 يوليو/تموز العام الجاري، بإتمام انسحاب القوات الأمريكية بحلول نهاية هذا العام 30 ديسمبر سنة 2021، واستمرار الأزمات الإقليمية والوطنية والاقتصادية في عدد من المناطق العالم وغيرها
، مما قد يمثل مزيدا من الفرص للصعود للجماعات الجهادية في العالم.
باستحضار الذكرى العشرين، على العمليات الإرهابية الأكبر في تاريخ الإرهاب العالمي، في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، لعل من أول الملاحظات هو تراجع حضور أو غياب تأثير شبكة القاعدة، في مشهد الإرهاب العالمي، بعد أن كانت تنفرد بقيادته وإدارته تماما عند وقوع هذه الأحداث قبل عشرين عاما.
كما يمكن القول إنه قد اختلفت ملامح السنوات العشرين عن بعضها البعض، بل حسب هذه الورقة، يمكن تقسيمها لأربع محطات رئيسة، وبينما نجحت القاعدة خلال العقد الأول عبر فروعها التي تفرعت في مختلف أنحاء العالم منذ العام 2003 حتى العام 2011 في التأكيد على حضور الإرهاب- ممثلا في القاعدة وفروع شبكتها وحالتها- كفاعل غير رسمي مهم في الصراعات والعلاقات الدولية، بينما اختلفت ملامح العقد الثاني بالنسبة لجماعات الإرهاب والقاعدة كما سنوضح.
بعد عشرين عاما، عادت طالبان، وتحاول داعش وغيرها العودة، كما تحاولها كذلك بعض فروع القاعدة، ونشطت جماعات التطرف العنيف ذي السمت الدينية القطرية في عدد من أقطار المنطقة، وبخاصة سوريا وليبيا واليمن وتنشط في مصر وتونس من آن لآخر، كما حضر وصعد العنف على أساس ديني بين الأنظمة وجماعات الإسلام السياسي بعد سقوطها في مصر سنة 2013 أو في تونس أو جماعة أنصار الله في اليمن، وتحولات مفهومية جزئية في مفاهيم الإرهاب وكذلك في موقف الحرب الدولية عليه وموقف الدول المختلفة منه، مع تصاعد كياناته وتحوله لخلافات تهدد الدول الوطنية، أكثر منها العالم الخارجي، وعودة جزئية للعدو القريب بعد العدو البعيد، كما سنوضح.
في هذا السياق، تنطرح العديد من الأسئلة المهمة، ونحن نستقبل ذكرى مرور عقدين على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أولها عن جدوى الحرب على الإرهاب؟ وهل نجحت أم فشلت أم رواحت بين النجاح والفشل؟ وما تغيرات مشهد الإرهاب المعولم وصراع أيدولوجياته وأزمة رموزه وتنظيماته؟ وهو هل ستكون تجربة وعودة طالبان ملهمة لغيرها من جماعات التطرف والتطرف العنيف؟ وهل تمكن عودة داعش من جديد كما نجحت في العودة سابقا حين سقطت دولة العراق الإسلامية وعاصمتها الأنبار سنة 2007 ثم عادت ثانية سنة 2013 محمولة على سياسات التمييز الطائفي التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي وعلى التوحش الصاعد في سوريا منذ فبراير العام 2011.
هذه الأسئلة وغيرها ما سنحاول الإجابة عليه في هذه الورقة التي قسمناها لقسمين:
أولهما: عن مراحل أربعة لتطور الإرهاب العالمي في عشرين عاما.
وثانيهما: ملامح عشرة تسم وتحدد مشهد الإرهاب العالمي- ذي النسبة الإسلاموية- في الوضع الراهن.
وهو ما سنفصله في متن هذه الدراسة.
أولا: محطات أربع في مسار الإرهاب في عشرين عاما:
ربما من الضرورة، وضبطا للتناول، التفريق بين مراحل تطورات جماعات الإرهاب في العالم الإسلامي خلال عشرين عاما، ليس فقط بفعل الزمن وحركته، ولكن بفعل تطورها الذاتي والبنيوي وكذلك التطور التاريخي والسياقي، وهو ما يمكن تقسيمه للمراحل التالية:
1- عقد صعود الإرهاب وانتشاره تنظيميا وفكريا(2001-2011)
بتأسيس القاعدة سنة 1998 تبلورت أول شبكة للارهاب الإسلامي المعولم واستهداف المصالح الأمريكية وحلفائها في المنطقة والعالم، ورغم وجود عمليات للقاعدة قبل أحداث سبتمبر سنة 2001 إلا أنها مثلت فاصلا مختلفا، ربما حتى عام 2010، فترة صعود وفعالية الإرهاب المعولم والتركيز على العدو البعيد، ورغم خسارة القاعدة ملاذها الآمن المتمثل في حكومة طالبان حينها، إلا أنها نجحت في توسيع شبكتها وتأسيس عدد من الفروع في عدد من بلدان المنطقة والشرق الأوسط، فتأسس فرع القاعدة في جزيرة العرب سنة 2003 وتأسس فرعها في بلاد الرافدين سنة 2005 وكذلك فرعها في المغرب العربي سنة 2007 وغيرها، كما أطلقت عملياتها الكبيرة في العديد من العواصم الغربية، فاق عدد ضحاياها المئات من القتلى، مثل العملية الإرهابية في مدريد سنة 2004 وفي لندن سنة 2005 وغيرها[1].
في السـنوات الأولى، التـي تلـت هجمات الحادي عشر من سـبتمبر، واجه تنظيـم القاعدة ضغطاً شـديداً، إذ أجبرت قيادتـه على الفرار والاختفاء في أفغانسـتان – باكسـتان وإيران، وباتت وجهـة التنظيم الاستراتيجية مبهمة ، رغـم أن بـن لادن كان جاهزا بخطته لتطوير شـبكة موسـعة من الفروع لتنظيمه وخلايا في مختلف أنحاء العالم، استنفر تربتها المستعدة بما تلا الأحداث من غزو لأفغانستان سنة 2001 ثم العراق مارس سنة 2003[2].
