يحلو لعدد غير قليل من كتاب ومؤرخي ما بات يعرف بتيار “الإسلام السياسي” تصوير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الشهير بصلاح الدين الأيوبي في صورة البطل السُني الذي قضى على دولة شيعية هي الدولة الفاطمية في مصر ذات المذهب الاسماعيلي، وأعاد مصر إلى حاضنة الدولة العباسية ذات المذهب السُّنِّي.
بل يذهب بعض الكُتاب إلى ما هو أبعد من ذلك، رابطين تحرير صلاح الدين لبيت المقدس بهذا البعد المذهبي، وكأن تحرير القدس كان نتيجة طبيعية له.
إلا أن هناك وجها آخر لهذه المرحلة التاريخية لا يناقشه هؤلاء الكتاب، وهو سياسة صلاح الدين الشديدة المرونة مع المذاهب المختلفة في سبيل توحيد الأمة بكافة أطيافها في مواجهة عدوان سافر على أراضيها ومقدساتها.
ويشير الكاتب محمد بن المختار الشنقيطي في كتابه “أثر الحروب الصليبية على العلاقات السُنيه الشيعية” إلى أنَّ صلاح الدين كان أكثر مرونة من أستاذه نور الدين محمود سلطان الشام في التعامل مع الطائفة الشيعية، لا سيّما الإمامية.
ففي حين كان نور الدين محمود يضيق على الشيعة الإمامية، وعلى ممارستهم لشعائرهم المذهبية في مدينة حلب، فإن صلاح الدين تحالف مع أبناء هذه الطائفة؛ خاصة بعد وفاة نور الدين عام ١١٧٤م.
سعى صلاح الدين إلى كسب الشيعة الإمامية في صفه حين وصل إلى حكم دمشق؛ واتخذ من تلك المدينة قاعدة لحكمه الذي ضم مصر والشام في مواجهة الفرنجة في القدس والساحل.
ويصف الرحالة ابن جبير الذي زار دمشق في تلك الفترة مزارات الشيعة في المدينة بشكل يدل على تسامح حاكمها مع تلك الطائفة؛ حيث يؤكد أنه رأى مسجدا لهم هو “من أحسن المساجد وأبدعها وضعا واجملها بنيانا”.
وانعكس هذا التسامح على سياسة صلاح الدين في مدينة حلب أيضا التي ضمها إلى سلطنته عام ١١٨٣م، حيث سمح لقادة الشيعة الإمامية الذين نفاهم نور الدين بالعودة إلى المدينة.
ويؤكد الشنقيطي في كتابه أنَّ الشيعة الإمامية وجدوا في صلاح الدين حليفا يستحق الثقة، ويستشهد في هذا المجال بما كتبه مؤرخ الإمامية في حلب ابن أبي طي الذي ألَّف أول كتاب يجمع سيرة هذا السلطان؛ وأسماه “كنز المؤمنين في سيرة الملك صلاح الدين”.
كانت النتيجة الطبيعية لهذه السياسات التي انتهجها السلطان- أن أصبح الشيعة في الشام قسما “من الجمهور المقاوم تحت رعاية صلاح الدين” كما انضوى قسم “من نخبتهم الثقافية تحت رايته” بما في ذلك ابن أبي طي الذي كان أحد أفراد بلاط صلاح الدين في دمشق.
ولعل اطمئنان صلاح الدين إلى صلابة الجبهة الداخلية، ووحدة كل من مصر والشام بما فيهما من طوائف مختلفة خلف قيادته هو ما شجعه على مواجهة الفرنجة في معركة حاسمة في “حطين” في صيف عام ١١٨٧م، وهي المعركة التي أسفرت عن نصر للمسلمين فتح الباب أمامهم لتحرير الساحل الشامي من الفرنجة ثم دخول القدس ذاتها بعد احتلال دام نحو تسعين عاما.
ومن اللافت أنَّ الحكام الذين خلفوا صلاح الدين استمروا في انتهاج نفس السياسة تجاه الشيعة الإمامية، حيث أنَّ الملك الظاهر غازي نجل صلاح الدين بنى لهذه الطائفة في مدينة حلب التي حكمها بعد وفاة أبيه مزارا عُرف باسم مزار النقطة نظرا لإيمان المنتمين إلى تلك الطائفة أنَّ هذا المزار شهد مرور رأس الإمام الحسين على تلك البقعة تحديدا بعد حَزِّهِ في موقعة كربلاء.
وبشكل عام يمكن القول أنَّه وعلى العكس من الصورة المشار إليها في بداية هذا المقال، لم تكن دوافع سياسة السلطان صلاح الدين مذهبية على الإطلاق بل كانت على العكس تماما؛ سعياً لتجاوز الخلافات المذهبية في سبيل تكوين جبهة موحدة في مواجهة الغزاة، وهو المسعى الذي تكلل بالنجاح على أبواب القدس عند تحريرها في شهر أكتوبر من عام ١١٨٧ للميلاد.