عرض وترجمة: أحمد بركات
فيما يبدو، أنه قد يكون هناك إحساس متفاقم بالتداعي، ثم يقع شيء ما يمثل نقطة التحول الكبرى.
على سبيل المثال، بعد الحرب العالمية الثانية كانت بريطانيا العظمى شبه مفلسة، وكانت إمبراطوريتها في حالة مزرية، لكنها تماسكت بفضل القرض الذي حصلت عليه من حكومة الولايات المتحدة، وما توافر لها من وراء متطلبات الحرب الباردة الجديدة التي سمحت لها بالاحتفاظ بالمظهر الخارجي للاعب العالمي.
ولكن.. لم يكد يحل العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، حتى تعرضت بريطانيا لضغوط من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والأمم المتحدة لسحب قواتها من مصر، وبات واضحا أن حقبتها الإمبريالية توشك على الأفول. وسرعان ما شرعت حقبة نهاية الاستعمار أبوابها.
وفي فبراير 1989، قام الاتحاد السوفيتي بسحب قواته العسكرية من أفغانستان، بعد محاولة فاشلة استمرت على مدى تسع سنوات للسيطرة على الأوضاع في هذه المنطقة صعبة المراس. جاء ذلك من خلال حفل تم تصميمه بعناية فائقة ليبعث على الهيبة والوقار.
وتحرك موكب منظم من الدبابات شمالا عبر جسر الصداقة الذي يمتد فوق صفحة نهر “آمودرايا” بين أفغانستان وأوزبكستان، التي كانت جمهورية سوفيتية آنذاك. وسار القائد السوفيتي، الجنرال “بوريس جروموف” مع ابنه المراهق؛ حاملا باقة من الزهور، ليعلن أمام الكاميرات، بابتسامة ملء فيه، أنه “لم يتبق جنود سوفيت ورائي” في أفغانستان.
وأضاف أمام حشد عسكري في وقت لاحق من ذلك اليوم: “لقد حان اليوم الذي انتظره الملايين من أبناء الشعب السوفيتي” مصدّرا هذا المشهد الانسحابي على أنه “على الرغم من تضحياتنا وخسائرنا، إلا أننا أنجزنا تماما ما يقتضيه منا الواجب الدولي”.
لم تكن كلمة “جروموف” الاحتفالية معادلة لخطاب الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، “أنجزت المهمة”، الذي ألقاه في أعقاب الغزو اميركي للعراق في عام 2003، لكنها كانت قريبة منها. كما أن الرسالة التي حاول المشهد الكرنفالي السوفيتي للانسحاب إيصالها، على الأقل إلى الشعب السوفيتي في الداخل، لم تكن سوى محاولات لطمأنة هذ الشعب، إذ أكدت أن “الجيش الأحمر يغادر أفغانستان لأنه يريد ذلك”، وليس بسبب هزيمته.
نصَّب الكرملين أحد الأفغان الموالين له، وهو رئيس البوليس السري السابق، نجيب الله، وكان هناك أيضا الجيش الأفغاني الذي خاض التجربة القتالية، وتم تجهيزه وتدريبه من قبل السوفيت.
في هذه الأثناء، كانت ميليشيات المجاهدين، التي تم تمويلها وتسليحها من قبل الولايات المتحدة، وشركائها في المملكة العربية السعودية وباكستان، تعيش حالة احتفالية. وكانت وحداتهم القتالية تحتشد خارج المدن الأفغانية التي يسيطر عليها النظام، وسادت التوقعات بأنه لن يمر وقت طويل قبل أن يستسلم “نجيب الله” أيضا وقبل أن تخضع كابول لسيطرتهم.
لكن “نجيب الله” تمكن من الصمود لمدة ثلاث سنوات أخرى، ولم يفضِ انهياره إلا إلى اندلاع حرب أهلية جديدة.