وهكذا، لوحظ نشاط مدو للقاعدة، ولعولمة الإرهاب، وبدا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي الأكبر قبلها وبعدها للقاعدة، مثلت زخما وانتصارا ومصدرا للثقة لمختلف المجموعات والخلايا والأفكار الجهادية في العالم، بعد مضخات الثقة التي أنتجها الانتصار على الاتحاد السوفيتي قبلها، وهكذا كان الراحل أسامة بن لادن” قتل مايو سنة 2011م” دائم الذكر والاعتداد به، وغيره من قيادات القاعدة وفروعها، واعتبره فارس آل شويل الزهراني ( أبو جندل الأزدي أعدم في فبراير سنة 2014) في كتاب له أهم إنجازات أسامة بن لادن الذي اعتبره” مجدد الزمان وقاهر الأمريكان” في كتاب له بهذا العنوان[3].
ورغم سقوط ومقتل كثير من القادة المؤسسين لفروع القاعدة آواخر هذا العقد، مثل يوسف العييري مؤسس تنظيم القاعدة في السعودية، قتل في يونيو سنة 2003 ويزيد المقرن سنة 2004 أو أبي مصعب الزرقاوي سنة 2006 وكذلك نشاط الولايات المتحدة مع ولاية باراك أوباما الأولى والثانية في تنفيذ استراتيجية المطرقة الصلبة واصطياد القادة الكبار في التنظيم المركزي والفروع، حتى انتهت بمقتل أسامة بن لادن نفسه في 2 مايوسنة 2011، ولكن كان الغالب على هذه الفترة الصعود والاتساع واستمرار الخطر، واتساع الحضور الإعلامي، وأدوات التجنيد للقاعدة التي امتلكت فقط خلال الفترة الممتدة من العام 1998 إلى العام 2007 وجد أكثر من 5 آلاف من المواقع والمنابر وغرف المحادثة الإلكترونية التابعة للإرهابيين” ([4]) وهو ما كان يفاخر به أيمن الظواهري بقوله: ” : “من الواضح أن قوى الحملة الصليبية اليهودية قد ضاقت ذرعا بالإنترنت، الذين رجوا من إنشائه ان ينشروا به ثقافتهم وفجورهم، فإذا بالمجاهدين يقلبون عليهم الطاولة” ([5]) وهو ما انتبهت له دول العالم المختلفة ولأهمية مكافحته في العقد التالي، سواء تجاه القاعدة أو ما أعقبها من تنظيمات إرهابية كداعش، أو خلايا نائمة، ونشطت الحرب الدولية على الإرهاب في ساحات الشبكة العنكبوتية حتى تضاءلت مساحات حركتها وقدراتها على التجنيد بشكل واضح.
وكان أخطر ما في هذه المرحلة أن القاعدة نجحت في هذه المرحلة في التحول من تنظيم إلى شبكة وحالة، شبكة تشمل مجموعة من الفروع تدين بالولاء للقيادة المركزية، وحالة تقتفيها وتتبع خطاها جماعات متطرفة في إفريقيا وآسيا وأوروبا، تلهمهم ويدينون لها بالولاء، وأحيانا.
2- مرحلة وسيطة بين الانكماش والتوثب 2011: 2013: ويمكن التأريخ لبداية هذه الفترة بمقتل أسامة بن لادن في مايو سنة 2011، الذي لم يكن يمثل قائدا ورمزا لشبكة القاعدة فقط، ولكن أيضا رمز وحدتها و رابطة العقد بين جماعاتها وفروعها، وبعد وفاته ولطبيعة شخصية خليفته أيمن الظواهري(ولد عام 1957-
) السجالية والخلافية، ومع المستجدات على الساحة العربية والعالمية، تراجعت القاعدة بدءا من عام 2013 بعد خلع القاعدة في العراق والشام- داعش فيما بعد- لبيعته، ثم إعلان خلافتها في يونيو عام 2014 ليظل تراجع القاعدة وتقدم داعش لصدارة الجهاد العالمي، بعمليات تشمل العدو البعيد والقريب على السواء كما سنوضح في المرحلة التالية.
ونذكر أنه منذ نهايات العام 2010 وبدايات العام 2011 كانت قد انطلقت انتفاضات أو ثورات ما عرف بالربيع العربي، في خمس دول عربية على التوالي، تونس ثم مصر وسوريا وليبيا واليمن، وهي ما صنعت سياقات جديدة، في بدايتها توقفت القاعدة عن التدخل الظاهر فيها، ثم تحولت بعد عام إلى ربيع لما يعرف بالإسلام السياسي، السني والشيعي على السواء، والذي سريعا ما سقط، لتتم مرحلة جديدة بعدها عرفت بالربيع الداعشي حسب وصف البعض.
3- مرحلة داعش وتمكين الدولة والعدو القريب بعد عام 2013: في هذه المرحلة شهدنا تأزم القيادة المركزية للقاعدة وحصارها في مغارات أفغانستان وباكستان، واختفاء الظواهري فترات طويلة، وخسارة الدوائر القيادية المقربة منه ومن سلفه بن لادن، مما أضعف قدرة القاعدة تحديدا على عمل عمليات كبيرة كما كان في العقد السابق.
- وجه تقدم تمثل في نشاط بعض الفروع وحضورها خاصة بعد الانتفاضات العربية سنة 2011، وتصاعد الصراع على الدولة والسلطة، الذي مثل فرصة لجماعات التطرف، والتطرف العنيف، حتى في سياقات العسكرة كما كان في الحالة السورية واليمنيية والعراقية، وهو ما أعقبه وتحول صدارة المشهد الجهادي العالمي وقيادته لتنظيم الدولة ” داعش” التي تسعى للتمكين وتركز على إقامة” الدولة” عكس القاعدة التي تركز على الإنهاك والعمليات الاستنزافية، يبدو أنها أميل لاستهداف العدو القريب منها للتركيز على العدو البعيد، نتيجة تركيزها واصرارها على التمكين واستعادة دولتها وخلافتها كما شهدنا بين عامي 2014 و2017، ولا زالت تصارع من أجل استعادتها الثانية، وكذلك كثير من فروع جماعات الإرهاب العالمي، سواء فروع للقاعدة أو جماعات قطرية أو أخرى لداعش التي التحقت بها بعض فروع داعش كما أنشأت ونجحت في استلحاق مجموعات جديدة تابعة لها…
في هذه المحطة الأخيرة، تراجع حضور القاعدة بشكل كبير، واختفى أميرها أيمن الظواهري طويلا، حتى ذاعت الإشاعات عن وفاته، وزادت الخلافات معه وحوله، فهو شخصية سجالية لا تتمتع بكاريزمية سلفه الراحل أسامة بن لادن ولم يحصد الإجماع الذي حوله، ونظرا لتركيزها على العدو البعيد قبل القريب، وعدم مركزية مفهوم الدولة وغايتها عندها، باستثناء فرعها في العراق وبلاد الرافدين.
