تعد الصحف والمجالات التي صدرت في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مصدرًا من مصادر التأريخ، كما أنه بين جنباتها الكثير الكنوز الأدبية لأساطين الثقافة والفكر في مصر، لم تحوها كتب رغم أهميتها الكبيرة منتظرة من ينقب عنها، تتنوع ما بين الراوية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والمقامات والمقالات تكشف عن حياة ثقافية زاخرة، فمنها في عام 2017 تم الكشف عن رواية مجهولة لطه حسين بعد أكثر من مائة عام من نشرها، حيث نشرت منجمة _أي في حلقات_ على صفحات مجلة «السفور» الليبرالية، وكان وقتها عميد الأدب العربي طالبا بالبعثة المصرية في فرنسا.
وفي هذا الصدد يقوم الدكتور «نبيل بهجت» أستاذ ورئيس قسم المسرح بجامعة حلوان بجهد مميز ومتواصل في إعادة إحياء نصوص أدبية مجهولة لم يتلفت إليها الباحثين للرواد المسرح المصري، في النصف الأول من القرن العشرين، فقام بجمع المسرحيات القصيرة في كتاب «تناقضات الخطاب والنص» وضم هذا الكتاب الذي صدر عن الهيئة العربية للمسرح في إمارة الشارقة بالإمارات عام 2019 قرابة الخمسين نصا مع دراسة للتعرف على صورة المرأة في الأعمال الدرامية التي نشرت في الصحف المصرية ما بين عامي 1923 / 1952، ثم جاء كتابه الثاني الذي صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2020 بعنوان «المسرحيات القصيرة في المسرح المصري» ويضم نحو 44 نصًا مسرحيًا لكل من بديع خيري يوسف وهبي وأبو السعود الإيباري. في الفترة ما بين 1928: 1960.
وجمعت هذه الأعمال المجهولة عبر تنقيب في الصحف والمجالات المصرية من بينها مجلات «الكواكب، الجيل الجديد، الناقد، الفنون، أهل الفن، الاتنين والدنيا…إلخ»، ويقع الكتاب في 430 صفحة من القطع الكبير، ومقسم إلى ثلاثة أجزاء كل جزء منها مقدم بدارسة وافية عن النصوص التي يشتملها.
يوسف وهبي
وفي الجزء الأول بعنوان « المسرحيات القصيرة ليوسف وهبي» ويضم 11 مسرحية قصيرة كتبها «يوسف وهبي» وهي «بدون كلام، الكافر، القدر، محكمة الستات، على فكرة، القربان، مكره أخاك، أيها القاتل، تمهل، على مسرح الحياة، عدة شغل والموعد»، ويكشف بهجت في دراسته لهذه النصوص أن نصوص يوسف وهبي تنوعت في مضمونها ما بين الميلودراما والكوميديا والمونودراما.
واعتمدت مسرحيات يوسف وهبي ذات الطابع ميلودرامي على المبالغات إذ يختار لحظة استثنائية في حياة شخصيَّاته ويلقي الضوء عليها، مثل عامل السكة الحديدية الذي يختار بين إنقاذ ابنته الوحيدة وقتل رُكَّاب القطار، والطبيب الذي ينقذ الابن الوحيد للجلاد الذي سينفذ حكم الإعدام في ابنه الوحيد، واللص الذي يخطِّط لخطف ابن أحد الأطباء ليكتشف أنه ابنه، وتمثل المصادفات عاملاً أساسيًّا في بناء حبكة هذا النوع من المسرحيَّات، ففي «الكافر» يقرر الابن سرقة الشركة التي يعمل بها ليسدد دين والده، وفور خروجه من المنزل تصدمه سيارة أحد الأثرياء ليقدم مساعدة مالية للأسرة تحول دون سرقة المال، كذلك يكتشف الطبيب أمين في نهاية المسرحيَّة أنه أنقذ ابن الجلاَّد الذي سينفِّذ حكم الإعدام في ابنه الوحيد.
