“إذا لم تصل القوات البريطانية على وجه السرعة؛ فإنَّ مدينة الخرطوم ستسقط في يد المهدي”.
لم تفلح هذه الاستغاثة التي بعث بها الجنرال “غوردن” الحاكم البريطاني للسودان؛ أو “غوردن باشا” كما أسماه المصريون في رسالة إلى حكومته في لندن في شهر يناير من عام ١٨٨٥، في منع ما توقعه بالفعل؛ حيث اقتحم ثوار السودان الملقبون بالمهديين نسبة إلى زعيم ثورتهم محمد أحمد المُلقب بالمهدي مدينة الخرطوم في معركة ضارية سقط فيها “غوردن” نفسه قتيلا.
على بعد آلاف الأميال من السودان وفي جزيرة سرنديب (سيلان حاليا) كان لهذه الأخبار وقع طيب على زعيم آخر هو المصري أحمد عُرابي الذي نفاه الاستعمار البريطاني مع رفاقه إلى تلك الجزيرة عقب الاحتلال الإنجليزي لمصر عام ١٨٨٢.
كان عُرابي قد قاد مع مجموعة من ضباط الجيش المصري الذين تزعمهم ثورة وطنية مماثلة عام ١٨٨١، ضد حكم الخديوي توفيق الاستبدادي، وضد الامتيازات الممنوحة للأوروبيين التي وصلت إلى حد دخول وزيرين أوروبيين -فرنسي وإنجليزي- الحكومة المصرية واشرافهما على ميزانيه الدولة المصرية تحت مسمى سداد ديون مصر للدول الأوروبية الدائنة، وفي المقابل طالب الضباط الشبان والمؤيدين لهم من فئات الشعب المختلفة بحكم نيابي ودستوري وبتحكم مصر في مواردها وميزانيتها ورفعوا شعار “مصر للمصريين”.
ويشير المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي في كتابه “مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال” أنَّ كل من الثورة العُرابيه في مصر والثورة المهدية في السودان ظهرتا في أوقات متقاربة، وإن كانت أسباب الثورتين مختلفة.
حيث يُرجع الرافعي أسباب الثورة في السودان إلى “عسف الحكام” وهم خليط من التُرك والجراكسه وبعض الموظفين المصريين، وما لقيه أهل السودان من “العسف و فداحة الضرائب”.
إلا أن كلتا الثورتين اجتمعتا في رفض النفوذ الأوروبي المتزايد و”تولية الحكومة بعضَ الأوروبيين كبرى المناصب” ومن اللافت أنَّ الثورة حين بدأت في السودان؛ رفض العُرابيون –وكانوا حينها قد سيطروا على الجيش– إرسال قوات اضافية إلى السودان لقمعها كما أرادت وزارة شريف باشا، وهو ما ينتقده الرافعي ويعتبره عدم إدراك من العُرابيين لأهمية السودان الحيوية لمصر؛ إلا أنَّ هناك احتمال آخر؛ وهو عدم رغبة العُرابيين وهم يخوضون غمار ثورة وطنية في استخدام القوة العسكرية ضد ثورة أخرى.
خاصَّة أنَّ محمد أحمد الذي أعلن أنَّه المهدي المنتظر، وحشد الأنصار والأتباع بداية من صيف عام ١٨٨١، انطلاقا من آبا في السودان؛ كما يذكر الرافعي “يعطف على عُرابي” وكان قيام عرابي ضد الحكومة الاستبدادية في مصر قد “صادف هوى في نفسه” وجعله “موضع عطفه وتقديره”.
تدخلت إنجلترا بالقوة العسكرية في كلا البلدين؛ وأجهضت الثورة العُرابية في مصر، وصدرت أحكام سريعة على قادة الثورة وفي مقدمتهم عُرابي بالنفي إلى “سرنديب”.
في الوقت ذاته؛ فإنَّ سياسة الاحتلال الإنجليزي في مصر التي قامت على إلغاء الجيش الوطني وتجريد مصر من قوتها العسكرية، إضافة إلى إرغام الحكومة المصرية على إخلاء السودان من القوات المصرية أدت كما يشير الرافعي إلى استفحال الثورة المهدية.
وتشير الدكتور لطيفه محمد سالم في كتابها “عُرابي ورفاقه في جنة آدم” الذي يتناول تفاصيل حياة قادة الثورة في “سرنديب” أنَّ تطوُّر الثورة المهدية، وسيطرة الثوار على مناطق واسعة من السودان جعلت الإنجليز يلجئون إلى عُرابي في منفاه طلبا للنصح.
حيث وصل السياسي الإنجليزي اللورد “روزبري” إلى “سرنديب” والتقى عُرابي، وسأله عمَّا يمكن لحكومته فعله تجاه المهدي وأتباعه.
وتضيف سالم أنَّ معاناة الاستعمار البريطاني من الثورة المهدية تركت أثرا طيبا في نفس عُرابي؛ حيث شفت الهزائم المتتالية للبريطانيين على يد الثوار غليله ممن احتلوا بلاده، واعتبر هذا انتقاما إلهيا لما قامت به بريطانيا تجاه الثورة التي قادها في مصر.
وحين سيطر الثوار على الخرطوم في ٢٦ يناير ١٨٨٥، أصدر المهدي تعليماته لأتباعه بالمحافظة على حياة “غوردن” في حال أسره؛ لكي يفتدي به أحمد عُرابي على حد تعبيره.
وفي مارس من نفس العام كتب عُرابي خطاباً إلى زوجة صديقه المستشرق “ويلفريد بلنت” يؤكد فيه أنَّ بريطانيا “لم تكسب شيئا من محاولتها غزو السودان.. لقد خسرت كل شيء.. خسرت اسمها وسمعتها وخسرت كل المسلمين”.
ثم يمضي في رسالته لِيُذَكِّر بالضباط الإنجليز الذي قُتلوا في المعركة “لقد فقدت بريطانيا “غوردون” و”ستيوارت” و”هكس” و”إيرل”… وكم وكم غيرهم من الضباط البريطانيين”.
ويضيف “كما فقدت أيضا تعاطف كل القلوب بسبب حربها على ثورة التحرر في السودان”.
ويفيض عُرابي في مديح أهل السودان وشجاعتهم في ميدان المعركة فيقول “إنَّ السودانيين الشجعان أخذوا بالثأر لإخوانهم المصريين، وحموا بلادهم ضد الغزاة، ومنهم رجال يفضلون أن يتجرّعوا كأس الموت على أن يروا مستعمرا دخيلا عليهم داخل حدودهم؛ لقد بايع الشعب السوداني المهدي بالملايين على الموت من أجل الحرية، وكلما ازداد العدوان الإنجليزي عليهم كلما ازدادت قوتهم”.
ويخلص المؤرخان “ريتشارد ديكميجيان” و “مارغريت وزموريسكي” في كتابهما “كاريزما القيادة في الإسلام: مهدي السودان” إلى أنَّ عُرابي كان “من أبرز المتضامنين مع الثورة المهدية ضد البريطانيين وحلفائهم من الأتراك العثمانيين.. وقد عمل المهدي على مبادلته بـ “غوردون” قبل مقتل الأخير في الخرطوم.. كما كان ثناء الشيخ محمد عبده على المهدي وحركته ظاهرا ومعروفا تماما، كمجاهرة الشيخ المصلح جمال الدين الأفغاني بمساندته للثورة أيضا.. ولو قُدِّرَ للمهدي أن يعيش أكثر؛ لكان من الممكن جدا أن تشكل الحركة المهدية تهديدا حقيقيا على سيطرة بريطانيا على مصر”.
وبالفعل سعى عبد الله التعايشي خليفة المهدي إلى غزو مصر واصطدم الجيش الذي سيره إلى “توشكى” في أغسطس 1889، بالجيش المصري بقيادة الانجليزي “جرنفل” في معركة أسفرت عن تراجع المهديين وشكلت بداية النهاية للدولة التي أسسوها في السودان.
وقد بقي عُرابي متعاطفا مع الثورة المهدية حتى بعد تراجعها حيث أدلى في يناير ١٨٩٢، بحديث لصحيفة بريطانية أكد فيه أنَّ الإنجليز إن غادروا السودان “ستغدو مصر والسودان دولة واحدة بحكم الدين واللغة والطباع ثم ذلك النيل الذي يربط حياتهما”.
ومن اللافت أنَّ هذه الصفحة الهامة من التضامن العربي والإسلامي؛ قد تمَّ التعتيم عليها في كلا البلدين – مصر والسودان- لصالح خطاب شوفيني متعصب يكرس كراهية كل بلد للآخر؛ ولعل استرجاع التضامن بين عُرابي والمهدي هي بداية تفكيك هذا الخطاب.
المصادر:
لطيفة محمد سالم – “عرابي ورفاقه في “جنة آدم”- دار الشروق- مصر- ٢٠٠٩.
عبد الرحمن الرافعي – “مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال”- دار المعارف – مصر – ١٩٨٣