ومن هنا كانت الفرصة سانحة بعد 2011 وبعد انشقاق هذا الفرع، الذي صار تنظيم الدولة داعش، لتتقدم بعد إعلان خلافتها سنة 2014، لصدارة مشهد الإرهاب المعولم جماعة تنظيم الدولة ” داعش” المنشقة عنها، منذ العام 2013، وبعد أن أقامت خلافتها عام 2014، لتمثل أكبر خطر إرهابي عرفه العالم حسب وصف مؤتمر التحالف الدولي المنعقد في باريس في 20 يناير الماضي، أو ما قرره ممثلو 46 دولة في اجتماعهم الأخير في واشنطن العاصمة في 21 يوليو/تموز الماضي سنة 2016، والذي بحث- حسب المبعوث الرئاسي في الخارجية الأمريكية للتحالف الدولي ضد “داعش” بريت ماكغورك – أنه يسعى إلى ” إلحاق المزيد من الهزيمة بشبكات “داعش” ودعاياتهم عبر الانترنت ومصادرهم المالية والمقاتلين الأجانب ومراجعة مسار الحملة منذ البداية وحتى الوقت الراهن ووضع استراتيجية تعني بزيادة تسريع زوال هذا التنظيم”[6].
وقد كان للحرب الدولية على داعش تأثيرها الكبير على هذا التنظيم، تراجعا ثم اندحارا في معاقله، فمع تصاعد الحرب الدولية عليها، بقيادة الولايات المتحدة وعدد من دول العالم والمنطقة، فقدت معاقلها في سوريا والعراق سنة 2017 ، لكنها لا تزال تحاول العودة والتمكن من جديد في مناطق أخرى، في مقدمتها أفغانستان، التي قد تمثل التحدي الرئيس لطالبان بها، بعد سيطرتها عليها، وهو ما أكدته داعش في نشرتها النبأ في عدد صحيفة “النبأ” التابعة لتنظيم داعش والصادر بتاريخ 10 محرم 1443 الموافق 20 اغسطس سنة 2021، وكذلك في جنوب آسيا، وكذلك غرب إفريقيا.
4- المرحلة الرابعة والراهنة: ما بعد عودة طالبان:
وهي المرحلة التي تتشكل الآن، بعد عودة حركة طالبان لحكم افغانستان في 15 اغسطس وجلاء القوات الأمريكية في جدول زمني اكتمل في 31 اغسطس، وهو ما يعيد طرح الأمل الملهم للعديد من الحركات المتطرفة بالعودة للحكم بعد سقوطها، ويجدد هواجس الخطر من اتخاذ أفغانستان منطلقا جديدا لعمليات إرهابية تستهدف الولايات المتحدة والغرب، كما كان شأنها مع إيوائها قيادات القاعدة وانطلاق عمليات نيويورك منها في سبتمبر سنة 2001، وهو ما تعهدت حركة طالبان للولايات المتحدة بعدم حدوثه في اتفاق الدوحة في 22 فبراير سنة 2021، وللقوى الكبرى في جنوب آسيا، كالصين والهند وباكستان[7]، ولكن تظل المخاوف محتملة وممكنة حال التحولات والتغيرات في العلاقات.
ولكن يبقى الإلهام للحركات الإسلامية، وتهليلها على اختلافها بعودة طالبان، ربما باستثناء داعش التي تعلن باستمرار عن معاداتها للجماعة الأفغانية، وإمارة مؤمنيها التي تنافس خلافتها، يجعل الأمر مرشحا لصراع بين تنظيم الخلافة وتنظيم الإمارة الجديدة، ومرحلة اكبر من صراعات الإسلاميين كتلك التي عرفتها سوريا والعراق في بعض الفترات لا تبشر بطرح نموذج مختلف عن السابق وتزيد نموذج حكم الأصوليات مأزقا على مآزقه وبشاعة على بشاعاته السابقة[8].
ثانيا: حصاد الإرهاب في عشرين عاما، تنظيمات وعمليات:
بقى تحدي الإرهاب يتسع والشاغل الأكبر لكثير من دول العالم، ولكن عاد للتقدم تصور العدو القريب على العدو البعيد، ولكن في سياقات أكثر صعوبة ومجابهة خاصة بعد أن تصاعدت هذه اليقظة والحرب الدولية للحرب على الإرهاب، أمنيا وفكريا وإجماعا دوليا على تجفيفا لمنابع التمويل والأفكار وهزيمة دولة التطرف على الإنترنت، كما كان يصفها أيمن الظواهري.
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحتى صحوة داعش وقيامها عبر خلاياها الكثيرة بأوربا، بعمليات خطيرة وكبيرة في أوروبا وغيرها، فصنعت حماية مع الوقت للعدو البعيد، وتحديدا للولايات المتحدة الهدف الأول لها، التي لم تشهد اي عملية بهذا المستوى، أو قريبا منه، على مدار عقدين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإن تعرضت أوربا في ظل صدارة القاعدة خلال العقد الأول لعمليات إرهابية كبيرة يفوق عدد ضحاياها المئات من القتلى، في مدريد سنة 2004 وفي لندن سنة 2005، وفي ظل صدارة داعش كذلك كما شهدنا في أحداث ستاد باريس سنة 2013.
ولكن نؤكد أن عقدين من الزمن والحرب على الإرهاب، لم ينهيا حالة التطرف والتطرف العنيف، التي تظل تدير دوائر الخطر، على مختلف المستويات، فقد ظهر عقب أحداث سبتمبر سنة 2001، وعلى مدار العشرين عاما الماضية، عدد كبير من التنظيمات الإرهابية والفصائل الموالية لها، وتبدلت أشكال بين السلمية والعنفية للعديد من الجماعات الدينية والسياسية في الشرق الأوسط، فتوجه قطاع كبير من حركات الإسلام السياسي للعنف الديني أو تبريره والتحريض عليه، شأن جماعة الإخوان المسلمين وفروعها، وكذلك تحولت اتجاهات صوفية للعنف مثل جيش الطريقة النقشبندية في العراق بقيادة نائب الرئيس العراقي الأسبق عزت الدوري، والذي تأكد مقتله في 26 أكتوبر سنة 2020 [9] وظهرت حركات مسلحة تنتمي للسلفية الجامية في ليبيا كذلك توالى المتغلب في منطقته[10].
كما زاد الخطر بالخصوص، مع العودة لمفهوم العدو القريب وتصاعد التركيز على إقامة الدولة، واستهداف الأنظمة الحاكمة، ووضعت دول كثيرة في المنطقة والعالم قوائم متعددة لعدد من التنظيمات الإرهابية في مختلف ربوع العالم، بلغت حسب تصنيف وزارة الخارجية الامريكية 51 تنظيما منذ ديسمبر سنة 2001، وحتى الآن[11]، بينما وضعت هيئة “الأمن القومي الاسترالي” التابعة للحكومة الاسترالية قائمة تحتوي على أهم التنظيمات التي صنفتها إرهابية في عام 2002، وبلغت عدد 27 تنظيم إرهابي في مناطق متفرقة من العالم[12] وهناك قوائم أخرى لكثير من دول العالم تتفق في خطوطها الرئيسية.
أما بخصوص العمليات الإرهابية، فحسب مؤشر السلام العالمي لسنة 2021 فقد ظلت أربع دول شرق اوسطية في مقدمة الدول الاكثر ارهابا وعنفا، وهي افغانستان واليمن وسوريا وجنوب السودان طوال العام 2020 وحتى أبريل عام 2021، ولكن رغم تحسن الأوضاع نسبيا في الشرق الأوسط، وانخفاض حدة الصراعات قليلا، إلا أنها تظل الأكثر معاناة من الصراعات المسلحة والعنف بين مناطق العالم حسب المؤشر العالمي للسلام[13].
ولا يزال- حظ العالم العربي كبيرا من عمليات الإرهاب والعنف وعدم الاستقرار هي الأكبر، فقد تعرض خلال العقد الماضي لما يقرب من أربعة أخماس العمليات الإرهابية في العالم، أو ما لا يقل عن 78% من عملياته، بينما لم تشهد الدول الغربيةـ وغيرها أكثر من 21% من مجموع هذه العمليات منذ عامي 2000 و2003، وقد زاد معدل السلام والأمن فيها عام 2020 أيضا.
ولا شك أن هذا الخطر كان مع صحوة الإرهاب وأشكاله الجديدة بعد زلزال ما عرف بالثورات العربية عام 2011 ، حيث توفرت لجماعات العنف الديني- ولا تزال- سياقات صعوده وتوحشه وفرص تمكينه التي كان يسعى عليها، ونجحت تنظيمات الإرهاب المتحددة والمتوالدة في توفير ملاذات آمنة لها وإقامة إمارات وشبه دول خاصة بها في مناطق معينة، بين أجزائه.
ولفترة طويلة خلال العقد الأخير ظلت دولتان عربيتان( العراق وسوريا) من بين 163 بلدا يغطيها المؤشر العالمي للسلام، الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام الدولي (IEP) بالإضافة إلى ثلاثة دول مسلمة أخرى هي( أفغانستان- نيجيريا- باكستان- أفغانستان) الأكثر خسارة بين ضحايا الإرهاب في العالم، وأصابتها 78% من العمليات الإرهابية الأكثر خطورة الذي يزيد ضحاياه من القتلى عن 500 قتيل، ثم انضمت لها عام 2015 دولتان عربيتان آخرتان هما اليمن والصومال، وظلت اليمن والعراق وسوريا على الترتيب مع أفغانستان الأكثر عنفا في العالم خلال العام حتى أبريل 2021، بينما تظل كل من آيسلندا أولاً فالدنمارك والنمسا ونيوزيلندا فالبرتغال على رأس الدول الأكثر سلاما[14].
وقد كانت تكلفة الإرهاب العالمي العام هذا العام 2021 – حسب مؤشر الإرهاب العالمي- 14.96 تريليون دولار تقريبا، بمعدل 1.942 دولار للفرد، وما يوازي 11% تقريبا من الاقتصاد العالمي[15].
ونذكر أنه بين عامي 2002 و2019، بلغ عدد الهجمات الإرهابية التي وقعت في أماكن متفرقة من العالم بين عامي (2002 – 2019) 106120 هجمة متنوعة، كان توزعها على مناطق العالم المختلفة كما يلي:
- الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 37535 هجمة إرهابية.
- جنوب آسيا 37154 هجمة إرهابية.
- أفريقيا – جنوب الصحراء الكبرى 12567 هجمة إرهابية.
- آسيا والمحيط الهادئ 8685 هجمة إرهابية.
- أوروبا 4531 هجمة إرهابية.
- روسيا وأوراسيا 2522 هجمة إرهابية.
- أمريكا الجنوبية 2390 هجمة إرهابية.
- أمريكا الشمالية 514 هجمة إرهابية.
- أمريكا الوسطى والكاريبي 204 هجمة إرهابية [16].
ثالثا: عشرة ملامح للمشهد الجهادي العالمي:
يمكننا أن نرصد عشرة ملامح رئيسية تميز مشهد الإرهاب العالمي الراهن، بعد عشرين عاما على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نحددها فيما يلي:
الملمح الأول: عودة الجماعات الجهادية القطرية من طالبان إلى ليبيا وسوريا.
لعل أول ملمح يمكننا ملاحظته من تغيرات المشهد الجهادي العالمي، أو مشهد الإرهاب المعولم، هو عودة تقديم العدوالقريب على العدو البعيد، كما تأسست في البداية، وتحديدا تنظيم الجهاد المصري ووثيقته التي كتبها محمد عبد السلام فرج “الفريضة الغائبة” سنة 1979 بالتركيز على العدو القريب الذي يشير للأنظمة الحاكمة في البلدان العربية والمسلمة، قبل أمريكا وإسرائيل، وفق تصوره لأحكام الديار، و” أولوية الدار التي نعيش فيها” حسب تعبيره[17].
