مقدمة:
مما لاشك فيه أنَّ فلسفة “ديكارت” تُمثِّل علامةً فارقةً في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث، ولما لا و”ديكارت” يعتبر مؤسس المذهب العقلي في الفلسفة الحديثة، ورائد من رواد التنوير الأوروبي؛ لذا استحق بجدارة لقب أبو الفلسفة الحديثة، وليس أدلَّ على ذلك من ظهور تيار معاصر في الفكر الفلسفي يعرف بـ “الديكارتية” الحديثة، وهو محاولة لإحياء مبادئ الفلسفة “الديكارتية”. ولعلنا نشير هنا إلى حقيقة واقعية وهي أنَّ جوهر فلسفة “ديكارت” يقوم على المبدأ الشهير “أنا أفكر إذن أنا موجود” أو ما يعرف بـ “الكوجيتو الديكارتي” تلك القاعدة أو هذا المبدأ الذي أقام عليه ديكارت فلسفته بأسرها. فـ”الأنا” المفكرة هي الأساس الذي انطلق منه “ديكارت” في إثبات حقائق الوجود الكبرى: الله، العالم، النفس. ولعلنا نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة قد يغفل عنها الكثير من قراء فلسفة “ديكارت” وهي أنَّ الذات المفكرة أو الأنا تشمل وتتضمن كل العمليات السيكولوجية من تفكير وإدراك وذاكرة وإرادة وحكم و غيرها من العمليات العقلية. فالكوجيتو كما يؤكد “ديكارت” في كتابه الشهير “مقال عن المنهج” “هو من الرسوخ بحيث لا يستطيع أحد من “الارتيابيين” أي الشُّكَّاك أن يزعزع تلك القاعدة مهما كان في فروضهم من شطط، ولذا حكمت أنَّني أكون مطمئنا أن اتخذها أصلا للفلسفة التي كنت اطلبها”.
أولا من ظلمة الشك إلى نور اليقين :
لعله من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أنَّ نقطة الانطلاق الأساسية في المشروع الفكري عند “ديكارت” إلى جانب الأنا، هو الشك في جميع الأحكام والآراء المسبقة التي يعتنقها المرء طوال حياته؛ بُغْيةَ تأسيس حقيقة راسخة يبني عليها مشروعه الفلسفي. فالشك عند “ديكارت” يمثل مراجعة دقيقة لحياة الإنسان من أفكار ومعتقدات تلقاها منذ مراحل حياته وصارت حقائق بالنسبة له، وينبغي أن تمتحن وتوضع موضع الشك. ومن هنا استخدم “ديكارت” الشك كمنهج لتجريد نفسه من كل ما تلقاه منذ نعومة أظفاره، حيث تبتدئ تلك الآراء والحقائق مضطربة حائرة بين ثنايا العقل، لذا نجده يقول: “لهذا قررت أن أحرر نفسي مرة في كل حياتي من جميع الآراء التي آمنت بها وأن ابتدي الأشياء من أسس جديدة”. وهنا يظهر أنَّ هدف “ديكارت” ليس الشك من أجل الشك بل هدفه هو مراجعة للذات من كل أو جميع ما آمنت به من أراء ومعتقدات من أجل بناء قواعد راسخة وثابتة، فهو شك من أجل إعادة البناء.
ثانيا: شرنقة استعلاء الأنا :
لعل السؤال المحوري هنا كيف تمكَّن “ديكارت” من الانتقال من حالة الشك إلى اليقين؟ الإجابة عن طريق “الكوجيتو” أو القاعدة الشهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود” التي تعد نقطة الارتكاز في مشروع “ديكارت” الفكري. فمن خلال “الكوجيتو” استطاع “ديكارت” أن يجرِّد نفسه من كل ما هو جسدي مادي؛ ليرى أنَّ كل وجوده يقوم على البعد الفكري وليس البعد المادي المحسوس. وهنا أحدث “ديكارت” نقلة نوعية ومحورية في الفلسفة، وانتقل من الأسئلة التي تتمحور حول اللاهوت والإيمان إلى السؤال عن طبيعة الأنا، “ما طبيعة تلك الأنا المتعالية؟”. لذا ينفي “ديكارت” تعريف الإنسان بأنَّه حيوان عاقل، بل “أنا” مفكرة، كما أنَّه في “الكوجيتو” حاول أن ينفي جميع الصفات التي نسبها للبدن، ويؤكد على صفة التفكير لـ”الأنا”. و
في هذا السياق نشير الى أهمية “الكوجيتو الديكارتي” في إثبات أنَّ الذات الإنسانية شرطٌ ضروريٌ للمعرفة، كما أنَّها ذاتٌ حرةٌ. أيضا “الكوجيتو الديكارتي” يعلمنا التفكير ويقودنا إلى الاكتشاف والإبداع الذاتي، كما أنَّه يمنعنا من الركون إلى الأحكام المسبقة والنتائج الجاهزة. ورغم تلك الأهمية الكبيرة لـ “الكوجيتو الديكارتي” إلا أنَّ له نقائص وعيوب ومآخذ، لعل من أبرزها أنّه يُرسِّخ ويؤسس لـ “أنا” متعالية فردية وأنانية مفرطة في الشخصية الإنسانية. فهو يضخم من الذات الإنسانية ويجعل الفرد يُعظِّم ذاته، ويرى نفسه هو الكائن الوحيد والمتفرد في الكون. كما أنَّ “الكوجيتو” يجعل “الأنا” متعالية متعاظمة وغير متفاعلة مع الوجود، وكأنَّها شرنقة مكتفية بذاتها عن الاخرين. كما أنَّ “الكوجيتو” يحرض على نسيان الوحدة المرتبطة بالشخصية والعقل. كما يؤدي “الكوجيتو” إلى أنانية سياسية ليبرالية –أيضا– ذات نظام اقتصادي وسياسي أناني. ومن هنا إذا نظرنا إلى العقل الأناني المستكفي بذاته، فإنَّنا نرى أنَّ “ديكارت” سيؤسس فلسفة العصر الحديث، فلسفة الاكتفاء بالذات أو كما نسميها نحن الشرنقة الذاتية. وفي هذا السياق نؤكد على حقيقة مهمة وهي أنَّ تلك النزعة الأنانية التي أسسها “ديكارت” من خلال “الكوجيتو” أو النظرة الاستعلائية لـ “الأنا” ستصبح مذهبا فيما بعد أو بالفعل أصبحت مذهبا له أنصاره ومعتنقوه في الفكر الفلسفي، وهو مذهب الفردية أو الأنانية. التي يجعل الذات والأنا هي المحور الأساسي للوجود والتي يدور في فلكها كل الموجودات الأخرى في الكون. وهذا المذهب يسبب نظرة متعالية لـ “الأنا” أو الفرد ويجعل الحياة فيها ركود وجمود وعدم تطور؛ لأنَّ المجتمعات لا تتطور إلا بالتفاعل بين الفرد والمجتمع. كل منهما له حقوق وعليه واجبات إذا تم ذلك سوف تسير عجلة الحياة إلى الأمام. وتتطور المجتمعات وتنمو وتحقق ما تصبو إليه من أمال وطموحات.