مسرح بروج 23 يوليو
وقد واكبت نصوص يوسف وهبي القصيرة حراك 23 يوليو، حيث حرص وهبي على تأكيد العبرة والعظة من خلال حوار ميلودراميَّاته خصوصًا في تلك التي نشرها بعد ثورة يوليو 1952، ليؤكِّد التحوُّل الذي حدث داخل المجتمع، ففي مسرحيَّة «القدر» على سبيل المثال تطلب عزيزة من زوجها أن يسعى لدى البعض لإنقاذ ابنه:
عزيزة: إنت دكتور كبير في البلد يا أمين.. كلمتك مسموعة.. والجميع يتمنوا يخدموك.. جرب واتصل بأصحاب الحل والربط.. يمكن يدونا فرصة والحظ يساعدنا..
ويسوق وهبي هذه العبارات على لسان عزيزة ليؤكِّد التحول القيمي داخل المجتمع:
أمين: بتقولي إيه يا عزيزة؟ عهد الوساطات والشفاعات انتهى أجله.. ثم ده حكم قضائي يستحيل التردُّد فيه.. ولا فيش أي قوة تقدر تحول بين فتحي وبين مصيره التعس.
ويُعلِي أمين من قيمة العدالة والقصاص داخل المجتمع، ويؤكِّد التحول الذي حدث لمصر بعد ثورة 1952، ومن ثم يصدر حكمًا على ابنه مُعلِيًا من شأن العدالة أمام العاطفة:
أمين: صحيح موجود.. لكن الله لن يغير من الأمر شيئًا.. لأن فتحي ارتكب جريمة قتل.. وطبيعي ساعتها ماكانش بيفكَّر في الله.. واللي زيه ما ينتظروش إن ربنا يفكَّر فيهم وهم قدام حبل المشنقة يا عزيزة.
أبو السعود الإبياري
وقدم نبيل بهجت في الجزء الثاني من الكتاب «المسرحيات القصيرة لأبوالسعود الإبياري» نشر 16 نصًا مسرحيًا له حملت عنوانين «أخ للإيجار، مدموازيل جاموسة، موعد مع الصدفة، ترفيه مؤبد، فرحة ما تمت، عريس الهنا، وش تعب، غلط في الحساب، النمرة غلط، رد شرف، نيرون يحرق روما، ليلة الدخلة، لوكاندة السعادة، امسك ناظر وقف، المرأة دائما، أراجوز ومؤلف وفكرة».
وتناول الإبياري فى دراما الصحافة الموضوعات التي تنال اهتمام قدر كبير من القراء موظفا إياها في نقد بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية وفى بعض الأحيان كان يكتفي بصياغة دراما الصحافة على هيئة فكاهة خفيفة هدفها تسلية القراء. ووظف الإبياري دراما الصحافة ليقف على بعض العيوب الاجتماعية فكانت بمثابة منظاره المكبر لسبر أغوار المجتمع في محاولة منه لإعادة صياغة سلوك الفرد داخله على أساس أن الإنسان كقيمة هو الثابت، وماعدا من تقاليد وعادات اجتماعية متغيرة، وعلينا أن نعيد النظر فى جدوى هذه العادات ولا نتحرج من تغيرها إذا اقتضت الضرورة ذلك، واهتم الإبياري بالعلاقة بين الرجل والمرأة بشكل خاص فعلي سبيل المثال انتقد في نصوص «ليلة الدخلة ولوكاندة السعادة ومدموازيل جاموسة » الزواج عن طريق الوسيط، وهو موضوع ألح عليه الإبياري فى ملاهي التدسيس .. وتصاغ الأحداث هنا في إطار المفارقات الدرامية، ففي «ليلة الدخلة» توهم الخاطبة العرس بأنه سيزف لأجمل امرأة في الكون، ثم يفاجأ بأنه زف لامرأة تتصف بكل صفات الدمامة.