ولكن كان لنجاح الإمارة الطالبانية، ثم للظاهرة الزرقاوية، نسبة لأبي مصعب الزرقاوي المقتول سنة 2006، والتي أفرخت دولة العراق الإسلامية، ثم داعش فيما بعد، دورها في التمكين لمفهوم الدولة وأهمية استنزاف ومجابهة الأنظمة الحاكمة حتى سقوطها، وسياقات ما بعد الثورات العربية سنة 2011 وما وجد فيها المتطرفون- بمختلف أطيافهم- فرصهم للتمكين وإقامة الدولة، وتصاعد الصراع عليها، ورهانهم على الشعبوية وانجذاب الجماهير للخطاب الديني السياسي، وانفجار الصراعات في بلدان كثيرة، سقطت أو ترنحت أنظمتها فترة، مما فجر طموح التركيز على العدو القريب والعدو المخالف والمفاصل والمختلف، رغبة في السيادة المحتملة وتحقيق حلم الإمارة والتمكين للجماعات الجهادية القطرية التي تكاثرت وتحولت لمئات الميليشيات في بلد كليبيا وأكثر من 70 مجموعة جهادية في سوريا والعراق، في صراع محتدم على الدولة والتركيز عليها، أراح العدو البعيد، الذي صار أكثر يقظة للحرب الدولية على الإرهاب، لتكون مواطن هؤلاء الأكثر معاناة ومأساة من جرائمه.
ونود هنا أن نشير إلى أن الميليشيات الجهادية الشيعية، شأن جماعة الحوثي في اليمن، التي تخوض حربها السابعة ضد الشعب اليمني، تركز على مفهوم العدو القريب، وتركز على فكرة الدولة والتمكين بشكل واضح، ولا يحضر العدو البعيد والموت له إلا شعارا من شعاراتها[18].
الملمح الثاني: انتشار ظاهرة الانشقاقات وصراع الجهاديات:
يمكننا على مدار العشرين عاما الأخيرة، وخاصة في عقدها الثاني، رصد ملمح انتشار صراع الجهاديات أو الجماعات الإسلامية المقاتلة، وقتال بعضها بعضا، ورغم أن له سوابق في مرحلة ما بعد الجهاد الأفغاني، أو في مرحلة أخرى، ولكنه تصاعد خلال السنوات الماضية، بسبب نشاط الغلواء والتكفير للمخالف، حتى يمكن أن يضاف تصور العدو المخالف أو المختلف لتصوري العدو البعيد والقريب، ويمكن أن نضيف لذلك ثلاثة أسباب رئيسية أخرى كما يلي:
- بروز تنظيم الدولة الإسلامية” داعش” سنة 2013: وإعلانه خلافته الأممية وولاياته الخمسة والعشرين عامي 2014 وإصراره على طلب البيعة من آخريه، وصراع فروعه مع غيرهم من الجماعات للحصول على البيعة لهم.
- تصاعد الصراعات على التمكين: السلطة والدولة في بعض المناطق داخل الدولة الواحدة، بين الجماعات الجهادية المختلفة، مثل الصراع بين داعش وجبهة فتح الشام” النصرة سابقا” أو بين كليهما وفصائل أخرى كفتح الدين زنكي أو حراس الدين في سوريا، وهو ما وجدنا شبيها له في ليبيا بين عشرات الجماعات المقاتلة الإسلامية المسلحة، كتائب الإخوان والبنيان المرصوص التي انطلقت في يونيو سنة 2015، ونجحت في تقليص نفوذ داعش والقضاء على معقله في سرت بعد ذلك.
- تصاعد ظاهرة الانشقاقات والتخوين ثم نزع الشرعية:
فقد نشطت الانشقاقات في الجماعات الجهادية خلال العقد الأخير، وتحاربت تنظيماتها الأصلية والفرعية فيما بعد، كما حدث بانشقاق داعش عن القاعدة سنة 2013، ثم صراعها مع النصرة، والمنشقون عن كليهما فيما بعد.[19]، وما حدث من انشقاق داخل جماعة بوكو حرام، حيث انقسمت إلى فصيلين داخلها أحدهما تابع للقاعدة يقوده أبو بكر شيكاو والآخر مبايع لداعش منذ مارس 2015 يقوده أبو مصعب البرناوي، ونجحا لفترة في التعايش، عبر تبادل الأدوار ومعادلة عدم الاعتداء؛ وهو ما لم يدم طويلا، حيث خطط تنظيم داعش جيدا للخلاص من أجل توحيد راية حركة بوكو حرام تحت لوائه، وتم اختراق الدائرة المحيطة بشيكاو، وصولا لاستسلامه الذي ترتب على استسلام حراسه الشخصيين أولا، عندما سلموا أنفسهم لمقاتلي داعش، وترتب على ذلك أن فجر شيكاو نفسه في نهاية المطاف في 19 مايو 2021 بحزام ناسف رافضا ترك الإمارة ومبايعة داعش في نيجيريا[20].
ولعل هذا ما ينتظر بعد سيطرة طالبان على أفغانستان في اغسطس سنة 2021، حيث تتحفز داعش للمواجهة مع الاخيرة، وقد صرحت بموقفها بوضوح في مقال بنشرة النبأ وصفت فيه ما حدث بأنه ليس اكثر من استبدال طاغوت بطاغوت آخر، أو “طاغوت حليق بآخر ملتح” حسب وصفها، وأنهم فقط أتوا بالملا برادلي التابع لهم، في سخرية من الملا عبد الغني برادار[21].
الملمح الثالث: اشتداد الصراع الطائفي الجهادي.
توفر الطائفية وقودا مشتعلا لكثير من الجماعات الدينية المسلحة، وقد وجدت فيه داعش ومهدها العراقي تربة خصبة لبزوغها وصعودها الثاني عام 2013 مع سياسات التمييز الطائفي التي مارستها حكومة نوري المالكي، وكذلك وجدت فيه النصرات والمقاتلون الاجانب تبريرها ردا على مساندة حزب الله والميليشيات الشيعية لنظام بشار الأسد عقب الثورة السورية في مارس سنة 2011، ويعد الرهان على الاحتقان الطائفي والتنصيص عليه فارقا مهما بين داعش والقاعدة، حيث تجعله الأولى أولوية وضرورة، وقد تهادن فيه الثانية.
ونظرا للسياقات الطائفية، ونشاط ميليشيات جهادية شيعية، مدعومة من نظام الثورة الإسلامية والولي الفقيه في إيران، ونشاطها في عديد من الدول والمجتمعات المسلمة واستهدافها، كان تصاعد حضور الصراع الطائفي الجهادي بين الجماعات السنية والشيعية المسلحة على السواء،
وكانت سوريا والعراق واليمن، وكذلك أفغانستان وباكستان، حالة ماثلة دالة على هذا الملمح المهم، ولعل من تحديات حركة طالبان القادمة الموقف من لواء فاطميون والهزارا الشيعية في افغانستان، وهو الامر الذي تحاول داعش كذلك العودة من خلاله في العراق وسوريا وبعض المناطق الاخرى.
