في عام ١٨٨١، وفي وقت كانت مصر فيه منشغلة من أقصاها إلى أقصاها بانتفاضة شعبية قادها ضباط صغار من أفراد الجيش عُرفت أحداثها فيما بعد بالحوادث العُرابيه نسبة إلى قائد هؤلاء الضباط أحمد عُرابي –جلس شيخ أزهري جليل كفيف يُملي على تلاميذه كتابا يناقش المفاهيم التي ثار هؤلاء لأجلها،
كان الشيخ هو حسين المرصفي، أحد أبرز علماء الأزهر الشريف في ذلك العصر، والذي كان يلقي على مسامع طلابه دروس النحو وكتب أعلام البلاغة، ودواوين متقدمي الشعراء وكانت له مكانته الأدبية في عصر خديوي مصر إسماعيل باشا التي اكسبته لقب “شيخ الأدباء”.
أما الكتاب فقد اختار له صاحبه عنوان “الكَلِمُ الثّمَان” وهو وفقا لأستاذ الأنثروبولوجيا المصري الراحل محمد حافظ دياب والذي حقق نسخة منه يُعد الكتاب الأول من نوعه في مصر في مجال علم الدلالة السياسي، كما وصفه السياسي المصري الراحل الدكتور أنور عبد الملك بأنَّه من أمهات الكتب في هذا المجال.
جاء كتاب المرصفي كما لو كان ردة فعل من هذا الشيخ الجليل على موجة الانفتاح الثقافي التي شهدها عصر الخديوي إسماعيل وتدفقت معها أفكار عصر التنوير الأوروبي إلى مصر والمنطقة العربية بشكل عام وتفاعل معها المتعلمون والمثقفون المصريون خاصة ممن أتيح لهم تلقي تعليم أوروبي أو السفر إلى القارة العجوز للدراسة هناك في إطار سياسة البعثات التي انتهجها محمد علي باشا.
من هنا تصدى الشيخ المرصفي لمهمَّة تعريف وشرح مصطلحات شقت طريقها إلى الأوساط الثقافية والسياسية لدى العرب والمسلمين وصارت مثارا للجدل والنقاش، بل أصبحت محورا لحركة الضباط التي تمت الإشارة اليها سلفا، وهذه المصطلحات الثمانية التي تصدى لها المرصفي هي : الأمة، والوطن، والحكومة، والعدل، والظلم، والسياسة، والحرية، والتربية.
ومن المُلاحظ أنَّ المرصفي قد انتهج منهجا وسطا في تعريف هذه الكلمات الثمان، فهو لا يُسلِّم من جهة بالمفهوم الأوروبي لهذه الكلمات الذي يختلف من حيث السياق والتطور التاريخي عن فهم العرب والمسلمين لها؛ كما أنَّه في الوقت ذاته يضيف جديدا في هذا عمن سبقوه من علماء الأمة في مجال شرح المصطلحات مثل الجرجاني وابن النديم وغيرهم.
يبدأ المرصفي نهجه الخاص هذا بتعريف كلمة الأمَّة؛ وهي كلمة ليست بالغريبة على الناطقين بالعربية، فهي كلمة متكررة في الخطاب القرآني، ويؤكد المرصفي أنَّ هناك ثلاثة عوامل تشكل ما يمكن تسميته أمَّة من الناس هي: اللسان أي اللغة الجامعة والمكان أي الأرض التي يسكنها أفراد الأمَّة أو الإقليم الجامع بلغة عصرنا هذا وأخيرا وليس آخرا عامل الدين.
ويرى المرصفي أنَّ الأمَّة بحسب اللسان هي “الأسبق استحقاقاً” لهذا الاسم، حيث أنَّ “جامعتها من ذاتها وهي أدخل في الغرض من الاجتماع” وهذا لأنه بوحدة اللغة “يتم الائتناس ولا تكون نفرة ووحشه” وذلك بخلاف أصحاب الألسنة المتفرقة الذي يكون بينهم “نفرة ووحشة حتى يتعلم فريق لسان فريق وذلك بعد عُسر وزمان طويل”.
ولعل هذا ما يفسر استخدام المرصفي –ربما لأول مرة في عصره– لمصطلح الأمَّة العربية التي يجمعها اللسان الواحد.
أما الوطن –وفقا للمرصفي– فهو مسكن الأمَّة، ومنه الخاص الذي يسكن فيه الأفراد ومنه العام وهو “تلك القطعة من الأرض التي تعمرها الأمَّة”.
وفي هذا السياق يستخدم المرصفي لفظ “القُطر” للإشارة إلى الوطن في إطار الأمَّة، ويعتبر أنَّ حق القطر على أهله أن يعتبروه “اعتبار الشخص القادر داره” ويجب أن يكونَ القطر منظورا لأهله “نظر الحكمة والمعرفة” وبالتالي “لا تسمع فيه من جهة المعيشة شكوى”.
ويرتبط بمفهوم “الوطن” أو “القُطر” مفهوم الحكومة، وهي عند المرصفي “قوة تحصل من اجتماع طائفة من الأمَّة لإمضاء مقتضيات الطبيعة” أي أنَّ الحكومة هي أداة الأمَّة لإشباع احتياجاتها الطبيعية.
والحكومة مسئولة عن العدل، ذلك المفهوم الذي “قالت به الشرائع السماوية وقبلته العقول” وهو “أن يعملَ كل أحد عمله الذي يعود نفعه على الناس كاملا” وفي المقابل “يوفيه الناس قيمة ذلك العمل كاملة” وعلى العكس تماما من ذلك فإنَّه إن “عمل ولم يوفه الناس قيمة عمله فقد ظلموه” كما أنَّ الفرد يقع في الظلم إن لم يقم بعمله المُوكل إليه على أكمل وجه.
ولكي يتم تحديد الظلم والعدل في المجتمع فإنَّ الحكومة بحاجة إلى السياسة، وهي “تحديد الأعمال وتقدير القيم وإلزام الكل بالعمل وتوفية القيمة” وإن لم يود الفرد العمل بنفسه وجب إلزامه.
ولكي يتم العمل لا بد من مفهوم آخر هو الحرية ويلاحظ في تعريف المرصفي لها تأثره بما كُتب عنها في التراث العربي والإسلامي.. وهي أنَّها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمسئولية “فالإنسان لا محالة له وعليه، فإذا عرف ما له وما عليه.. كان حُرا”.
ولكي يعرف الإنسان ما له وما عليه يلزمه مفهوم آخر هو “التربية” وهي عند الشيخ المرصفي “تبليغ الشيء حال كماله تدريجا” وهي “باب تدخل منه إلى بحبوحة المعارف التي بها صلاح دنيا الأمَّة وسعادة أخراهم”.
ولا يفوت المرصفي في هذا المجال الإشارة إلى كيفية التعامل مع المخالفين في العقيدة الدينية؛ حيث يؤكد أنَّ النبي الكريم وصحبه كان يعادون من “يريدونهم بالسوء ويناصبونهم العداوة ويدبرون في مكايدهم”.
أما المخالفون في الديانة الذين لا تنطبق عليهم هذه الصفات فقد أدخلتهم “المعاهدة في معنى المساعدة حتى صاروا بمنزلة الجزء من الحزب” وبالتالي “يعاملون برفق المعاملة” وينطبق عليهم قوله تعالى “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة- آية ٨).
والعمل بهذه الآية عند الشيخ المرصفي هو “مقتضى تمام المحافظة على تأكيد الارتباط بين الأمم حتى تنتفع كل أمَّة بما عند صاحبتها حسب الحكمة الإلهية”.