في تمام الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم العشرين من فبراير من عام ١٩١٠، خرج رئيس الوزراء المصري آنذاك “بطرس غالي” من مكتبه في ديوان وزارة الخارجية؛ وهَمَّ أنْ يستقلَ عربته.. إلا أنَّ شابا غامضا اقترب من عربة “غالي” وتظاهر أنَّ لديه شكوى يودُّ أن يقدمَها إليه، ولكنه سرعان ما أخرج سلاحا أطلق منه عدة رصاصات أصابت رئيس الوزراء في مقتل.
هزَّ هذا الحادث القطر المصري بأكمله؛ خاصَّة أنَّ مصر لم تعرف اغتيال مسئول رفيع بهذا الشكل منذ أكثر من قرن؛ حين اغتال “سليمان الحلبي” طالب الأزهر الجنرال “كليبر” الفرنسي.
تمَّ إلقاء القبض على الشاب منفذ العملية، واتَّضح أنَّه يُدعى “إبراهيم الورداني” وأنَّه تلقى علومه في الصيدلة في سويسرا وإنجلترا؛ ثم عاد الى أرض الوطن وافتتح صيدلية في منطقة عابدين.
كان الورداني قبل هذه العملية من المنخرطين في العمل الوطني، ومن مؤيدي الحزب الوطني الذي كان يقوده في تلك الفترة الزعيم محمد فريد، وكان يكتب مقالات في جريدة الحزب “اللواء”.
أكدَّ “الورداني” في اعترافاته أنَّه قام بعملية الاغتيال بشكل منفرد دون معاونة من أحد؛ وأرجع إقدامه على اغتيال “غالي” إلى عدة أسباب؛ من بينها مشاركته في هيئة محكمة دنشواي التي أقامها المستعمر الإنجليزي عام ١٩٠٦، وحكمت على (٣٦) فلاحا مصريا ظلما بأحكام تراوحت بين الإعدام والسجن والجلد؛ ولأنَّه وافق على مدِّ امتياز شركة قناة السويس؛ ناهيك عن إعادته لعدد من القوانين المقيدة للحريات مثل قانون المطبوعات وقانون النفي الإداري عام ١٩٠٩.
أما السبب الأساسي للاغتيال فأرجعه “الورداني” إلى توقيع “غالي” اتفاقية الحكم الثنائي للسودان مع الاحتلال الانجليزي عام ١٨٩٩، والتي على العكس من اسمها جعلت بريطانيا تنفرد بحكم السودان، وصار حاكمه العام إنجليزيا وكذلك قائد القوات المصرية هناك.
وإجمالا وصف “الورداني” حكومة “غالي” في التحقيق الذي أُجْرِيَ معه بأنَّها “فاقدة للشرعية” ووصف سياسته بأنَّها “ضارة ببلاده”.
وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة هامة، وهي دور الحزب الوطني في هذه العملية؛ حيث أنَّ “الورداني” ورغم عضويته في الحزب؛ بدا حريصا على نفي أي صلة للحزب وزعيمه محمد فريد بهذا الأمر، إذ أكدَّ أنَّه القاتل الوحيد دون أن يشتركَ معه أحد، وحين اسْتَدْعَى “ثروت” باشا النائب العام، الزعيم “محمد فريد” لاستجوابه فيما يتعلق بهذه القضية– أكد “فريد” أنَّه التقى “الورداني” في جنيف حين كان الأخير يدرس هناك عام ١٩٠٦، وأنَّ علاقته به لا تعدو علاقته بأي عضو من أعضاء الحزب الوطني.
ويؤكد كل من الدكتور “خالد عزب” و”صفا خليفه” في كتابهما عن “الاغتيالات السياسية في مصر” أنَّ الحكومة –فيما يبدو– وجدت في علاقة “الورداني” بالحزب فرصة من أجل تصفية الحسابات، فوجهت تهمة الاشتراك في الجناية إلى عدد من شباب الحزب، وتم اعتقال عدد كبير منهم.
أحيل “الورداني” إلى المحاكمة التي قضت بإعدامه في ١٣ مايو عام ١٩١٠، وفي يونيو من نفس العام اقتيد “الورداني” من محبسه إلى غرفة الإعدام حيث قابل الموت برباطة جأش وثبات شديد وكانت آخر كلماته هي “أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وأنَّ الحرية والاستقلال من آيات الله” ثم تمَّ تنفيذ الحكم.
تحوَّل “الورداني” إلى رمزٍ في الذاكرة الشعبية المصرية وامتدحه الشاعر “علي الغاياتي” في ديوانه “وطنيتي” فقال:
“مالي أراهم مهرعين إلى الفتى
وأراه لا يبغي فرار جبانِ
نالوه بالشر الذي يرضيهم
وجنوا عليه وهو ليس بجان”.
وانتشرت صبيحة يوم إعدام “الورداني” أغنية شعبية تقول كلماتها “”قولوا لعين الشمس ما تحماشى
لحسن غزال البر صابح ماشي”.
وهي الأنشودة التي تحولت بعد ذلك إلى أغنية شهيرة في ستينات القرن العشرين.