العناد والدأب والإصرار.. كلمات يمكن اعتبارها عناوين رئيسية لحياة نجمة الغناء الكبيرة فايزة أحمد التي أطلق عبد الوهاب على صوتها أنه “الكريستال المكسور” وأعلنت أم كلثوم أكثر من مرة أنه لا يطربها من الأصوات النسائية سوى صوت فايزة أحمد.
فايزة أحمد تاريخ من الموهبة الاستثنائية في عالم الغناء حققت نجاحها العظيم؛ لأنها آمنت بموهبتها إيمانا حقيقيا ولم تفقد ثقتها في نفسها أبدا.
صعوبات البداية
بدأت فايزة أحمد المولودة في الخامس من ديسمبر عام 1934 بمدينة صيدا اللبنانية لأب سوري وأم لبنانية رحلتها مع الغناء مبكرا، كان صوتها جميلا متميزا مختلفا، وهو ما اعترف به كبار الملحنين بعد ذلك، لكنها في بدايتها اصطدمت بآراء سلبية في صوتها، وربما تعرضت للتقييم من حاقدين أو من منحازين ضدها فحين تقدمت للاختبار بإذاعة لبنان في صباها رُفضت تماما؛ بحجة أن صوتها لا يصلح؛ لكن فايزة أحمد كانت مؤمنة بموهبتها تعرف أن من أصدر الحكم على حنجرتها، هو مغرض أو جاهل.
انتقلت فايزة إلى دمشق وهناك تعرضت لنفس الموقف القاسي حين رفضتها أيضا إذاعة دمشق؛ لتلجأ إلى إذاعة حلب التي أدرك المسئولون بها قيمة صوتها؛ فمنحوها جواز مرور لعالم الأغنية؛ لتنطلق فايزة بعدها إلى “هوليود” الشرق؛ لتجد الفرصة الذهبية التي بحثت عنها كثيرا في انتظارها.
جاءت المطربة الناشئة فايزة أحمد من سوريا إلى القاهرة بحثا عن مكان تحت شمس الفن في مصر، ووجدته بعد معاناة رهيبة وبالصدفة البحتة!.
في أحد أيام صيف عام 1956، اتصلت فايزة أحمد بمنزل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وبعد عدة محاولات؛ ردّ عليها عبد الوهاب فأخبرته بأنَّها صوت جديد من سوريا؛ فسمع صوتها في التليفون وأعجبه كثيرا ليدعوها لزيارته في منزله.
وفي منزل موسيقار الأجيال غنت فايزة لعبد الوهاب أغنيته “كل ده كان ليه” واقتنع تماما بصوتها، لكنه رآها في آخر شهور حملها -وكانت فايزة وقتها متزوجة من الملحن اللبناني محمد النعامي- فقال لها عبد الوهاب: “إنني مستعد للتعاون معك بعد أن تضعي مولودك، وشعرت فايزة بالإحباط الشديد، وحاولت كثيرا أن تقنع عبد الوهاب بتقديم لحن لها.. لكنه أصر على أنه لا يمكنه أن يلحن لها وهي حامل في شهورها الأخيرة.. وخرجت فايزة من بيت عبد الوهاب حزينة ومكتئبة. في تلك الأثناء كان محمد الموجي يحتفل بعيد ميلاد زوجته المطربة أحلام؛ فقدم لها لحن أغنية “أنا قلبي اليك ميال” كهدية بهذه المناسبة؛ لكن اللحن لم يعجب أحلام فقالت للموجي “… ده لحن بايخ” فاغتاظ الموجي كثيرا؛ وقرر أن يهدي اللحن لأول مطربة يراها نكاية في أحلام.
في اليوم التالي مباشرة تصادف أن ذهبت فايزة إلى نقابة الموسيقيين لكي تُسمع صوتها لمن تجده من الملحنين، وذهب الموجي إلى النقابة أيضا غاضبا وشاعرا بالمرارة من زوجته أحلام.. وهناك في النقابة رأى الموجي فايزة وسمعها وهي تدندن بأغنية عبد الوهاب “كل ده كان ليه”. قدمها بعض الحاضرين للموجي الذي قرر أن ينفذ قراره؛ فطلب منها أن تغني، على عزفه بالعود لحن “أنا قلبي إليك ميال” من كلمات مرسي جميل عزيز.. وفي اليوم التالي مباشرة اصطحب الموجي فايزة؛ ليسجلا أغنية “أنا قلبي إليك ميال” في استوديوهات الإذاعة المصرية.
بعد تسجيل الأغنية مباشرة عادت فايزة إلى دمشق؛ لتضع طفلتها التي رحلت سريعا، ثم غادرت فايزة إلى لبنان ومنها جاءت إلى القاهرة مرة أخرى عام 1957، لتجد أن أغنية “أنا قلبي إليك ميال” قد أذيعت كثيرا وحققت نجاحا كبيرا، وأن المخرج حسين فوزي يبحث عنها لتغني وتمثل في فيلمه “تمر حنة” بطولة نعيمة عاكف ورشدي أباظة.