وبرغم خطاب الواجب القومي الذي ساد إبان مرحلة التحرر من الاستعمار السوفيتي، لم تكن أفغانستان، التي خلَّفها السوفيت، سوى أرض محروقة. فمن إجمالي السكان الذين يبلغ عددهم 12 مليون نسمة، لقي مليونا مدني حتفهم في الحرب، وفر أكثر من 5 ملايين من البلاد، كما نزح مليونا مواطن آخرون داخل البلاد. واستحالت الكثير من البلدات والمدن إلى أطلال، وحل الخراب على نصف القرى.
على الجانب الآخر، وعلى المستوى الرسمي، لقي 15 ألف جندي سوفيتي مصرعهم، رغم أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير، وجُرح 50 ألفا آخرون. لكن مئات الطائرات والدبابات وقطع المدفعية دُمرت أو فقدت، وتم توجيه مليارات لا حصر لها من الدولارات من الاقتصاد السوفيتي الذي كان يعاني ضغوطا شديدة لدفع مقابل ذلك كله.
وبرغم محاولات الكرملين لإخفاء الأمر، كان المواطن السوفيتي العادي يعي تماما أن التدخل في أفغانستان انتهى بإخفاق باهظ الثمن.
ولم يمض 18 شهرا على الانسحاب السوفيتي من أفغانستان حتى حاولت جماعة من المتشددين القيام بانقلاب ضد رئيس الوزراء الإصلاحي “ميخائيل جورباتشوف” لكنهم لم يتمكنوا من تقدير قوتهم، أو الدعم الشعبي الذي يحظون به على نحو صحيح.. وأمام سيل المظاهرات العامة التي اندلعت ضدهم، انهارت محاولة الانقلاب، وأتبع ذلك سقوط الاتحاد السوفيتي نفسه. وبطبيعة الحال، تشابكت عوامل كثيرة، في ذلك الوقت، بخلاف المستنقع الأفغاني الذي خلَّفه الاتحاد السوفيتي، لإضعاف الإمبراطورية، التي كانت قوية ذات يوم من الداخل.
في النصف الآخر من العالم، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقدراتها العسكرية وقوتها الاقتصادية؛ رغم ذلك تبدو الولايات المتحدة على مدى عقدين من الزمان تقريبا، غير قادرة على إدارة أي منهما لصالحها؛ وبدلا من أن تحسن هيمنتها عن طريق نشر قواتها بحكمة وإحكام، بددت السياسة الخارجية الأميركية جهودها، ما أدى إلى إضعاف سردية القوة الأميركية التي لا تقهر، والموقف الأميركي المدافع عن الليبرالية والديمقراطية أمام جميع دول العالم.
وتسببت الحرب العالمية التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب، بما في ذلك غزو الرئيس “جورج دبليو بوش” للعراق بحجة التفتيش على ما لديها من أسلحة دمار شامل لم تكن موجودة بالأساس، وقرار أوباما بالتدخل في ليبيا، وعدم حسمه في الوقت نفسه لوضع خط أحمر في سوريا، وخيانة “دونالد ترمب” للأكراد في البلد نفسها، واتفاقه مع طالبان في عام 2020 على سحب القوات الأميركية من أفغانستان، في تفشي الإرهاب بقوة في جميع بقاع الكرة الأرضية.
ربما لم يعد تنظيم القاعدة يمتلك نفس الحضور الذي كان عليه إبان أحداث 11 سبتمبر، لكنه لا يزال موجودا، ولديه فرع في شمال إفريقيا، كما يمتلك تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أيضا جماعات موالية في هذه المنطقة، إضافة إلى موزمبيق، إلى جانب اأفغانستان، كما بينت الهجمات التي شنها التنظيم على المطار الدولي في كابول نهاية الشهر الماضي.
في الوقت نفسه أمسكت طالبان مجددا بتلابيب السلطة في أفغانستان، على ما كان عليه الحال قبل عشرين عاما. وبرغم محاولات الرئيس “بايدن” التنظير لهذا الفشل في أفغانستان على أنه تحول في “الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة لمواجهة التمدد الصيني”، إلا أنه في حقيقة الأمر ليس إلا عنوانا للانعزال الأميركي الزاحف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا