حاكمان لمصر تفصل بينهما قرون، إلا أن ما يجمعهما هو تطابق لقب الأول مع اسم الثاني، وحقيقة أن كل منهما خاض غمار حرب على أرض اليمن.
الأول هو السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون الذي يعتبر أحد أهم سلاطين دولة المماليك البحرية، والثاني هو الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي حكم البلاد ما بين عامي ١٩٥٤ و١٩٧٠.
وإن كانت حرب اليمن الثانية معروفة لأغلب المؤرخين المعاصرين باعتبارها الحرب التي بدأت عقب إطاحة مجموعة من ضباط الجيش اليمني بقيادة عبد الله السلال بنظام الإمامة في بلادهم أو ما يُعرف بنظام المملكة المتوكلية وتطور الأمر الى اقتتال داخلي بين مؤيدي الجمهورية اليمنية الجديدة، ومؤيدي المملكة المتوكلية الذين تلقوا دعما من السعودية وبريطانيا وغيرها من الدول؛ ما اضطر الجمهوريين الى الاستعانة بمصر ورئيسها والذي بدأ بالفعل بإرسال قوات مصرية إلى اليمن لدعم الجمهوريين، وصلت إلى نحو سبعين ألف جندي إلى أن انتهت الحرب في فبراير من عام ١٩٦٨ بانتصار الجمهوريين.
أما حرب اليمن الأولى فيشير الكاتب المتخصص في التاريخ والعمارة المملوكية هاني حمزة في كتابه “حكايات المماليك المصرية” إلى أن جذورها ترجع إلى ما قبل قيام دولة المماليك وتحديدا إلى العصر الأيوبي.
حيث نجح الجيش الذي أرسله صلاح الدين الأيوبي بقيادة أخيه توران شاه الى اليمن في ضم تلك البلاد الى سلطنة بني أيوب وكان ذلك في عام ١١٧٣ للميلاد.
وكان أحد أبرز قادة الجيش الأيوبي في اليمن هو نور الدين عمر بن رسول والذي أصبح عام ١٢٢٩ للميلاد نائبا للسلطان الأيوبي على اليمن وحاكما لها باسمه.. وبحلول عام ١٢٣٥ أعلن نفسه سلطانا على البلاد؛ خاصة بعد أن نجح في الحصول على تقليد رسمي من الخليفة العباسي أضفى على حكمه قدرا من الشرعية.
ومنذ ذلك الحين وحتى عام ١٤٥٤، توالى على حكم اليمن حكام من سلالة عمر بن رسول، واتخذوا من تعز عاصمة لهم؛ إلا أن الأمور بدأت تضطرب في عهد الحاكم الخامس من هذه السلالة الملك سيف الإسلام المُلقب بالمجاهد.
إذ واجه الملك المجاهد تمردا من بني عمومته.. استولوا فيه على مناطق واسعة من مملكته وحاصروا عاصمته تعز؛ وحينها لم يجد المجاهد أمامه في سبيل الحفاظ على عرشه سوى الاستعانة بسلطان مصر المملوكي الناصر محمد بن قلاوون طالبا منه إرسال حملة عسكرية لنجدته مع تعهده بدفع كافة نفقات تلك الحملة.
وبالفعل لبّى السلطان الناصر استغاثة ملك اليمن؛ وبعث إليه بحملة عسكرية بقيادة الأمير “بيبرس الحاجب” ووصلت الحملة الى أرض اليمن بحلول صيف عام ١٣٢٥ للميلاد ومن الملاحظ -كما يشير حمزة- أن قائد الحملة بدا حريصا على عدم استعداء أهل اليمن؛ فكان كلما دخل مدينة من مدن اليمن نادى فيها بالأمان لأهلها، وأكد لهم أن جنوده لن يأخذوا منهم شيئا إلا بعد أن يدفعوا لهم ثمنه.
إلا أن الأوضاع تغيرت مع وصول الحملة المصرية؛ حيث أن الملك المجاهد نجح في ذلك الوقت في استعادة عرشه وسيطرته على سائر أقاليم اليمن وبالتالي لم يعد بحاجة لمن استنجد بهم.
ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا لكي يدرك الأمير “بيبرس الحاجب” أن الملك بدأ يتنكر له وقواته؛ فهو لم يفِ بوعده بتحمل نفقات الحملة ولم يوفر لجنودها ما يلزمهم من طعام، وللدواب ما يلزمها من علف، بل زاد على ذلك أن حرّض أهل البلاد على قتال من قدموا لنجدته.
وبالفعل بدأت الحملة المصرية تواجه هجمات خاطفة من الأهالي نتج عنها سرقة بعض الدواب، ثم اعتصم الأهالي بالجبال التي يعرفونها تمام المعرفة في حين لم يكن الجيش المملوكي مهيأ للقتال فيها بسبب طبيعتها الوعرة.
وجد قائد الحملة الأمير الحاجب نفسه مضطرا للتفاوض مع الملك لإيجاد حل. واتفق الطرفان على عودة الحملة إلى مصر، إذ أنها من الناحية العملية قد أدت غرضها بعودة الملك الى عرشه، وبالفعل بدأت الحملة بالرحيل تدريجيا عن أرض اليمن حتى وصلت مصر في أكتوبر من عام ١٣٢٥.
استغل بعض الأمراء في بلاط السلطان الناصر هذا الانسحاب للكيد للأمير الحاجب، وأوغروا صدر السلطان عليه؛ مدعين أن الحاجب تلقى رشوة من ملك اليمن نظير الجلاء عن بلاده.
وجد الحاجب نفسه متهما أمام سلطانه الذي أمر بحبسه.. وظلّ في محبسه تسعة أعوام كاملة حتى عفا عنه السلطان، وجعله أميرا على دمشق، وظلّ في منصبه هذا حتى تُوفّي هناك عام ١٣٤٢.
لا يملك الباحث في تاريخ مصر إلا أن يقارن بين الحربين، فالحرب الأولى كانت لتثبيت عرش ملك، أما الثانية فكانت على النقيض تماما لنصرة جمهوريين أزاحوا ملكا من على عرشه. الأولى انتهت دون خسائر تذكر وفي فتره زمنية وجيزة.. أما الثانية فدامت لنحوٍ من ست سنوات.. استشهد خلالها على أرض اليمن آلاف الجنود المصريين، وفي كلتا الحالتين؛ فإن التاريخ أعاد نفسه وبشكل مدهش.