وفي السياق نفسه ، يمكننا تفهم رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في 6 يناير 2021، “الهند بالتحريض على الإرهاب الطائفي في بلاده”، وذلك على إثر مقتل 11 عاملا من شيعة الهزارة بإقليم بلوشستان جنوب غربي باكستان على أيدي مسلحين من تنظيم داعش الذي يتغذى في نشاطه الإرهابي على الطائفية الدينية كوقود لأجندته وعملياته الإرهابية.[22]
الملمح الرابع: اختفاء مسألة المراجعات والازمة النظرية:
بينما شغلت مسألة المراجعات عن السلفية الجهادية وعن فكرة الجهاد والانقلاب المسلح القاعدة وغيرها في العقد الأول بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مثل مراجعات الدكتور فضل أو عبد القادر بن عبد العزيز منظر الجهاد المصري المعروف سنة 2008 و2009 ومراجعات جزئية سطرها أمثال الأردني أبي محمد المقدسي، وكذلك أبو قتادة الفلسطيني، وقبلهم مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية على مدار عشر سنوات بين عامي 1997 حتى عام 2007 إلا أن هذه المراجعات لم تعد ذات حضور ولا تأثير، ويبدو أنه قد انتصرت مقولة أيمن الظواهري في رسالته التبرئة أنه لا يكون الحكم إلا في الميدان، في مختلف الحركات الجهادية، وتراجع دور المنظرين الكبار من مؤسسي تيار السلفية الجهادية، وصارت الأزمة البنيوية والتنظيمية وإجهاد الحرب المتبادلة أهم من عملية النقد الذاتي أو الانتقاد الخارجي لدى مختلف هذه الجماعات[23].
وليس غياب مسألة المراجعات أو تأثيرها العلامة الوحيدة على الأزمة النظرية التي تواجهها تنظيمات التطرف العنيف المختلفة والمستجدة، ولكن فعالية الحرب الدولية على التحريض والترويج الإليكتروني عبر منابرها الإعلامية المختلفة، وأزمة رموزها، واستغراقها في حروب الأعداء القريبين والمخالفين والبعيدين، أنتج ندرة في إنتاج أدبيات جديدة وأدبيات جديدة كتلك التي شهدناها مع تيار السلفية الجهادية مع ولادته وانتشاره في السنوات الأولى من عقد التسعينيات من القرن الماضي[24].
الملمح الخامس: تحولات عنفية جديدة ( حركة الإخوان المسلمين في مصر وليبيا):
كان لسقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 2013 بعد حراك 30 يونيو، وما تبعه من أحداث مبررا لدى الجماعة في أن تنحو منحى العنف، وأن تعلن بعض أجنحتها تبنيه صراحة في مصر، بل دعى يوسف القرضاوي في 31 يونيو سنة 2013 لإعلان الجهاد في مصر، وظهرت مجموعات أصغر منسوبة للجماعة تقوم بعمليات نوعية لاستهداف الدولة والنظام المصري مثل حركتي حسم والثورة الشعبية، بينما توجه بعض أفرادها للتحالف مع ولاية داعش في سيناء..ويزاوج خطاب الجماعة بين السياسة والعنف، في خلط جديد يزيد زخم العنف والإرهاب الديني والطائفي، ويعطي تبريراته للمزيد من الطلب على الدولة والقوة الأمنية.
وقد كان الأمر كذلك في ليبيا التي رفضت جماعة الإخوان بها القبول بنتائج الانتخابات النيابية التي خسرتها سنة 2015، وتوجهت للعنف ضد منافسيها والتحصن بالعاصمة طرابلس، ولا تزال تدافع عن قراراتها وتوجهاتها بمنطق القوة والمجابهة رغم مزجها لكل ذلك باللغة السياسية، مما دفع كثيرا من الدول في المنطقة لتصنيفها كجماعات إرهابية.
الملمح السادس: توظيف بعض الدول للإرهاب:
من المتغيرات التي شهدتها السنوات القليلة الماضية، هو توظيف جماعات الإرهاب والعنف الديني من قبل بعض الدول، كأوراق ضغط على خصومها، وكذلك لتنفيذ أجنداتها الخارجية، وقد كانت إيران وحدها في هذا السياق، وتنفرد بهذا الاتهام فترة من الزمن، ولكن دخلت دول أخرى مثل تركيا وقطر على نفس المنوال، وكانت راعية ومشجعة لجماعات مسلحة في مصر وليبيا واليمن، قبل تحولها في العلاقات مع مصر والسعودية في العام الأخير، كما احتفظت بعلاقات قوية ببعض الجماعات المصنفة إرهابية مثل جبهة النصرة التي تحولت لهيئة تحرير الشام فيما بعد، ووظفتها تركيا في معركتها ضد القوات الكردية وحركة قسد” قوات سوريا الديمقراطية” وهو المتغير المهم الذي زاد من صعوبة هذه الجماعات ووفر لها دعما وخطورة كان يفتقدها- خاصة في شكله السني- في السابق، وهو ما سبق أن التزمته إيران في دعم وتمويل الجماعات المسلحة الشيعية في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
ومن الأمثلة الواضحات على ذلك الملمح، اتهامات أوربية بتوظيف تركيا لعدد من المنظمات المدنية والدينية التابعة لها في أوروبا لنشر الأيدلوجية الإرهابية المتطرفة، إذ نوه عن ذلك الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حين أعلن عن تواجد خلايا تعبث بالأمن الأوروبي، وتسعى لتهديد أمن الدول الأوروبية من خلال نشر بؤر شديدة التطرف عبر القارة الأوروبية. ومن أمثلة المنظمات التركية التي تقوم بتلك الوظيفة “اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين” وهو أكبر شبكة ضغط في الخارج تتبع أيضا حزب العدالة والتنمية الحاكم، يعتمد علي الدعاية لنشر الإيدولوجية المتطرفة في إشارة للفكر الإخواني المتطرف ويوجد مقره الرئيسي في مدينة كولن الألمانية، ولديه فروع في فرنسا وبلجيكا والنمسا وهولندا. ويعمل على الضغط من أجل الأهداف السياسية لحكومة «أردوغان» تجاه هذه الدول الأوروبية، وفي الوقت نفسه لإقناع الأتراك الذين يعيشون في أوروبا بدعم هذه الأهداف.[25]
الملمح السابع: أزمة سقوط يوتوبيا الإسلاميين:
رغم الحضور الكبير للجماعات الجهادية في بؤر التوحش المختلفة، وعودة حركة مثل طالبان، وتأثير أخرى كداعش وفروعها في الغرب الافريقي وافغانستان وغيرها، والزخم الذي أخذته هذه الجماعات بعد يونيو سنة 2013 بانتهاء ربيع الإسلاميين والغضب الذي امتلكها بعد انتهاء ربيع داعش سنتي 2017 و2018 إلا أنها تواجه أزمة سقوط تجربتها ونفور الناس منها في المناطق التي حكمها التطرف في مصر أو في تونس أو في سوريا أو في العراق، على اختلافها، مما جعلها تواجه دائما أسباب فشلها وعجزها عن تحقيق أي من وعودها الدنيوية أو الدينية..