النجاح الكبير مع الموجي وعبد الوهاب
كان محمد الموجي هو “وش السعد” على فايزة أحمد؛ فمعه كانت بدايتها في القاهرة “هوليوود” الشرق ومعه غنت عددا من أجمل أغانيها مثل: “أنا قلبي اليك ميال” و “يا أمَّه القمر ع الباب” و “بيت العز” غير أن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مثّل نقلة نوعية مختلفة بالنسبة لفايزة أحمد، بعد أن ماطلها في البداية إلا أن الأمر اختلف بعد نجاحها مع محمد الموجي.
قدّم عبد الوهاب لفايزة عددا من الألحان.. مثلت محطات غنائية مهمة في تاريخها ومشوارها الغنائي منها “ست الحبايب” و “يا غالي عليا” و “وقدرت تهجر” وكلها من كلمات حسين السيد.. كما لحن لها “هان الود” و”تهجرني بحكاية”.
مثَّل الموسيقار محمد سلطان المحطة الأهم في حياة فايزة أحمد؛ فقد تزوجها عام 1963 واستمر الزواج 18 عاما وأنجبا نجليهما طارق وعمرو اللذين درسا الطب في أمريكا وما زالا يعيشان ويعملان هناك وقد طلق سلطان فايزة عام 81 وتزوجت بعده زيجة قصيرة جدا؛ لتعود إليه مرة أخرى.. لحّن سلطان لفايزة عددا من أجمل أغنياتها مثل قصيدة نزار قباني “رسالة من امرأة” و”خليكوا شاهدين” و”أيوا تعبني هواك”.
خلافات عمالقة الطرب
وغنت فايزة من ألحان أساطين الموسيقى مثل: رياض السنباطي ومحمود الشريف وبليغ حمدي الذي غنت له عددا من أغانيها البديعة مثل “اتحسدنا” و”تايهة” و”توهوني” وإن كانت علاقة فايزة ببليغ قد توترت في أحيان كثيرة على خلفية الخلافات الشديدة بين فايزة و الفنانة وردة زوجة بليغ؛ تلك الخلافات التي شهدت تراشقا على صفحات الصحف.. والحقيقة أن علاقات فايزة بزميلاتها من المطربات شهدت دائما ألوانا من التوتر والمشاكل بسبب المنافسة الشديدة بينها وبينهن.. فقد حدث خلاف أيضا بين فايزة ونجاة بسبب اعتقاد فايزة أن عبد الوهاب بدأ يتجاهل العمل معها لصالح نجاة، كما توترت علاقة فايزة كثيرا بصباح وهناك واقعة لمشادة شهيرة بينهما وصلت حد التشابك بالأيدي في مقر نقابة المهن الموسيقية؛ بل إن علاقة فايزة المتوترة بزملائها وصلت الى حد الخلاف مع مطربين رجال؛ فقد اختلفت فايزة كثيرا مع عبد الحليم حافظ بعد أن اعاد غناء أغنية “أسمر يا أسمراني” التي كانت فايزة قد غنتها في فيلم “الوسادة الخالية” الذي قام حليم ببطولته حيث غنى العندليب الأغنية دون أن يستأذن فايزة، ونكاية فيه قامت فايزة بغناء أغنية ساخرة اسمها “ولعوا في وابور الحريقة “على وزن أغنية “قولوا له الحقيقة” لحليم؛ تهكما عليه وسخرية منه الأمر الذي أغضب حليم كثيرا، وقرر عدم الغناء في أي حفلة مع فايزة إلى أن جاء نصر أكتوبر ليذيب الخلاف بينهما.
غنت فايزة أحمد حوالي 400 أغنية منها: “حمّال الأسية” و”حيران” و”يا حلاوتك يا جمالك و”يا تمر حنة” و”بكرة تعرف” و”حبيبي يا متغرب” و”بتسأل ليه عليا” وغيرها من الأغاني التي ستبقى في ذاكرة الغناء العربي دائما.
ولم يكن حضور فايزة في السينما كبيرا فقد مثلت في سبعة أفلام فقط أهمها: “أنا وبناتي” وشاركت بالغناء في ثلاثة أفلام دون تمثيل أهمها: الوسادة الخالية
وفي الحادي والعشرين من سبتمبر عام 1983، رحلت فايزة أحمد بعد صراع مرير مع سرطان الثدي تاركة إرثا غنائيا عظيما في تاريخ الغناء العربي لا يمكن لأحد إلا أن يعترف بعبقرية صاحبته وصوتها الذي يشبه الكريستال.