أحيا محرك البحث الشهير “جوجل” على طريقته الخاصة ذكرى ميلاد الشاعر السوداني الكبير محمد مفتاح الفيتوري والذى عُرف بلقب شاعر العروبة وإفريقيا –بوضع صورته على صفحته الرئيسية حيث ولد في 24 نوفمبر عام 1936.
لم يغب الفيتوري أبدا عن المشهد السوداني رغم رحيله في 24 أبريل عام 2015، وقد تنبَّأ الرجل في أشعاره بأنَّه سوف يظل حيا في الوجدان قبل أن يرحل بجسده تاركا أبياته على ألسنة الكثيرين داخل السودان وخارجه ومن أبياته الخالدة
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لا تحفروا لي قبرا
سأرقد في كل شبر من الأرض
في كل الثورات التي شهدها السودان كانت أبيات الفيتوري تتردد بقوة على ألسنة الراغبين في التغيير، توقد جذوة حماسهم، وتنير لهم ظلمة طريق؛ ربما تتوه فيه خطاهم أو يتفرق شملهم ولكن الفيتوري في الثورة الحالية كما في الثورات السابقة كان يتولى تحديد البوصلة وشحذ الهمم بشعره ومن الأبيات التي تداولها السودانيون خلال التظاهرات الكثيرة التي شهدتها البلاد مؤخرا له.
يا أخا أعرفه.. رغم المحن
إنني مزقت أكفان الدجى
إنني هدَّمت جدران الوهن
لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن
لم أعد عبد قيودي
لم أعد عبد ماض هرم
جاءت ثورة السودانيين الأخيرة لتعيد الكثير من قصائد الرجل إلى الواجهة مرة أخرى يرددها الشباب بحماس منقطع النظير ويتصورون معه أن هذه الأبيات قد صيغت فيهم وعنهم رغم أن قريحة الشاعر الكبير قد جادت بها منذ زمن طويل.. ولكنه دائما كان مرتبطا بقضايا وطنه الذى كان يعيش فيه داخل أعماقه ويحتضنه في قلبه.. ورغم سنوات غربته الطويلة عنه، كان الفيتوري واحدا من أكثر من تغنوا بالسودان وحبه عبر التاريخ.
أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي
وإذا الفجر له جناحان يرفلان عليك
وإذا الحسن الذى كحل هاتيك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذى بعثرنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي.
هكذا يردد السودانيون اليوم كلمات الأغنية الشهيرة للمطرب محمد وردي والتي صاغها الفيتوري وهم يتطلعون إلى غد أفضل بعد ثورتهم علي نظام البشير.
الفيتوري الذى تحل اليوم الذكرى الـ85 لميلاده نبت من طينة أرض السودان الطيبة؛ حيث ولد عام 1936، في الجنينة بولاية غرب دارفور؛ لأب صوفي ينتمى إلى الطريقة الشاذلية هو الشيخ مفتاح رجب الفيتوري.. وقد انتقل الفيتوري في سن مبكرة إلى مصر؛ حيث درس بأحد المعاهد الدينية بالإسكندرية، وأتم حفظ القرآن الكريم قبل أن يلتحق بعد ذلك بكلية دار العلوم التي تخرج فيها.
فور تخرجه بدأ الفيتوري حياته العملية كمحرر أدبى بصحف مصرية وسودانية، كما عمل بعد ذلك بوظيفة خبير بجامعة الدول العربية بالقاهرة، قبل أن يعمل بوظيفة مستشار ثقافى في السفارة الليبية بالقاهرة.
لم يكن طريق الفيتوري أبدا مفروشا بالأزهار؛ ففي عام 1974، فوجئ بإصدار الحكومة السودانية قرارا بتجريده من جنسيته وسحب جواز سفره؛ بسبب مواقفه المعارضة لنظام الرئيس جعفر النميري.. منحه الرئيس معمر القذافي جواز سفر ليبي؛ لكنه سحب منه مع سقوط النظام الليبي في 2011، فانتقل الفيتوري للمغرب للعيش مع زوجته المغربية. أما جواز سفره السوداني فلم يسترده إلا قبل عام من وفاته وتحديدا في عام 2014، وكان في حينها طريح الفراش يعانى من عدة أمراض تمكنت من جسده الذى أصابه الوهن الشديد بعد أن ظل يصول ويجول في معارك شتى خاضها على كافة الجبهات.
ويعد الفيتوري واحدا من رواد الشعر الحديث.. إذ كانت إفريقيا حاضرة في وجدانه بقوة حيث عبَّر بشعره عن المحن التي عاشتها شعوب القارة، ومسيرتها للتحرر من نير الاستعمار والتبعية.. وقد أصدر الفيتوري أربعة دواوين تتناول قضايا القارة.. وهو ما دفع البعض إلى وصفه بشاعر إفريقيا أو رجل إفريقيا وهذه الدواوين هي: “أغاني إفريقيا” صدر عام 1955، و”عاشق من إفريقيا” عام 1964، و “اذكريني يا إفريقيا” عام 1965، و”أحزان إفريقيا” عام 1966.
جبهة العبد ونعل السـيد
وأنين الأسود المضطهد
تلك مأساة قرون غبرت
لم أعد أقبلها لم أعد
ولم تغب العروبة أبدا عن شعره فقد حمل هموم وطنه العربي منذ وقت مبكر حيث يقول:
لقد صبغوا وجهك العربي
آه… يا وطني
لكأنك، والموت والضحكات الدميمة
حولك، لم تتشح بالحضارة يوما
ولم تلد الشمس والأنبياء.
وعقب إعلان وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.. كتب الفيتوري قصيدة رثاء بعنوان: “القادم عند الفجر” قال فيها:
الأن وأنت مُسَجَّى
أنت العاصفة.. الرؤيا.. التاريخ.. الأوسمة.. الرايات.
الآن وأنت تنام عميقًا
تسكن في جنبيك الثورة.
كمت تفاخر الرجل بأصوله الإفريقية، ولم يشعر في أي لحظة من اللحظات أنَّه يحمل في جيناته وتكوينه ما يمكن أن يدفعه إلى الخجل، وفى هذا يقول عن نفسه “مملوك ولكنى سلطان العشاق”.
أربعة أبعاد ساهمت في تكوين الفيتوري، وانطبعت في شعره بوضوح شديد؛ فهو العربي الذى نشأ في بيت متصوف يفاخر بانتمائه الإفريقي، وهو الثائر على الاستعمار والاستبداد اللذين كانا سببا في الكثير من نكبات بلده وأمته.
لم يكن مع هذا كله من الغريب أن يموت الرجل في المغرب، حيث كان يعيش أيامه الأخيرة مع زوجته المغربية وأن تبقى غربته ممتدة حتى أخر يوم في عمره بعد أن دفع ثمنا كبيرا للكثير من مواقفه التي كان يفضِّل فيها أن ينحاز لقناعاته، وأن يغرِّد خارج السرب مهما كلفه ذلك من ثمن فادح.
تزوج الرجل ثلاث مرات كانت الأولى بامرأة فلسطينية، وكان في حينها ما يزال طالبا والثانية كانت بالممثلة السودانية “آسيا عبد الماجد” أما الثالثة فكانت من المغربية “رجات أرماز” التي رافقته حتى وفاته.