سقطت دابق التي جعلتها داعش اسما لمجلتها بالانجليزية، والتي بشرت عبرها بمعركة آخر الزمان، وجذبت عبر لغتها عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب من مختلف أنحاء العالم، كما سقطت خلافة آخر الزمان التي بشروا بها، وكذلك سقط حكم الاخوان المسلمين سنة 2013 بعد أن اختبره المصريون وعرفوه وأداءه وتأثيره عليهم، وكذلك تجربة طالبان في السابق قبل العودة، مما يضع هذه الجماعات- على اختلاف درجاتها- أمام تحدي الدفاع عن تجربتها التي لم تعد جذابة لعموم الناس ممن كانوا ينجذبون إليها أو يتعاطفون مع خطابها أو مظلوميتها في السابق.
الملمح الثامن: دخول بعض الحركات الصوفية والجامية الساحة الجهادية (في ليبيا والصومال)
ورغم وجود سوابق في فترات سابقة لبعض الجماعات الصوفية المسلحة، سواء في
إفريقيا أو آٍسيا، أو ما تحول منها لحركات مهدوية وخليفاتية، في المغرب والسودان وليبيا، أو في مواجهة الاستعمار في الهند وباكستان، إلا أن وجودها كحركات في مواجهة حركات التطرف السلفي الجهادي أو في مواجهة الاستعمار يعد ملمحا جديدا في مشهد العنف الديني في العقدين الأخيرين.
ففي سياقات التوحش والفوضى الوطنية، نشاط حركات جهادية دينية من خلفية غير السلفية الجهادية، ونذكر من ذلك نشاط وظهور ما عرف بجيش الطريقة النقشبندية في العراق، بقيادة عزة الدوري الذي تأكد مقتله في اكتوبر سنة 2020 وكان هناك تحالف بين جيش الطريقة النقشبندية وداعش عند دخول الموصل سنة 2014 [26]، وكذلك هناك جماعة أهل السنة والجماعة في الصومال التي تتحالف مع الحكومة في مواجهة حركة شباب المجاهدين وغيرها[27].
كما نشطت السلفية الجامية- غير الجهادية- في ليبيا وكانت الفاعل الرئيس في طرابلس لبعض الوقت، كما نش ط بعضها الآخر، في ولاء خصومه، وهو ملمح جديد لم يعرفه المشهد الجهادي الحديث قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر ولم تعرفه في عشر سنوات بعدها.
الملمح التاسع: استراتيجية المطرقة الصلبة وأزمة الرمز الجهادي:
تراهن التنظيمات المتطرفة من قديم على هالة الرمز وصناعة الهالة، وقد وعت القاعدة في العراق بعد رحيل أبي مصعب الزرقاوي سنة 2006 ثم ابو عمر البغدادي ونائبه ابو حمزة المهاجر سنة 2010 لخطورة غياب الرمز وأزمة صناعة رمز لها، كما وضحت في وثيقتها التي صدرت في العام نفسه.
وقد كان لاستراتيجية المطرقة الصلبة، والتوسع في استهداف قيادات التنظيمات المتطرفة، من مصطفى ابو اليزيد المسؤول المالي لداعش سنة 2008 وصولا لأسامة بن لادن وأبي يحيي الليبي سنة 2011 حتى الملا عمر سنة 2013 وأبي بكر البغدادي سنة 2019 وقاسم الريمي سنة 2020 وغيرهم كثير، تأثيراتها الكبيرة على تنظيمات الإرهاب المعولم والقطري، وظهور جيل جديد يعاني من أزمة الرمز والتأثير والرابط، وزاد الحس الأمني وتكتيك الاختفاء والحذر الشديد عند من بقي منهم مثل أيمن الظواهري زعيم القاعدة أو إبراهيم القرشي خليفة أبي بكر البغدادي، وأضعف قنوات الاتصال بين القيادات المركزية والفروع ، لتبقى أزمة الرمز قائمة لدى هذه التنظيمات المختلفة، ولدى غيرها كذلك في ظل يقظة دولية ودولتية على الحرب على الارهاب واعتبار التحريض عليه ارهابا كذلك في مختلف انحاء العالم.
الملمح العاشر: يقظة دولية في تجفيف روافد الإرهاب:
باستثناء بعض سياقات التوحش وأزمة الدولة الوطنية شهد العالم في العقد الأخير صحوة دولية في الحرب على الإرهاب وتجفيف روافده
، الفكرية والإعلامية والتمويلية والأمنية، بشكل واضح، مما وضع جماعات الإرهاب المختلفة في أزمة حقيقية على مستويات عدة،
أهمها فقدانه لحساباته ومواقعه على الشبكة العنكبوتية، وتتبعها باستمرار، بعد أن كان ينشط بمختلف اللغات وبالآلاف من الحسابات التفاعلية والمواقع الشبكية ناشرا لكتاباته وآرائه بشكل واضح، يصل اليها العادي كما يصل اليها المتخصص والمراقب، ولكن غدا الأمر صعبا وصارت التنظيمات الفرعية تشكو من غياب القيادة، وشكوى بعض فروع القاعدة من غيبة الظواهري معروفة، وعدم قدرته على الظهور لرثاء قادة ورفقاء من الجيل الأول للتنظيم مثل أبي محمد المصري الذي قتل في ايران سنة 2020 أو قائد القاعدة في اليمن قاسم الريمي الذي قتل في فبراير سنة 2020، بعد أن كان يظهر أسبوعيا في لقاء مفتوح على موقع يوتيوب سنة 2008، وهو ما يمكن ان نقوله أيضا عن قادة داعش الحاليين عن الظهور، يزيد من أزمة هذه التنظيمات التي كان الإعلام في السابق علامة حياتها.