بديع خيري وقضية التأليف المشترك
واهتم الجزء الثالث من الكتاب «المسرحيات القصيرة لبديع خيري»، وقدم فيه 17 نصًا له وهي «كشكش عضو في البرلمان، وكشكش ليلة الفرح، وفاطمة وماري وراشيل، وجت سليمة، واللي يخاف منه، وقلوب حسب الطلب، واللص الكبير، والغريم، وصديق للإيجار، وملاك جهنم، وأصابع القرد، والسكوت من دهب، والعصر الحديث، وخدم وأسياد، وحارة سيبويه، وتجربة، والعاقل». وتجدر الإشارة هنا إلى أن ذلك هو الكتاب الثالث الذي يتناول فيه نبيل بهجت أعمال بديع خيري، فقد حلل مسرحياته الطويلة في كتاب نشرته دار الهلال، ثم جمع أعمال الشعرية، وفي هذا الكتاب يقدم نصوص مسرحية قصيرة له لم تنشر من قبل.
ويثير «بهجت» في هذا الجزء قضية في غاية الأهمية تتعلق بالتأليف المشترك الذي كان بين نجيب الريحاتي وبديع خيري، فقد أخبر بديع خيري للناقد محمد علي حمادة: «اسمع .. الريحاني لم يكتب حرفاً واحداً في كل ما قدمناه من كوميديات على المسرح، إنها من تأليفي وبقلم» بينما تؤكد إعلانات المسرحيات عبارات تفيد أنهما من تأليف الأستاذين بديع ونجيب، وهو أمر ظل نجيب يلح على إثباته في أكثر من مناسبة من خلال أحاديثه الصحفية ومذكراته، بينا ظل بديع لا يعيره اهتماماً ولا يكلف نفسه عناء النفي أو الإثبات. والتأليف المشترك لا ينفي حق التأليف عن المؤلف ، بينما يثبت حق التأليف لمؤلفين اثنين بدلاً من مؤلف واحد، ويرى بهجت كحل لهذه القضية الإشكالية التي جرى فيها أقوال كثيرة أن العمل في فرقة الريحاني كان يجري على نظام فريق العمل، فإذا ما عرضت الفرقة مسرحية ما ونجحت ورضي عنها الجمهور، وحققت الأرباح المرجوة منها، فإنه يتعين على الفرقة قبل الانتهاء من هذه المسرحية أن تفكر في مسرحية جديدة يتم عرضها من خلال الممثلين الموجودين في الفرقة والمنتج والمخرج والمؤلف. وليس هناك مانع من أن يقترح الريحاني على بديع فكرة مسرحية معينة أو يعطيه اسم مسرحية أجنبية لو اقتبسها بديع فستحقق أرباحاً هائلة، فالمطلوب تفصيل العمل على الفرقة، ولذلك فلا مانع من أن يقترح نجيب .. ولكن الذي يمسك بالقلم ويكتب هو بديع. وهذا ما ذهب إليه «يوسف حلمي» وهو ناقد عاصر الحركة الفنية لمسرح الريحاني منذ بدايتها تقريباً، واحتك بالوسط المسرحي احتكاكاً مباشراً.
وفي الأخير فإن هذا الكتاب يفتح المجال أمام الباحثين لتعمق في دراسة المسرح المصري في القرن الماضي وكيف نقل تطلعات الشعب المصري وعايش أحلامهم وآمالهم في حياة أفضل، كما أنه يعد وثيقة حية تكشف عن العبارات المستخدمة في هذا الزمن والأفكار التي شغلت المصريين منذ قرن، كما أن الكتاب يكشف عن صورة جديدة لم يلتفت إليها وكادت أن تضيع لو جهد الذي بذله مؤلف الكتاب في جمعها كي تبقى حية ومعبرة عن ثراء المسرح المصري في القرن المنصرم.