على سبيل الخاتمة: وتبقى الاحتمالات مفتوحة في مشهد التطرف العالمي..
كانت العشرون عاما الماضية على وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي تعد أكبر عمليات إرهابية عرفها العالم في القرن العشرين، مخاضا لكثير من التغيرات والنتائج الفكرية والواقعية، ليس فقط في السياقات الدولية والاقليمية، ولكن على بنية الإرهاب وواقع تنظيماته كذلك، وطموحاته وعودته لمفهومه في تقديم العدو القريب على العدو البعيد، أي الدول والانظمة والجماعات المسلمة على الغرب والولايات المتحدة، أو صعود مفهوم العدو المخالف مع صعود الاسلاميين..وكذلك تحمل الاصوليات العنيفة عبء تجاربها وفشلها وممارساتها السابقة، وبينما تبدو عودة طالبان ملهما استبشروا به يبدو المتوقع مزيدا من السقوط في اختبار التجربة كذلك…ولكن تبقى ازمة الواقع والبدائل طلبا عليها كذلك.
الحواشي:
[1] انظر في ذلك: هاني نسيره، القاعدة… لماذا كان العنف والإرهاب المعولم خيار التنظيم؟، منشور على موقع اندبندنت عربية بتاريخ 11 سبتمبر سنة 2019، يمكن الاطلاع عليه على هذا الرابط
1 انظر حول ذلك “التنافس الجهادي: الدولة الإسلامية تتحدى تنظيم القاعدة”، دراسة تحليلة صادرة عن مركز بروكينجز الدوحة بتاريخ 16 يناير، ص7، 2016، يمكن مطالعتها على الرابط التالي:
https://www.brookings.edu/wp-content/uploads/2016/07/ar-jihadi-rivalry.pdf
([4]) A. Bandura, “Moral Disengagement in the Perpetration of Inhumanities,” Personality and Social Psychology Review (special issue on evil and violence), vol. 3 (1999): pp. 193ــ209; A. Bandura, “Selective Moral Disengagement in the Exercise of Moral Agency,” Journal of Moral Education, vol. 31, no. 2 (2002): pp. 101ــ119; and A. Bandura, “The Role of Selective Moral Disengagement in Terrorism and Counterterrorism,” in F. M. Moghaddam and A. J. Marsella (eds), Understanding Terrorism: Psychological Roots, Consequences and Interventions (Washington, D.C.: American Psycholoــgical Association, 2004), pp 121ــ150.
([5]) أيمن الظواهري، “التبرئة”، أيمن الظواهري، “التبرئة رسالة في تبرئة أمة القلم والسيف من منقصة تهمة الخور والضعف”، نشر شبكة السحاب، يناير سنة 2008 ، ص. 57.
[6] الوكالات في 20 يوليو سنة 2016.
[7] انظر تقرير لسكاي نيوز، هل تنجح سياسة طالبان في افغانستان بطمأنة القوى العالمية، سكاي نيوز في 20 يوليو سنة 2021 يمكن مطالعته على هذا الرابط
[8] انظر هاني نسيره، المعركة المنتظرة في افغانستان بين خلافة داعش وإمارة طالبان، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، بتاريخ 28 اغسطس سنة 2021 على هذا الرابط
[9] وكالات الأنباء في 26 اكتوبر سنة 2020 يمكن مراجعة هذا الرابط على موقع دويتشة فيللا عربي بالنقر هنا
[10] انظر احمد الشوربجي، السلفية المدخلية في ليبيا، القيادات والرموز وعلاقتها بخليفة حفتر، موقع آمان بتاريخ 5 يناير سنة 2018 على هذا الرابط
[11] يمكن مراجعة قائمة التنظيمات المصنفة ارهابية لدى الولايات المتحدة بالنقر على هذا الرابط.
[12] يمكن مراجعة قائمة التنظيمات المصنفة ارهابية في استراليا على هذا الرابط
[13]Institute for economics and Peace( IEP), Global Terrorism Index: Measuring and Understanding the Impact of Terroris, https://www.economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2021/06/GPI-2021-web.pdf p.4
[14] Institute for economics and Peace( IEP), Global Terrorism Index: Measuring and Understanding the Impact of Terrorism, IBID p 3
[15] IBID.
[16] يمكن مراجعة هذا الرابط: https://www.statista.com/statistics/489581/terrorist-attacks-by-region/
[17] انظر محمد عبد السلام فرج، الفريضة الغائبة، طبعة اليكترونية، منشورة على موقع مكتبة نور على هذا الرابط، ص 9.
[18] انظر حول ذلك، هاني نسيره، الفوارق بين الجماعات المقاتلة السنية والشيعية، جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 9 يناير سنة 2017، على هذا الرابط
[19] الصراع بين الجهاديين وولادة حرّاس الدين، مقال موقع CHATHAM HOUSE، متاح على هذا الرابط
[20] عن مقتل أبي بكر شيكاو انظر موقع بي بي سي على هذا الرابط
[21] انظر في ذلك افتتاحية عدد نشرة النبأ بتاريخ 10 محرم سنة 1443 هجرية، الموافق 20 أغسطس سنة 2021 ص 3
18 وكالة أنباء الأناضول بتاريخ 6 يناير 2021، يمكن مراجعته على الرابط التالي:
[23] انظر حول المراجعات، هاني نسيره، القاعدة والسلفية الجهادية: الروافد الفكرية وحدود المراجعات، ط1 مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، كراسات استراتيجية، السنة الثامنة عشرة ــ العدد رقم 188 ــ يونيو 2008
[24] المصدر السابق نفسه.
20 انظر حول ذلك بسمة فايد، دعم التطرف في أوروبا والدور التركي، مركز أسبار الشرق الأوسط بتاريخ 1 سبتمبر 2021، يمكن مطالعته على الرابط التالي: https://asbarme.com/4936/?fbclid=IwAR1ownljVaaIsayxiXIavmwg8GmvIaUnUVMgHykPT5SvtSGqptVPYnm9Y3Q
[26] انظر حول ذلك أحمد الهاشمي، التصوف المسلح: من المسبحة إلى الزناد، موقع إضاءات بتاريخ 22 اكتوبر سنة 2016، يمكن مطالعته على هذا الرابط
[27] انظر حول ذلك تقرير موقع أمان، نرصد أهم التنظيمات الصوفية المسلحة حول العالم، منشور بتاريخ 28 يناير سنة 2018، تمكن مطالعته على هذا الرابط